رواية 1984 لجورج أورويل : القسم الثالث والعشرون


اتسع الممر، وما هي إلا دقیقة حتى وجد ونستون نفسه أمام الطریق الذي حدثته عنه الفتاة. وكان مجرد طریق للماشیة یمتد بین شجیرات قصیرة. لم یكن ونستون یحمل ساعة ولكنه كان یقدر أن الوقت لم یبلغ الثالثة مساء بعد. وكانت الزهور الزرقاء التي تشبه الأجراس تكسو الأرض بشكل كثیف للغایة إلى حد یستحیل معه ألا یطأها المرء بقدمیه. ركع ونستون على ركبتیه وجعل یقطف بعضها لیقتل الوقت من ناحیة ولأنه من ناحیة أخرى كانت تراوده فكرة غامضة وهي أن یقدم للفتاة باقة من الزهور لحظة

لقائه بها. وكان ونستون قد جمع باقة كبیرة وراح یشم رائحتها الزكیة عندما أتاه صوت من ورائه جمد الدم في عروقه. كان الصوت صوت وقع أقدام تطأ الحشائش. ولكنه تجاهله وواصل قطف الزهور غیر مكترث إذ ارتأى أن ذلك هو أفضل ما یمكنه عمله. وراح یفكر فیمن یكون هذا القادم، ربما كانت الفتاة وربما كان شخصاً آخر یتعقب خطاه. ولأن تلفته حوالیه كان من شأنه أن یثیر الشكوك حوله، فقد راح یقطف زهرة تلو أخرى حتى أحس بید تربت على كتفه برقة.

رفع وجهه فإذا بالفتاة أمام عینیه. وأشارت إلیه محذرة من أن یتفوه بكلمة، ثم شقت طریقها عبر الشجیرات لتنفذ إلى داخل الغابة عبر ممر ضیق. لم یكن ثمة شك في أنها سارت في هذا الممر من

قبل، إذ كانت تروغ من البقع الموحلة كما لو كانت تفعل ذلك بحكم الأُلف والعادة. وتبعها ونستون وهو ما یزال یقبض على باقة الزهور. في البدء شعر ونستون بالارتیاح، بید أن مراقبته لهذا القوام الممشوق القوي وهو یتبختر أمام عینیه وقد شد على الخصر ذلك الزنار القرمزي شداً یبرز مفاتن الردفین قد كرست لدیه الشعور بالدونیة وخیل إلیه أنها ربما تراجع نفسها في ما هي مقدمة علیه إن هي استدارت ونظرت إلیه. لكن عذوبة الهواء وخضرة أوراق الربیع كانتا قد ملأتاه رهبة. وكانت شمس أیار في المسافة التي قطعها من المحطة قد أثارت لدیه شعوراً بالخجل من قذارته وشحوبه، كمخلوق لا یرى الشمس، وقد انسدت مسام جلده بفعل سخام لندن الذي یكسوها. وتنبه إلى أن الفتاة ربما لم تره حتى الآن في وضح النهار حیث الضوء الساطع. وبلغا الشجرة المتداعیة التي حدثته عنها فتجاوزتها الفتاة وشقت لنفسها طریقاً بین الشجیرات التي بدت مسدودة، وسار ونستون في أثرها،

وسرعان ما وجد أنهما یقفان في مرجة من العشب الأخضر الصغیر تحیط بها أشجار وارفة الظلال تحجب الرؤیة. هنا توقفت الفتاة ثم التفتت قائلة:
- ها نحن قد وصلنا.
وقف محدقاً فیها تاركاً بینه وبینها خطوات، فهو لم یجرؤ على الاقتراب منها لأكثر من ذلك.
واستطردت تقول: «لم أشأ أن أحدثك بشيء ونحن في الطریق خشیة أن یكون ثمة میكروفون مخبآ في مكان ما. وإن كنت أعتقد أن لیس هناك شيء من ذلك ولكن یجب أخذ الحیطة على أي حال،

فاحتمال التقاط صوتك وتمییزه من قبل أحد الأوغاد یظل احتمالاً قائماً على الدوام. أما هنا فنحن في أمان.
ولم یجد ونستون في نفسه من الشجاعة ما یكفي لیتجرأ به على الدنو منها حتى الآن.
فجعل یردد عبارتها في غباء: «هنا نحن في أمان».
«أجل.. انظر حولك إلى الأشجار.»
كانت أشجار دردار صغیرة قطعت في یوم من الأیام ثم عادت فنبتت من جدید مكونة غابة من القضبان التي لا تزید سماكة واحدها على سماكة معصم الید. وأضافت الفتاة: «لا توجد أشجار

كبیرة یمكن إخفاء میكروفون فیها. عدا عن ذلك فقد جئت إلى هذه البقعة من قبل».
كان ذلك تمهیداً لبدء حدیثهما. وتغلّب ونستون على ما تملّكه من رهبة ودنا منها. كانت تقف أمامه منتصبة القامة وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة باهتة ومفعمة بالسخریة وكأنها تتساءل عن

سبب إحجامه عن أي فعل حتى الآن. وهنا حدث أن سقطت باقة الزهور التي بین یدیه أرضاً وبدا أنها قد سقطت من تلقاء نفسها،

فأمسك بیدها وقال: « َأو تصدقین لو قلت لك إنني لم أعرف لون عینیك حتى الآن؟» ولاحظ للتو أنهما بنّیتان أو بالأحرى فیهما ظلال بنیة خفیفة أما أهدابهما فكانت سوداء. وسألها: « أما وقد رأیتني في وضح النهار، فهل ما زلت تحتملین النظر إلى وجهي؟»
- أجل بسهولة.
- إنني في التاسعة والثلاثین من عمري، ومقترن بزوجة لا أستطیع التخلص منها وأعاني من الدوالي ولي خمسة أسنان اصطناعیة.
فقالت الفتاة: «إن هذا لن یقلل من اهتمامي بك».

وفي اللحظة التالیة، ودون أن یدري من منهما بادر بذلك، كانت الفتاة بین ذراعیه. في البدایة لم یكن ونستون یصدق ما یجري. فها هو الجسد الغض مشدود على جسده، والشعر الأسود یغطي صفحة وجهه، ورفعت الفتاة وجهها فأخذ یمطر شفتیها الحمراوان بالقبلات، وأحاطت عنقه بذراعیها وهي تنادیه بمعسول الكلمات.

جذبها إلى الأرض فلم تبد أي مقاومة، فكان باستطاعته أن یفعل بها ما یحلو له. لكن الحقیقة أنه لم یكن لدیه أي رغبة جسدیة تذهب إلى ما هو أبعد من مجرد التماس بینهما. فقد استولت علیه مشاعر الزهو وعدم التصدیق. كان مسروراً بما یحدث لكنه لم یكن یشعر بأیة رغبة جسدیة. لقد حدث كل شيء بسرعة خاطفة إلى حد أن شبابها وجمالها قد أرهباه، بعد أن كان قد أَِلف العیش بدون نساء - وهو یجهل سبب ذلك. وقامت الفتاة عن الأرض واستلّت زهرة من شعرها، وجلست ملاصقة له وهي تلف ذراعها

حول خصره وقالت:
«هدئ من روعك یا عزیزي. لسنا في عجلة من أمرنا. وما زال لدینا متسع من الوقت. ألا ترى أن هذه الخلوة رائعة. لقد اكتشفتها عندما ضللت طریقي ذات مرة في إحدى الرحلات الجماعیة. ولو جاء أحدهم لأمكننا سماع وقع خطاه وهو على بعد مائة متر.»
سألها ونستون: «ما اسمك؟»
فأجابت: «جولیا. إنني أعرف اسمك، إنك ونستون! ونستون سمیث».
- وكیف تسنى لك معرفة ذلك؟
- أظن أنني أبرع منك في اكتشاف الأشیاء یا عزیزي. هل أخبرتني بمشاعرك نحوي قبل أن أعطیك الرسالة في ذلك الیوم؟
لم یشعر ونستون بأي دافع للكذب علیها، وكان یعتقد أن أفضل بدایة لحبهما هو أن یفضي إلیها بأسوأ ما كان یكن لها.
فأجاب: «كنت أكره مجرد رؤیتك، وراودتني كثیراً الرغبة في اغتصابك ثم قتلك بعد ذلك. بل ومنذ أسبوعین كنت أفكر جدیاً في تحطیم رأسك بحجر. وإذا كنت تودین معرفة السبب، فقد ظننت أن

بینك وبین شرطة الفكر رباط ما».
ضحكت الفتاة مبتهجة، إذ اعتبرت ذلك ثناء على براعتها في التخفي.
وقالت: «هل حقاً ظننت أنني أعمل مع شرطة الفكر؟ أوكنت جاداً في ذلك الظن؟»
فأجاب: «قد لا یكون ذلك بالضبط. ولكن مظهرك العام وكونك في ریعان شبابك ومتعافیة وجمیلة، جعلني أظن أن ذلك محتمل... »
قالت: «إذن كنت تظن أنني عضوة بالحزب وصادقة في قولي وفعلي. ولعلك اعتقدت أنني من الذین یشاركون في حمل الأعلام وتردید الشعارات والسیر في المسیرات والخروج في الرحلات الجماعیة وكل ما شابه ذلك. وظننت أنه لو سنحت لي أدنى فرصة للوشایة بك كمجرم فكر لفعلت ذلك حتى یقتلوك؟»
- نعم لقد خامرتني أشیاء من هذا القبیل. فكما تعلمین هناك فتیات كثیرات یقدمن على ذلك.
فقالت وهي تخلع الزنار القرمزي، شعار اتحاد الشبیبة المناهض للجنس وتعلقه على غصن شجرة: «إنها شرطة الفكر اللعینة هي التي تبث هذا الانطباع ». بعدئذ، وكما لو أن ملامستها لخصرها قد ذكرتها بشيء ما، تحسست جیب معطفها وأخرجت منه قطعة شوكولا وقسمتها شطرین وأعطت ونستون أحدهما. وقبل أن یمد یده أدرك من رائحتها أنها من نوع غیر عادي، فقد كانت ذات لون غامق ولامع وملفوفة بورق فضي. فالشوكولا التي یعرفها كانت ذات لون بني كئیب ومتفتتة وكان طعمها أشبه ما یكون بطعم الدخان المنبعث من حرائق أكوام القمامة. ومع ذلك فقد كان من حین لأخر یتذوق شوكولا مثل تلك الشوكولا. ولقد أهاجت من رائحتها ذكرى لم یستطع أن یستحضرها رغم كونها قویة ومربكة.
سألها: «من أین لك هذا؟»
فأجابت غیر عابئة: «من السوق السوداء». ثم استطردت: «إنني من الفتیات اللواتي یلفتن إلیهن الأنظار. إنني ریاضیة. كما أنني كنت قائدة زمرة في منظمة الجواسیس. وكنت أقوم بثلاث مهمات

تطوعیة كل أسبوع ضمن اتحاد الشبیبة المناهض للجنس. لقد كنت أمضي الساعات تلو الساعات أجوب أنحاء لندن لألصق ملصقاتهم اللعینة، وفي المواكب كنت دائماً أحمل طرفاً من الرایة، وكانت

مشاعر البهجة بادیة على محیاي دائماً ولم یحدث أن تهربت یوماً من شيء یُسنَد إلي، وأشارك الجماهیر في هتافها. إن هذه وحدها هي طریق السلامة».

وذابت أول قضمة من الشوكولا على لسان ونستون. كان الطعم لذیذاً. لكن ثمة ذكرى ظلت تتحرك في أطراف وعیه، ذكرى شيء یستشعره بقوة دون أن یستطیع قولبته في شكل محدد تماماً مثل جسم یراه المرء بطرف عینیه. وكان یحاول أن یطردها عنه وهو یعي أنها ذكرى شيء ما ود لو لم یفعله لكنه لم یستطع ذلك.
قال لها: «إنك لا تزالین في مقتبل عمرك. فأنت أصغر مني بعشر أو خمس عشرة سنة. فما الذي أعجبك في رجل مثلي؟ "

ردت قائلة: «إنه شيء ما في وجهك شجعني على خوض المغامرة. إنني ماهرة في اكتشاف الأشخاص الذین لا انتماء لهم.

فما إن رأیتك حتى أیقنت أنك ضدهم».
وأدرك ونستون أنها تعني الحزب بقولها (ضدهم)، وبالأخص قیادة الحزب التي كان حدیثها عنها ینم عن كراهیة ممزوجة بالسخریة، وهذا ما جعل ونستون یشعر بالقلق رغم علمه بأنهما أكثر أماناً في هذا المكان من أي مكان آخر. بید أن ما أدهشه هو خشونة عبارتها. فقد كان من المفترض أن أعضاء الحزب لا یتلفظون بالسباب، حتى إلى ونستون نفسه كان نادراً ما یفعل ذلك بصوت عال على الأقل. أما جولیا فقد بدا أنها لا تستطیع أن تأتي على ذكر الحزب، وعلى الأخص قیادة الحزب، دون أن تستخدم ذلك اللون من الكلمات التي تُرى مرسومة بالطباشیر على جدران الأزقة الضیقة الفقیرة. ولم یستقبح ونستون منها ذلك، فهذا علامة على ثورتها على الحزب وكل أسالیبه، بل ویبدو دلیلاً على العافیة والصحة، إنه أشبه بالحصان یعطس حین یشم رائحة دریس فاسد.

كانا قد تركا تلك البقعة الطبیعیة وأخذا یجولان ثانیة عبر الظلال المتقطعة وقد لف كل منهما ذراعه حول خصر الآخر كلما كان بإمكانهما أن یسیرا جنباً إلى جنب. ولاحظ أن خصرها قد غدا أكثر لیونة بعدما خلعت عنه الزنار القرمزي. كانا یتحدثان همساً.

فخارج البقعة وحسبما قالت جولیا، یحسن بهما أن یلتزما الهدوء.

وكانا قد بلغا حافة الغابة الصغیرة فاستوقفته قائلة:
- لا تخرج إلى الأرض المكشوفة، فقد یكون هنالك شخص یترصدنا. إننا نظل في أمان ما دمنا وراء أغصان الأشجار.
لقد كانا یقفان تحت ظل شجیرات البندق بینما كانت أشعة الشمس المتسربة عبر أوراق الشجر الغزیرة تلفح وجهیهما. وما إن نظر ونستون إلى الحقل الممتد وراء الغابة حتى أخذت جسمه رجفة بطیئة وغریبة، فقد عرف هذا الحقل بمجرد أن وقع بصره علیه. كان مرعى قدیماً مغطى بالعشب ویتخلله ممشى، وتلال الخلد هنا وهناك. وعلى الجانب الآخر من الحقل تدلت أغصان أشجار الدردار متمایلة مع النسیم وتتحرك أوراقها ببطء وكثافة وكأنها خصلات شعر امرأة. وفي مكان قریب، لكن خارج مجال النظر، لا بد أن هناك جدولاً ذا برك خضراء تسبح فیها الأسماك؟
وهنا همس متسائلاً: «ألا یوجد جدول ماء بالقرب من هنا؟»
- بلى، ثمة جدول عند حافة الحقل التالي. إن فیه سمك كبیر الحجم حتى لیمكنك أن تراه فوق صفحة البرك یحرك ذیله أسفل أشجار الصفصاف.

يتبع....

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك