رواية 1984 لجورج أورويل : القسم الثاني والثلاثون


ارتعشت عینا مارتن الضیقتین وهو یحدق بوجهیهما، تماماً مثلما فعل عندما استقبلهما لدى الباب، ولم تكن في طریقته هذه أي علامة على الود والصداقة، وكان یحاول أن یرسخ في ذاكرته ملامحهما وإن كان لم یشعر بأي اهتمام بهما أو بدا كأنه لا یشعر بذلك،

وتنبه ونستون إلى أن وجهاً آلیاً كهذا ربما لا یقدر على تغییر تعبیراته. ثم انصرف مارتن دون أن ینبس بكلمة أو یلقي تحیة وداع علیهم وأوصد الباب خلفه بهدوء.

وكان أوبراین لا یزال یذرع الغرفة جیئة وذهاباً وقد دفن إحدى یدیه في جیب ثوبه الأسود بینما كان یحمل في الید الأخرى سیجارة، وأخیرا قال:«یجب أن تفهما جیداً أنكما ستقاتلان في الظلام، وستظلان دائماً في الظلام. ستتلقیان أوامر وما علیكما إلا السمع والطاعة ودونما أن تسألا لماذا.

وبعد فترة سوف أرسل لكما بكتاب یمكنكما من خلاله أن تفهما الطبیعة الحقة للمجتمع الذي نعیش فیه والاستراتیجیة التي نتبناها من أجل تقویض أركانه، وبعد أن تقرآ الكتاب ستصبحان عضوین كاملي العضویة في تنظیم الأخوة.

ولكن ما عدا الأهداف العامة التي نناضل من أجلها ومهام اللحظة الآنیة التي تسند إلیكما، لن تعرفا أي شيء على الإطلاق. وما أود تأكیده لكما هو أن حركة الأخوة موجودة، لكنني لا أستطیع أن أؤكد لكما ما إذا كانت تضم المئات أو الملایین من الأعضاء. وأما أنتما فمن خلال معلوماتكما الشخصیة فلن تقدرا عددها بأكثر من عشرة أعضاء، إذ ستقتصر اتصالاتكم على ثلاثة أعضاء أو أربعة یتغیرون من حین لأخر ثم لا یلبثون أن یختفوا لیحل محلهم آخرون. أما وإنني أول اتصال لكما فإن هذا سیظل قائماً لا یتغیر، وعندما تتلقیان أوامر فستكون صادرة عني، وإذا ما تبین لي أن من الضروري الاتصال بكما فسیكون ذلك عبر مارتن. وإذا ما ألقي القبض علیكما في نهایة الأمر فسوف تعترفان إذ لن یكون ممكناً تجنّب ذلك، بید أن ما ستعترفان به لن یتجاوز أعمالكما التي اقترفتماها، ولن یكون في مقدوركما أن تشیا بأكثر من حفنة من الأشخاص الذین لا قیمة لهم. بل وربما لا تستطیعان حتى أن تشیا بي لأنني وقتذاك ربما أكون في عداد الموتى وربما أصبح شخصاً آخر بوجه آخر».

وظل أوبراین یذرع الغرفة جیئة وذهاباً فوق السجادة الناعمة. وبالرغم من ضخامة جسمه فقد كانت حركاته رشیقة، تلك الرشاقة التي بدت في حركة یده وهو یدسها في جیبه أو ینقل بها السیجارة بین أصابعه. وكان أوبراین قد ترك في نفسیهما انطباعاً یوحي بثقة بالنفس وإدراك للأمور مفعم بالسخریة فضلاً عن القوة. ورغم مظهره الذي یوحي بالجدیة، لم تكن عقلیته تتسم بأي تعصب أحادي الاتجاه أو تعالي. وحینما كان یأخذ في الحدیث عن الاغتیال والانتحار والأمراض الجنسیة والأطراف المبتورة والوجوه المغیرة، كان یشوب لهجته شيء من التهكم، فكان یقول من بین ما یقول: «هذه أمور لا بد منها، إنها أمور یتعین علینا أن نؤدیها دون أن تطیرت لنا عین، ولكن لیس هذا هو ما سنقوم به حینما تصبح الحیاة خلیقة بأن تُعاش».

وشعر ونستون بموجة إعجاب، یُقارب العبادة، تجاه أوبراین، وفي هذه اللحظة كان قد تلاشى من مخیلته شبح غولدشتاین. وكان المرء حینما ینظر إلى أوبراین ببنیانه القوي ووجهه ذي الملامح القاسیة، الذي كان یبدو قبیحاً ومهذباً في آن معاً ، لا یمكن أن یتصور أن مثل هذا الشخص تمكن هزیمته، فهو كفء لمواجهة كل مشكلة، ولیس ثمة خطر لا یمكنه التنبؤ به، حتى جولیا أَسَرتْها شخصیته، إذ تركت سیجارتها تنطفئ وهي تصغي إلیه بجمیع جوارحها، بینما كان أوبراین مستطرداً في حدیثه:«لا بد أنكما سمعتما شائعات حول حركة «الأخوة» ووجودها، ولا ریب في أنكما رسمتما لها صورة في مخیلتكما، وقد تكونان خلتماها عالماً سریاً هائلاً من المتآمرین، یعقدون الاجتماعات خفیة في الأقبیة، وینقشون رسائلهم على الجدران ویتعارفون بكلمات سریة أو بإشارات متفق علیها بالیدین. لكن اعلموا أن شیئاً من هذا لیس له وجود،

فأعضاء الحركة لیس لدیهم أي وسیلة للتعارف ومن المستحیل على أي عضو أن یكشف هویة أكثر من بضعة أعضاء آخرین، وحتى غولدشتاین نفسه لو وقع في قبضة شرطة الفكر فلن یكون بمقدوره أن یعطیهم قائمة كاملة بالأعضاء أو أي معلومات تقودهم إلى القائمة الكاملة، فلیس لمثل هذه القائمة وجود، ولتعلما أن منظمة الأخوة لا یمكن استئصال شأفتها أبداً وذلك لأنها لیست منظمة بالمعنى المعروف للكلمة ولا یجمع بین أعضائها سوى فكرة تستعصي على التدمیر، ولن تجدا شیئاً یشد من أزركما غیر تلك الفكرة، كما لن تجدا تشجیعاً أو مواساة رفاقیة من أحد، وحتى عندما تُعتقلان في النهایة فلن یمد لكما أحد ید العون، فنحن لا نقدم على ذلك أبداً مع الأعضاء. وحینما یتبین لنا أن ضرورة قصوى تستوجب إسكات شخص ما من الذین ألقي القبض علیهم، فإننا في العادة نقوم بتهریب شفرة حلاقة إلى زنزانة السجین. ویتوجب علیكما أن تعتادا على العیش بلا أمل ودون انتظار لجني النتائج لأنكما ستناضلان لحین من الزمن، ثم یلقى القبض علیكما فتعترفان وتقادان إلى الموت.

تلك هي النتائج الوحیدة التي ستلمسونها لأنه لا یتوقع أن تحدث أي تغییرات محسوسة في المستقبل القریب، وفي ظل هذه الحال نحن أموات ّولا حیاة لنا إلا في المستقبل الذي سوف نسهم في بنائه كذرات غبار أو كشظایا عظام، ولكن كم یبعد هذا المستقبل عن حاضرنا؟ لا أحد یعلم، فربما یأتي بعد آلاف السنین، وما علینا في وقتنا الراهن إلا أن نوسع دائرة انتشار فكرتنا شیئاً فشیئاً. ولأننا لن نستطیع العمل بصورة جماعیة، فلا سبیل أمامنا إلا أن ننشر أفكارنا من فرد إلى فرد ومن جیل إلى جیل، وما من سبیل غیر هذا یمكن أن نسلكه في مواجهة شرطة الفكر».عند هذا الحد توقف أوبراین وتطلّع إلى ساعته للمرة الثالثة، ثم قال مخاطباً جولیا:- لقد حان وقت انصرافك أیتها الرفیقة، لكن مهلا، فما زالت القنینة ملآنة حتى نصفها.ثم أترع الكؤوس ورفع كأسه قائلاً: «نخب من سنشرب هذه المرة؟» قالها بنبرة مفعمة بالتهكم والسخریة.

«هل نشرب نخب الفوضى التي ستعم شرطة الفكر؟ أم نخب موت الأخ الكبیر؟ أم نخب الإنسانیة؟ أم نخب المستقبل؟»
فقال ونستون: «بل نخب الماضي».
فأقره أوبراین برزانة على هذا قائلاً: «نعم إن الماضي أهم».وعندما انتهوا من احتساء كؤوسهم نهضت جولیا استعداداً للانصراف، فأخذ أوبراین علبة من أعلى الخزانة وناولها قرصاً أبیض لتضعه في فمها قائلاً: «من المهم الا یخرج المرء ورائحة الخمر تفوح من فمه فلدى عمال المصاعد قوة ملاحظة فائقة». وما إن أوصدت الباب خلفها حتى بدا على أوبراین وكأنه نسي أمرها. وعاد یذرع الغرفة مرة أو مرتین ثم لم یلبث أن توقف مخاطباً ونستون:- ما زالت هنالك بعض التفاصیل التي یجب الاتفاق بشأنها، أعتقد بأن لدیك مخبأ في مكان ما، ألیس كذلك؟
فشرح له ونستون كل شيء عن غرفته التي استأجرها فوق حانوت السید شارنغتون.
فقال أوبراین: «لا بأس بها حتى حین. وسوف نتدبر لكما مكاناً آخر فیما بعد، فمن المهم أن یغیر المرء مخبأه من حین لآخر، ولسوف أرسل لك بنسخة من الكتاب، كتاب غولدشتاین حالما یتیسر لي ذلك». هنا لاحظ ونستون أن أوبراین نفسه یلفظ كلمة كتاب بنبرة ممیزة. «وقد لا أتمكن من الحصول على نسخة منه إلا بعد أیام، فالنسخ المتوفرة لیست بالكثرة التي تتصورها، فشرطة الفكر تتعقب النسخ وتتلفها فوراً، لكن ذلك لن یؤثر فینا، فالكتاب لا یمكن أن یفنى، فحتى إذا ما أتلفت النسخة الأخیرة منه فإن في وسعنا أن نعید كتابته حرفاً حرفاً»، ثم أضاف: «هل تحمل حقیبة ید معك عادة إلى العمل؟»
أجاب ونستون: «نعم... في العادة».
- وما شكلها؟
- سوداء وقدیمة جداً وذات حزامین.
- حسناً... ذات صباح في المستقبل القریب، إذ لا یمكنني التحدید، ستجد بین رسائل عملك الصباحي رسالة تحتوي على أخطاء مطبعیة، وعلیك أن تطلب إعادة إرسالها، وفي الیوم التالي سیتعین علیك أن تتوجه إلى عملك دون أن تحمل حقیبتك معك، وفي وقت ما من النهار وأثناء سیرك في الطریق، سیستوقفك رجل وهو یقول: «أظن أن حقیبتك قد سقطت منك» وسیعطیك محفظة، تحتوي على نسخة من كتاب غولدشتاین یتعین علیك قراءتها وردها في غضون أسبوعین.
وساد الصمت لحظة قبل أن یكسره أوبراین بقوله:- أمامك دقیقتان ویحین موعد انصرافك، سوف نلتقى ثانیة إذا قدَرلنا أن نلتقي...
ونظر ونستون إلیه قائلاً بنبرة تودد: «في المكان الذي لا ظلام فیه».
فأومأ أوبراین برأسه دون أن یبدو علیه أي أثر للدهشة. وقال كما لو أنه أدرك ما یلمح إلیه ونستون: «نعم في المكان الذي لا ظلام فیه».

ثم أردف قائلاً: «والآن هل لدیك ما تود قوله قبل انصرافك؟ أي رسالة؟ أي تساؤل؟»
أطرق ونستون هنیهة. لم تكن لدیه أي تساؤلات أخرى، كما لم یكن لدیه أدنى رغبة في أن یتحدث عن شؤون عامة. وبدلاً من أن یخطر بباله شيء ذو صلة بأوبراین أو بحركة الأخوة، طرقت ذهنه صورة مركبة من كل من الغرفة المعتمة التي أمضت فیها أمه أیامها الأخیرة والغرفة الضیقة الكائنة فوق حانوت السید شارنغتون والثقل الزجاجي وصورة القضبان المحفورة في إطار اللوحة المصنوع من خشب الورد،

فقال بصورة عفویة:
- هل سبق أن تناهى إلى سمعك قصیدة قدیمة یقول مطلعها: «تقول أجراس سانت كلیمنت: برتقال ولیمون؟»
فأومأ أوبراین برأسه ثانیة، وقال بنبرة رزینة مكملاً المقطع:«تقول أجراس سانت كلیمنت، برتقال ولیمونفتقول أجراس سانت مارتن، أنت مدینة لي بثلاث فارذنفتقول أجراس أولد بایلي، متى ستدفع لي؟
فتقول أجراس شوردیتش، حینما أصبح ثریاً»
فقال ونستون متعجباً: «إنك تعرف البیت الأخیر!»- نعم أعرفه، والآن حان وقت انصرافك. ولكن مهلاً حتى أعطیك قرصاً لتزیل رائحة الفم.

وعند ما نهض ونستون مد له أوبراین یده مصافحاً بقوة حتى كادت قبضته القویة تسحق عظام كف ونستون.

وعند الباب تطلع ونستون وراءه لیلقي نظرة أخیرة، لكن بدا له أن أوبراین كان قد وضعه بالفعل خارج دائرة تفكیره، إذ كان أوبراین ینتظر انصرافه ویده فوق الزر الذي یتحكم في تشغیل شاشة الرصد. ونظر ونستون وراء أوبراین فوجد طاولة الكتابة وفوقها المصباح ذو الظلال الخضراء وآلة التسجیل والأوراق. وانتهى اللقاء. وخطر لونستون أنه في غضون ثوان معدودات سیعود أوبراین إلى عمله الهام الذي یقوم به لصالح الحزب والذي قطعته الزیارة.

أصبح ونستون أشبه بجسم هلامي جراء ما أصابه من كلل، ویبدو أن كلمة (هلامي) هي الأبلغ والأدق وصفاً لحاله حتى أنها خطرت بباله تلقائیاً، بل لقد خیّل إلیه أن جسمه لیس بضعف الهلام فحسب بل بشفافیته أیضاً، وتملّكه إحساس بأنه إذا ما رفع راحته أمام عینیه ونظر فیها لأمكنه رؤیة الضوء من خلالها لرقتها. كما بدا وكأن كل ما في عروقه من دماء قد استنزف وخلایاه اللمفاویة قد ضمرت في حمأة الأعمال الضخمة التي احتملها والتي لم تخلف وراءها منه غیر هیكل هش من عظام وأعصاب وجلد.

وبدا له أن كل شيء بات ینتج أثراً أضخم مما هو علیه في الواقع حتى أن رداءه صار یقرح كتفیه والرصیف یؤلم قدمیه، بل إن مجرد بسط قبضة یده وطیها قد غدا أمرآ یحتاج منه إلى جهد جهید تكاد مفاصله تئن له أنینا.

ظل ونستون یعمل لأكثر من تسع عشرة ساعة في الیوم وعلى امتداد خمسة أیام وكان هذا شأن كل فرد آخر في الوزارة. والآن تم كل شيء ولم یعد لدیه أي مهام من أي نوع، حزبیة أو غیر حزبیة حتى صباح الغد، ومن ثم یمكنه أن یمضي ست ساعات في ملاذه الآمن وتسعاً في فراشه. تحت شمس الأصیل اللطیفة مشى ونستون على مهل في شارع قذر باتجاه حانوت السید شارنتون وكان ینظر بعینین، عین یترقب بها ظهور الدوریات وعین ینظر بها أمامه رغم أنه كان یثق ثقة عمیاء في أنه لن یتعرض لأي خطر في هذا الیوم.

وكانت الحقیبة الثقیلة التي یحملها ترتطم بركبته مع كل خطوة یخطوها فتسبب له ألماً تسري وخزاته في كل ساقه، كانت تضم بداخلها الكتاب الذي أصبح في حوزته منذ ستة أیام ولم یفتحه بعد أو حتى یلقي علیه نظرة.
وفي الیوم السادس من أسبوع الكراهیة وبعد كل ما أقیم من فعالیات تمثلت في المواكب والخطب والهتافات والأناشید والرایات والملصقات والأفلام وتماثیل الشمع ودق الطبول ونفخ الأبواق ووقع أقدام الجنود وضجیج جنازیر الدبابات وأزیز أسراب الطائرات ودوي المدافع - بعد ستة أیام حافلة بهذه المشاهد، وبعد أن كانت نشوة الكراهیة قد بلغت ذروتها والكراهیة العامة لأوراسیا قد بلغت بالجماهیر المحتشدة درجة الغلیان والاهتیاج حتى أنهم لو ظفروا بالألفي أوراسي من مجرمي الحرب الذین كان سیجري إعدامهم شنقاً على الملأ في الیوم السابع والأخیر من الاحتفالات، لمزقوهم إرباً إرباً، في هذه اللحظة من الهیجان أُعِلن أن أوقیانیا لم نكن بأي حال في حرب مع أوراسیا بل كانت في حرب مع إیستاسیا، أما أوراسیا فكانت حلیفتها.
وطبعاً لم یعتبر الحزب أن تغییراً ما قد حدث، فكل ما هنالك أنه تم الإعلان على نحو مفاجئ وفي كل صقع من أصقاع البلاد بأن إیستاسیا لا أوراسیا هي العدو.

وكان ونستون، في تلك اللحظة التي أعلن فیها هذا البیان، یشارك في تظاهرة بإحدى ساحات وسط لندن، كان ذلك خلال اللیل ما جعل الوجوه البیضاء والرایات القرمزیة تتلألأ في الأنوار المضیئة وكانت الساحة تعج بآلاف من الناس، بینهم ألف من أطفال المدارس یلبسون زي الجواسیس، وعلى منصة موشاة باللون القرمزي وقف عضو من الحزب الداخلي یخطب ویهیّج الجماهیر: رجل نحیل ضئیل الجسم ذو ذراعین طویلتین لا تتناسبان مع جسمه، وجمجمة صلعاء تنتشر فوقها بصورة مبعثرة بضع خصلات هزیلة من الشعر، وقف بقامته القصیرة وهو یقبض على عنق المیكروفون بكف فیما بكفه الأخرى، التي تنتهي بها ذراعه ذات العظام الناتئة، یلوح في الهواء مهدداً ومتوعداً.

كان صوته یبدو رنانا بفعل المكبر وهو یدوي مندداً بالفظائع والمذابح وأعمال الترحیل والإبعاد والسلب والنهب والاغتصاب وتعذیب الأسرى وقصف المدنیین العزل وإلقاء المنشورات والدعایات الزائفة والاعتداءات وخرق المعاهدات، ولم یكن باستطاعة المرء وهو یصغي إلیه إلا أن یصدقه أو یقتنع بكلامه أو ینتابه سعار من الغضب من هول ما یسمع.

كانت الصرخات الغاضبة تتعالى هادرة بین الفینة والأخرى من آلاف الحناجر بلا قدرة على كبحها حتى تغدو مثل زئیر الوحوش فتطغى على صوت الخطیب، وعن أطفال المدارس كانت تصدر أعلى الصیحات وأكثرها وحشیة. كان قد مضى زهاء عشرین دقیقة من الخطاب عندما شوهد رسول یشق طریقه إلى المنصة ویدس قصاصة من الورق في ید الخطیب الذي قرأها بدوره على الفور، ودون أن یتوقف عن الخطابة، ورغم انه لم یطرأ أدنى تغییر على نبرة صوته أو طریقة إلقائه أو على مضمون خطابه، فقد وقع تغییر مفاجئ في المسمیات، وسرعان ما فطنت الجماهیر وأدركت حقیقة ما جرى؛ وهي حقیقة مفادها أن أوقیانیا إنما كانت في حرب مع إیستاسیا! وفي اللحظة التالیة ساد المكان حالة من الهرج والمرج بعدما أدركوا أن كل الرایات والملصقات التي زینت بها الساحة كانت خاطئة!

وكان نصفها یحمل صوراً مغلوطة.

وصاح بعضهم بأن ذلك ضرب من ضروب التخریب! وبأن عملاء غولدشتاین هم الذین یقفون وراء هذا العمل! وإثر ذلك ساد جو من الفوضى والشغب حیث نزعت الملصقات عن الجدران ومزقت الرایات ودیست بالأقدام، وبذل الجواسیس جهداً مضنیاً لتسلّق أسطح المنازل لتقطیع الأعلام التي كانت ترفرف فوق الأسطح متدلیة من المداخن. ولكن في غضون دقیقتین أو ثلاث كان كل شيء قد انتهى، وراح الخطیب یواصل خطابه وهو لم یزل یقبض على عنق المیكروفون وكتفاه محدودبتان إلى الأمام ویده الخالیة تلوح في الهواء. وبعد دقیقة أخرى كانت الجماهیر قد انخرطت من جدید في صرخات غاضبة وحشیة، وتواصل سعار الكراهیة تماماً كما كان، عدا أن شیئاً واحداً تغیر وهو الهدف الذي یصبّون علیه جام كراهیتهم.

لكن الأمر الذي ترك أثراً واضحاً في ونستون هو أن الخطیب كان ینتقل من سطر إلى آخر دون أن یكمل جمل خطبته، ولیس هذا فحسب بل ودون توقف أو حتى خرق قواعد النحو. ولكنه تنبه إلى أن لدیه أموراً أخرى تشغله في هذه اللحظة، ففي اللحظة التي عم فیها الاضطراب وبینما كانت الجماهیر تمزق الملصقات إذا برجل لم یر ونستون وجهه یربت على كتفه قائلاً: «عفوا، أظن أن حقیبتك قد سقطت منك»، فتناول ونستون الحقیبة منه وهو شارد الذهن من دون أن ینبس ببنت شفة، وكان یدرك أنه سوف تنقضي أیام قبل أن تتاح له فرصة النظر إلى ما في داخلها.

وما إن انتهت التظاهرة حتى عاد رأساً إلى وزارة الحقیقة رغم أن الساعة كانت قد قاربت الحادیة عشرة لیلاً، وكذلك فعل جمیع موظفي الوزارة امتثالاً للأوامر الصادرة من شاشة الرصد رغم أن مثل هذه الأوامر لم تكن ضروریة.كان السبب الذي استُدعي من أجله جمیع الموظفین في هذه الساعة المتأخرة من اللیل هو أن أوقیانیا قد باتت في حالة حرب مع ًإیستاسیا، بل إن أوقیانیا كانت دائما، ولم تزل، في حرب مع إیستاسیا.

وكان ذلك یعني أن جزءاً هائلاً من الأدبیات السیاسیة التي صدرت على مدى خمس سنوات قد أصبحت باطلة ویتعین القیام بعملیة تنقیح سریعة لكل التقاریر والسجلات على اختلاف أنواعها، والجرائد والكتب والكتیبات والأفلام والأشرطة الصوتیة والصور. ورغم أنه لم تصدر أي توجیهات، فقد كان معلوماً أن رؤساء الأقسام یعتزمون عدم الإبقاء على أي إشارة إلى الحرب مع أوراسیا أو التحالف مع إیستاسیا في غضون أسبوع واحد. لقد كانت المهمة جسیمة للغایة، لكن ما زاد الطین بلة هو أن هذه العملیات لم تكن تسمى بأسمائها الحقیقیة، وكان كل شخص في قسم السجلات یعمل على مدار ثماني عشرة ساعة في الیوم واللیلة، ولا ینعم سوى بساعتي نوم أو ثلاث. وقد جيء بالأغطیة والفرش من الأقبیة وبسطت في جمیع الممرات كما أعدت وجبات سریعة تتألف من سندویشات وقهوة النصر یدور بها الخدم على عربات لتقدیمها إلى الموظفین دون أن یبرحوا مكاتبهم. كان ونستون قبل كل مرة یذهب فیها لأخذ نوبة نوم یحاول جاهداً أن ینتهي من ّالعمل المكدس فوق مكتبه، لكنه كان في كل مرة یعود مجهد الجسد والعینین لیجد مكتبه وقد تكدس مرة أخرى بلفافات الورق التي كانت تغطي مكتبه مثل ندف الثلج وتطمر جهاز الحاكي الكاتب حتى نصفه وتفیض على الأرض، مما یجعل مهمته الأولى رصها في كومة مرتبة حتى یعطي لنفسه حیزاً لیعمل. إلا أن أسوأ ما في الأمر هو أن العمل كان میكانیكیاً محضاً إذ غالباًما كان یكفي أن تستبدل اسماً باسم آخر، أما حینما یتعلق الأمر بتقاریر مفصلة للأحداث فإنه كان یتطلب عنایة وخیالاً، وحتى المعلومات الجغرافیة التي یحتاج إلیها المرء لنقل الحرب من جزءمن العالم إلى جزء آخر تتطلب جهداً جبارا.في الیوم الثالث راحت عیناه تؤلمانه أشد الألم، وبات مضطرا لمسح نظارته كل بضع دقائق، لقد كان العمل أشبه بصراع مضن لا بد أن یحسمه. وحسبما یتذكر ونستون، لم یكن یؤرقه أن كل كلمة یملیها إلى الحاكي الكاتب، وكل حرف یخطه كان بمثابة كذبة متعمدة، بل كان همه منصبّاً، شأنه شأن بقیة الموظفین، على أن تخرج عملیات التزویر متقنة. وفى صبیحة الیوم السادس انخفض تدفق الأوراق إلیه وأصبح یفصل بین كل لفافة وأخرى من الورق حوالي النصف ساعة.

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك