رواية 1984 لجورج أورويل : القسم السابع والعشرون


أجاب ونستون: «ماذا؟»
قالت: «لن أستطیع المجيء بعد ظهر الغد».
قال: « ِولَم لا؟»
أجابت: «للسبب المعتاد نفسه، لقد بدأت الاستعدادات أبكر في هذه المرة».
وتملك ونستون غضب عارم. فخلال الشهر الذي مضى كان ثمة تغییر قد طرأ على طبیعة رغبته إزائها. في أول الأمر كانت مفعمة بالقلیل من الشهوة الحقیقیة، وكان أول لقاء حب یضمهما بمثابة عمل صادر عن إرادة لا رغبة. لكن ذلك تغیّر في المرة الثانیة، إذ إن رائحة شعرها وفمها وملمس بشرتها قد تغلغلت في جوانحه وملأت الهواء الذي یحیط به وأصبحت ضرورة بالنسبة إلیه، بل استحالت شیئاً لا یریده فحسب بل یشعر أیضاً بأن من حقه الحصول علیه. ولذلك فعندما قالت إنها لن تستطیع المجيء

ساوره شعور بأنها تخادعه، ولكن في هذه اللحظة ازداد ضغط الزحام فالتقت أیدیهما مصادفة، وشعر بها تضغط على أطراف أصابعه بشكل لا یثیر الرغبة بل یحرك العاطفة. وحدثته نفسه أن المرء حینما یعیش مع امرأة یجب أن یعتبر خیبة الرجاء هذه أمراًعادیاً وحدثاً متكرراً، وهنا شعر بعاطفة مشبوبة إزاءها كما لم یشعر من قبل. ومنّى نفسه لو أنه قد تزوجها قبل عشر سنوات،

ولو أنه كان یستطیع أن یمشي معها في الشوارع كما یفعلان الآن ولكن علانیة ودون خوف، ویتبادلان الحدیث حول التفاهات ویشتریان معاً احتیاجات بیتهما. وفوق كل ذلك تمنى لو كان لدیهما مكان یختلیان فیه معاً دون رقیب او حسیب وبغیر أن یكون لزاماً علیهما أن یمارسا الحب في كل مرة یلتقیان فیها. لم تكن فكرة استئجار غرفة السید شارنغتون قد خطرت له في تلك اللحظة، بل حدث ذلك في الیوم التالي، ولم یكد یعرضها على جولیا حتى قبلتها بسرعة لم یتوقعها. كان كلاهما یعي أن هذا عمل طائش، إذ كانا كمن یحفران قبریهما بمحض إرادتهما. وبینما كان یجلس على حافة السریر راح یفكر ثانیة في زنزانات وزارة الحب.

إنه لأمر غریب أن هذا الفزع المحكوم به على الإنسان یجتاح وعیه حیناً ویختفي حیناً، فهو یكمن هناك في المستقبل،

ویستبق الموت تماماً مثلما یسبق الرقم 99 المائة. فالمرء لا یستطیع تحاشیه وإن كان یستطیع إرجاءه، ومع ذلك فإن على المرء من حین لآخر أن یختار بمحض إرادته أن یقصر الفترة التي تسبق وقوعه.
وفي تلك اللحظة سمع ونستون وقع أقدام سریعة على السلم اندفعت على أثرها جولیا إلى داخل الغرفة، وكانت تحمل حقیبة أدوات من قماش خشن بني اللون مثل تلك التي كان یراها تحملها في أروقة من الوزارة. فنهض وتقدم نحوها لیأخذها بین ذراعیه ولكنها تخلصت منه بسرعة ربما لأنها كانت لا تزال تحمل الحقیبة.
وقالت: «لحظة من فضلك، دعني أریك ما أحضرت معي. هل أحضرت معك بن النصر البغیض؟ لا بد أنك فعلت. یمكنك أن ترمي به بعیداً لأننا لن نحتاج إلیه بعد الآن. انظر». ونزلت على ركبتیها وفتحت الحقیبة وأخرجت ما بها من مفاتیح ربط ومفكات كانت تغطي القسم الأعلى منها حیث كانت تضع تحتها عبوات ورقیة أنیقة. وكانت العبوة الأولى التي ناولتها إلى ونستون ذات ملمس غریب وغامض بعض الشيء، لقد كانت معبأة بمادة ثقیلة أشبه بالرمل.
قال: «ما هذا؟ سكر؟»
- إنه سكر حقیقي لا مكعبات السكرین. وهذا رغیف من الخبز -الخبز الأبیض الرائع، لا الخبز الكریه الذي یُعطى لنا. وها هي علبة صغیرة من المربى. وإلیك بعضاً من الحلیب. لكن انظر هذا هو الشيء الذي أفخر به حقاً، لقد اضطررت للفه بقطعة من الخیش لأنه...
ولم تكن ثمة حاجة لأن تشرح له لماذا اضطرت للف هذا الشيء،

فقد كانت رائحته قد ملأت الغرفة بالفعل وكانت رائحة غنیة ودافئة بدت وكأنها انبعاثات آتیة من عالم طفولته الأولى: رائحة لا تصادف المرء في الوقت الراهن إلا حینما تفوح من خلف باب موصد یطل على ممر أو تنبعث بطریقة ما في شارع مكتظ بالناس حیث یستنشقها المرء للحظة ثم تختفي ثانیة.
همس ونستون بدهشة: «إنه بُن، بُن حقیقي».
- إنه البن الذي یشربه أعضاء الحزب الداخلي. إلیك كیلو كاملاًمنها.
- ولكن كیف تسنى لك الحصول على مثل هذه الأشیاء؟
- إنها كلها مواد خاصة بالحزب الداخلي. لیس ثمة ما ینقص هؤلاء الأوغاد، ولكن بطبیعة الحال یستطیع الخدم والندل أن یسرقوا بعضاً منها خلسة... انظر لقد حصلت على عبوة من الشاي أیضاً
جلس ونستون القرفصاء بجانبها ومزق إحدى عبوات الشاي ثم صاح قائلاً: «إنه شاي حقیقي لا أوراق شجر العلیق».
وقالت جولیا بغموض: «لقد أصبح لدیهم كمیات كبیرة منه في الآونة الأخیرة كما لو كانوا قد احتلوا الهند أو شیئاً من هذا القبیل. والآن أصغ إلي عزیزي: إني أریدك أن تدیر ظهرك لثلاث دقائق.

اذهب واجلس على الجانب الآخر من السریر ولا تقترب من النافذة ولا تستدر نحوي إلا عندما أطلب منك ذلك».
وراح ونستون یحدق من خلال ستار الموسلین وهو غائب الذهن،

وكان یبدو أن المرأة ذات الساعدین حمراوي اللون لا زالت تروح وتجيء في الساحة بین وعاء الغسیل وحبل الغسیل. وأخرجت مشجبي غسیل من فمها وهي تغني بحس عمیق:
«یقولون إن الزمن یداوي كل الجراح
یقولون إن المرء بوسعه دائماً النسیان
بید أن الابتسامات والدموع عبر السنین
ما تزال حتى الآن تقطع نیاط قلبي»
كان یبدو أن المرأة تحفظ جمیع مقاطع هذه الأغنیة عن ظهر قلب. وأخذ صوتها یسري لأعلى محمولاً على أجنحة نسیم الصیف العلیل وعلى لحن رقیق مفعم بشعور ینم عن سعادة تخالطها الكآبة. وكان الناظر إلیها یخامره شعور بأنها ستكون راضیة كل الرضا لو أن أمسیة حزیران هذه قد امتدت بلا نهایة ولو أن ما لدیها من ثیاب مغسولة لا ینفد حتى تظل على حالها هذه لألف عام تعلق فیها حفاضات الأطفال وتردد الأغنیات التافهة. وتنبه إلى أن من غریب الحقائق أنه لم یسبق له أن سمع عضواً من الحزب وهو یغني وحده وبهذه التلقائیة، إذ كان ذلك قمینًا بأن یبدو شكلاً من أشكال عدم الولاء وانحرافاً عن مبادى الحزب وشذوذاً خطیراً یرقى إلى مستوى كلام المرء إلى نفسه. وربما لم یكن الناس یبحثون عن شيء للتغني به إلا حینما یصبحون على شفیر الموت جوعاً
مرت الدقائق الثلاث، فقالت جولیا: «یمكنك أن تستدیر الآن».

استدار ونستون وللحظة بدا له أنه لا یعرفها. وكان في الحقیقة یتوقع أن یراها عاریة، بید أنها لم تكن كذلك، فالتحول الذي جرى علیها كان أكثر إثارة للدهشة من التعري. ذلك أنها كانت قد طلت وجهها بمساحیق الزینة وتلویناتها.
لا بد أنها قد انسلّت إلى أحد الحوانیت الكائنة في أحیاء العامة واشترت لنفسها مجموعة من أدوات الزینة. كانت شفتاها قد ازدادتا احمراراً ووجنتاها قد توردتا وأنفها قد طاله شيء من المسحوق، بل وكان هناك أثر لشيء ما تحت عینیها یجعلهما أكثر بریقاً.

نعم، لم یكن قیامها بذلك كله قد تم ببراعة، ولكن مقاییس ونستون أیضاً في مثل هذه الأمور لم تكن رفیعة، إذ لم یسبق له أن رأى أو حتى تخیل امرأة من الحزب تصبغ وجهها بمساحیق الزینة. لقد كان التغییر الذي طرأ على مظهرها مثیرا للدهشة،

فهي لم تصبح أكثر جمالاً فحسب بل أیضاً، هو الأهم، أكثر أنوثة.

وقد زاد من روعة مظهرها هذا شعرها القصیر وزیها الصبیاني. وما إن ضمها بین ذراعیه حتى غمرت أنفه رائحة زهور بنفسج صناعي، وعادت به الذاكرة في الحال إلى العتمة التي كانت تخیم على المطبخ شبه المعتم سیّئ الذكر وإلى المرأة ذات الفم كالمغارة. ورغم أن عطر جولیا هو نفسه العطر الذي كانت

تستعمله تلك المرأة، لكنه في هذه اللحظة كان ذا أثر مغایر.
وصاح: «وعطر أیضاً!»
- أجل یا عزیزي، عطر أیضاً. هل تدري ما أنوي عمله في المرة التالیة؟ سوف أجيء بثوب نسائي حقیقي وألبسه هنا عوضاً عن هذه البنطلونات اللعینة! سوف ألبس أیضاً جورباً حریریاً وحذاء عالي الكعب. أرید أن أكون في هذه الغرفة امرأة لا رفیقة حزبیة.

ثم خلعا ملابسهما وقذفا بها بعیداً واعتلیا السریر الخشبي الضخم. كانت هذه هي المرة الأولى التي یتجرد فیها من ثیابه كاملة مع جولیا، فحتى تلك اللحظة كان ما یزال یشعر بخجل شدید من جسمه النحیل الشاحب وتلك الدوالي البارزة في بطتي ساقیه وكذلك البقعة المشوهة اللون فوق كاحله، ولم یكن فوق السریر أي شراشف سوى تلك البطانیة البالیة التي كانت خیوطها قد بلیت حتى أصبحت ملساء، وما إن رقدا علیها حتى تملكتهما الدهشة من ضخامة السریر ومرونة نوابضه.

وقالت جولیا: «لا ولب أنه محشو بالبق، لكن ذلك لا یعنینا في شيء!» لم یعد المرء یرى أسرة مزدوجة هذه الأیام اللهم إلا في بیوت العامة. لقد نام ونستون في واحد منها في صباه، أما جولیا فلا تتذكر أن فرصة كهذه أتیحت لها من قبل.
وللتو راحا في نوم عمیق لفترة وجیزة. وعندما استیقظ ونستون كانت عقارب الساعة قد زحفت حتى قاربت التاسعة مساء، لكنه لم یتحرك لأن جولیا كانت لا تزال نائمة متوسدة ذراعه. كانت معظم

مساحیق زینتها قد انتقلت إلى وجهه فضلاً عن الوسادة، لكن ثمة بقعة خفیفة من اللون الأحمر كانت لا تزال تبرز جمال وجنتیها.

وفوق مؤخرة السریر كان شعاع أصفر من أشعة الشمس الغاربة یسقط فینعكس ضوؤه على موقد النار حیث یغلي الماء في الإبریق. أما في الأسفل، في الساحة، فكانت المرأة قد كفت عن الغناء، إلا أن صیاح الأطفال في الشارع كان یتناهى إلى مسامعه عبر النافذة. وأخذ ونستون یتساءل في غموض عما إذا كان أمراً طبیعیاً في ماضي الأیام الغابرة أن ینام معاً، في سریر مثل هذا ووسط الجو المنعش لأمسیة صیفیة كهذه، رجل وامرأة وهما متجردین من كل ثیاب، یمارسان الحب متى شاءا ذلك ویتبادلان الحدیث متى شاءا، ودون أن یشعرا بأن ثمة ما یضطرهما إلى مغادرة فراشهما. هل كان أمراً عادیاً أن یضطجعا بكل بساطة لا یشغلهما إلا الإصغاء إلى الأصوات الهادئة الآتیة من الخارج؟

لا ریب أن شیئاً من ذلك لم یكن عادیاً في یوم من الأیام. وهنا استیقظت جولیا وفركت عینیها ثم رفعت نفسها متكئة على مرفقها ونظرت إلى الموقد الزیتي.
وقالت: « لقد تبخر نصف الماء، سأنهض وأعد بعض القهوة خلال لحظة. أمامنا ساعة بعد. في أي ساعة یقطعون الكهرباء عن شققكم؟»
- في الحادیة عشرة والنصف مساء.
- إنهم في نزلنا یقطعونه في الحادیة عشرة مساء، ولكن علینا أن نكون هناك قبل ذلك لأن... آه ما هذا؟ اخرج أیها الوحش القذر!
وألقت ببعض جسمها فجأة من فوق السریر حیث التقطت حذاء من على الأرض وقذفت به بحركة صبیانیة نحو زاویة من زوایا الغرفة، تماماً كما رآها تلقي بالقاموس في وجه غولدشتاین في ذلك الصباح أثناء «دقیقتي الكراهیة».
سألها بدهشة: «ما هذا؟»
- إنه جرذ رأیته یمد أنفه اللعین من ثقب في الغطاء الخشبي. لقد أخفته على أي حال.
- فغمغم ونستون: «جرذان! حتى في هذه الغرفة!»
فقالت جولیا غیر آبهة وهي تعاود الاضطجاع:
- إنها موجودة في كل مكان. حتى في مطبخ نزلنا، كما أن بعض المناطق في لندن تغص بها غصاً. هل تعلم أنها تهاجم الأطفال؟

نعم إنها تفعل. وفي بعض الشوارع لا تجرؤ أم على ترك طفلها بمفرده لدقیقتین. إن الجرذان الضخمة بنیة اللون هي التي تهاجم،

وأقبح ما یفعله هذا النوع من الجرذان هو أنها دائماً...
فقاطعها ونستون مغمضاً عینیه تماماً: «كفاك حدیثاً في هذا الموضوع».
- ما بالك یا حبیبي، لقد شحب لونك. ما الأمر؟ هل تصیبك رؤیتها بالغثیان؟
- إن أكثر ما یرعبني في هذا العالم هو الجرذان.
فضمته إلى جسدها وأحاطته بأطرافها كأنما أرادت أن تبث فیه الطمأنینة بدفء جسدها. لكنه لم یفتح عینیه مرة أخرى مباشرة،

فقد مرت به لحظات تملّكه خلالها شعور بأن ذلك الكابوس الذي كان لا یفتأ ینتابه من حین لأخر طوال حیاته قد عاوده من جدید.

لقد كان دائماً الكابوس نفسه الذي یرى فیه نفسه واقفاً أمام جدار من الظلام وعلى الجانب الآخر كان ثمة شيء لا یمكن احتماله، إنه شيء كریه على النفس لا یمكن للمرء مواجهته. وفي ذلك الحلم الكابوس كان ما یستحوذ علیه هو شعوره بأنه یخادع ذاته،

لأنه في واقع الأمر كان یعلم ما وراء هذا الجدار، وبجهد جهید، وكأنما ینتزع قطعة من مخه، كان یمكنه أن یخرج هذا الشيء إلى النور. بید أنه كان دائماً یستیقظ دون أن یكتنه هویة ذلك الشيء:

رغم أنه كان یبدو وكأن رابطاً ما یربطه بما كانت جولیا تتحدث عنه حینما قاطعها.
- إنني آسف، لا شيء، كل ما في الأمر هو أنني لا أحب الجرذان.
- هدئ من روعك حبیبي، فلن نبقي على هذه الحیوانات اللعینة هنا، سأحشو هذا الثقب بقطعة من الخیش قبل أن ننصرف، وفي المرة التالیة عند قدومنا سأحضر معي بعض الاسمنت وأسده على نحو مضمون.

يتبع....

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك