رواية 1984 لجورج أورويل : القسم الثامن


لم یكن ونستون متأكداً، وحتى بعد تلاقي شعاع عیونھما في ذاك الیوم، ما إذا كان أوبراین عدواً أم صدیقاً،

بل حتى ھذا التحدید لم یبد ذا أھمیة كبیرة له. لقد جمعھما رباط من التفاھم، رباط أقوى من رباط العاطفة أو الحزبیة، «سنلتقي یوماً حیث لا یكون ظلام». لم یكن ونستون یفھم ما الذي یعنیه بھذا القول، لكنه كان یعتقد بأنه بطریقة أو بأخرى سیأتي ھذا الیوم.
توقف الصوت المنبعث من الشاشة، وملأت ھواء الغرفة الساكن موسیقى صوت بوق جمیل وصاف. ثم عاد ذلك الصوت الذي یثیر الأعصاب، یقول:
«انتباه، من فصلكم أعیروني انتباھكم، وردنا تواً نباً ھام من جبھة مالابار. إن قواتنا في جنوبي الھند قد أحرزت انتصاراً باھراً. لقد خولتني السلطات أن أعلن أن تقدمنا على ھذه الجبھة، والذي نذیعه لكم الآن، سیمكننا من وضع نھایة لھذه الحرب، فإلیكم ما ورد في ھذه الإشارة ...»
وھنا خطر ببال ونستون أنھا مقدمة لأنباء سیئة. وھكذا كان، إذ بعد الوصف المروع لعملیة الإبادة التي لحقت بجیوش أوراسیا، والأرقام المذھلة لأعداد القتلى والأسرى، أردف البیان بأنه ابتداء من الأسبوع القادم سیتم خفض حصة الفرد من الشوكولا من ثلاثین غراماً إلى عشرین. ھنا تجشأ ونستون ثانیة، كان مفعول الشراب آخذاً في الزوال مخلفاً شعوراً بالخزي. أمام الشاشة، ربما احتفالاً بالنصر أو للتغطیة على نبأ تخفیض حصة الشوكولا، فقد انتقلت فجأة لبث نشید «یا أوقیانیا كل ھذا من أجلك». وكان من المفروض عندما تسمع النشید أن تقف في حالة الاستعداد، لكن ونستون لم یكن في مجال رؤیة الشاشة.
تَبِع نشید «یا أوقیانیا كل ھذا من أجلك»، موسیقى خفیفة. مشى ونستون نحو النافذة وظھره إلى شاشة الرصد. كانت السماء ما تزال صافیة والھواء بارداً. تناھى إلى سمعه صوت قذیفة صاروخیة انفجرت بعیداً محدثة دویاً رج الأرض رجاً. لم یكن ذلك غیر مألوف، ففي الوقت الحاضر یسقط ما بین عشرین وثلاثین من أمثال ھذه القذائف على لندن أسبوعیاً.

في الشارع كانت الریح ما تزال تتلاعب بالصورة المعلقة، وكانت عبارة الاشتراكیة الإنجلیزیة المنحوتة بكلمة «اشانك» كما نحتت في قاموس اللغة الجدیدة تظھر وتختفي مع كل ھبة ریح. ومعھا المبادئ المقدسة التي تشیر إلیھا: التفكیر الازدواجي، إمكانیة تغییر الماضي.

وقد شعر ونستون وكأنه تائه في غابات قاتمة في أعماق البحار، وقد ضل في عالم وحشي، حیث ھو نفسه ذلك الوحش. لقد كان وحیداً. وكان الماضي میتاً، والمستقبل مجھولاً ولا یمكن حتى تصوره، كیف له أن یتأكد ما إذا كان ھنالك إنسان

یقف إلى جواره؟ وكیف له أن یعرف أن ھیمنة الحزب لن تدوم إلى أبد الدھر؟ وجواباً عما دار في خلده من تساؤلات، عادت

الشعارات الثلاثة المكتوبة على واجھة وزارة الحقیقة للظھور أمامه:
الحرب ھي السلام.
العبودیة ھي الحریة.
الجھل ھو القوة.
أخرج من جیبه قطعة نقود من فئة الخمسة والعشرین سنتیماً، كان على أحد وجھیھا ھذه العبارات نفسھا وقد نُقشت بأحرف دقیقة واضحة، بینما نُقش على الوجه الآخر وجه الأخ الكبیر. كانت عیناه، حتى من خلال قطعة النقود، تلاحقانك. على العملة، على الطوابع، على أغلفة الكتب، على الأعلام، على ألواح الإعلانات!، على علب السكاكر. في كل مكان ودائماً، عیناه تراقبانك وصوته یحیط بك. وسواء كنت مستیقظاً أو نائماً، تعمل أو تأكل، داخل منزلك أو خارجه، في الحمام أو في الفراش لا فرق، لا مھرب لك.

أنت لا تملك سوى تلك السنتیمترات المكعبة داخل جمجمتك.

مالت الشمس نحو الغروب فانحسرت عن نوافذ وزارة الحقیقة الكثیرة، والتي بدت كئیبة وأشبه بكوى في أسوار قلعة. كان قلبه یرتجف أمام ھذا الشكل الھرمي الضخم. رآه حصناً منیعاً لا یمكن اقتحامه، حتى إن آلافاً من القذائف الصاروخیة تعجز عن النیل منه. مرة ثانیة تساءل لمن یكتب ما یكتبه في مفكرته، أتراه یكتب للمستقبل أم للماضي، أیكتب لعصر ربما لن یوجد إلا في خیالاته؟

وأمام عینیه لم یكن الموت فحسب یقف متربصاً، بل الفناء. والمفكرة ستتحول إلى رماد وھو نفسه سیموت ویتحول إلى بخار. لن یكون ھنالك أحد غیر شرطة الفكر یقرأ ھذه الأفكار وذلك قبل أن تمحوھا من الوجود والذاكرة معاً. كیف یمكن أن تكتب للمستقبل، إذا كان لا یمكن لأي أثر لك أن یبقى لھذا المستقبل، ولا حتى كلمة على قصاصة ورق مجھولة الكاتب.

دقت ساعة الشاشة الثانیة بعد الظھر، وعلیه أن ینصرف في غضون عشر دقائق لیعود لعمله مرة ثانیة في الدقیقة الثلاثین بعد الثانیة ظھراً.
أحس أن دقات الساعة بدت كأنھا قد بعثت في كیانه روحاً جدیدة، كان كشبح وحید یتمتم بینه وبین نفسه بالحقیقة دون أن یسمعه أحد على الإطلاق، ولكن ما دام یمكنه الاستمرار في ذلك فإن ھذه التمتمة ستتواصل، فلیس بمجرد إسماع الآخرین صوتك بل ببقائك سلیم العقل یمكنك مواصلة حمل التراث الإنساني. عاد ونستون إلى الطاولة وجلس على الكرسي ثم تناول القلم وبدأ یكتب:

«إلى المستقبل أو الماضي، إلى الزمن الذي یكون الفكر فیه حراً طلیقاً، إلى زمن یختلف فیه الأشخاص عن بعضھم البعض ولا یعیش كل منھم في عزلة عن الآخر، إلى زمن تظل الحقیقة فیه قائمة ولا یمكن فیه لأحد أن یمحو ما ینتجه الآخرون.

وإلیكم، من ھذا العصر الذي یعیش فیه الناس متشابھین، متناسخین، لا یختلف الواحد منھم عن الآخر. من عصر العزلة، من عصر الأخ الكبیر، من عصر التفكیر المزدوج، تحیاتي!»
شعر آنذاك كأنه في عالم الأموات، وبدا له أنه في ھذه اللحظة فقط، لحظة بات فیھا قادراً على صیاغة أفكاره، قد اتخذ الخطوة الحاسمة. إن عواقب كل عمل تكمن في العمل نفسه، وكتب: «إن جریمة الفكر لا تفضي إلى الموت، إنھا الموت نفسه».
الآن وقد أدرك أنه میت لا محالة أصبح من الأھمیة له أن یبقى على قید الحیاة قدر ما یتاح له ذلك. نظر إلى یده فوجد أن إصبعین من یمناه كانتا ملطختین بالحبر. وھذه ھي بالضبط الأشیاء الصغیرة التي یمكن أن تشي بك. فربما بسبب ذلك یبدا بعض المتحمسین للحزب في الوزارة (امرأة مثلاً كتلك المرأة ذات الشعر الرملي أو تلك الفتاة ذات الشعر الأسود التي تعمل في دائرة الإثارة) في التساؤل لماذا، ما الذي یجعله ینصرف إلى الكتابة ساعة الغداء؟ ثم لماذا یستعمل ھذا النوع القدیم من الأقلام في الكتابة، ثم ما الذي كان یكتبه یا ترى! ثم ترسل بتلك التساؤلات إلى المسؤول المختص. فأسرع إذ ذاك إلى الحمام، وراح، بحرص، یزیل الحبر بتلك الصابونة الخشنة التي تقشط الجلد قشطاً وكأنھا صنعت خصیصاً لھذه الغایة. وبعد ذلك أعاد المفكرة إلى درج المكتب. لیس لأن إخفاءھا أمر ممكن، فمن العبث أن یفكر في ذلك، بل لیكون قادراً على معرفة

ما إذا كان أحد قد توصل إلیھا أم لا. إن شعرة یضعھا على نھایة تلك الصفحة یمكن كشفھا بسھولة، ولذلك التقط بطرف بنانه ذرة غبار أبیض ووضعھا على إحدى زوایا الغلاف، حیث یكفي مجرد تحریك المفكرة لإزاحتھا عن الغلاف.

كان ونستون یحلم بأمه. حرك ذاك الحلم ذكراھا في داخله، وفكر أنھا لا بد قد اختفت وھو بعد في العاشرة أو الحادیة عشرة من عمره. كانت امرأة طویلة ممشوقة القوام كتمثال، تمیل إلى الصمت، بطیئة الحركة، ولھا شعر أشقر جمیل. بعدئذ تذكر والده على نحو أكثر تشوشاً، فما یذكره عن والده أنه أسمر البشرة، نحیف، ویرتدي دائماً ملابس سوداء أنیقة (وأكثر ما یذكره

ونستون عن والده أنه كان ینتعل حذاء ذا نعل رقیق) ویضع نظارة على عینیه. وقد قضى والداه نحبھما في إحدى موجات التطھیر الواسعة التي جرت في الخمسینات.
في تلك اللحظة كانت أمه تجلس في مكان سحیق تحته وھي تحمل شقیقته الصغرى بین ذراعیھا. وأما شقیقته فلم یكن یتذكر شیئاً عنھا على الإطلاق فیما عدا أنھا كانت طفلة نحیلة، ضعیفة، دائمة الصمت وذات عینین واسعتین شاخصتین. كلتاھما كانتا تتطلعان إلیه. فكلتاھما كانتا في موضع ما أسفل الأرض، ربما في قاع بئر مثلاً أو في قبر عمیق، ولكنه، رغم بعد المكان عنه وعمقه، فإنه كان ما زال یھوي إلى أسفل.

كانتا على سطح سفینة تغرق وتنظران إلیه عبر ظلمة المیاه. كان ما یزال ھناك بعض الھواء الذي تتنفسانه، وما یزال باستطاعته أن یراھما وتریاه وكانتا تغرقان وتغرقان إلى الأعماق السحیقة حیث المیاه الخضراء التي ستواریھما عن الأنظار إلى الأبد. كان ھو في الھواء الطلق وتحت أشعة الشمس، أما ھما ففي الماء الذي یشدھما نحو الموت. لقد كانتا حیث ھما لأجل أن یكون ھو في مكانه الذي ھو فیه. كان یدرك ذلك كما تدركانه، ویراه على وجھیھما. لم یكن ھنالك ملامة على وجھیھما أو في قلبیھما نحوه، كأنھما تعرفان أنه كان یجب أن تموتا من أجل أن یظل ھو على قید الحیاة. وكان ھذا جزءاً من مسار لا مفر منه.

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك