رواية 1984 لجورج أورويل : القسم الثالث والاربعين


- وهل ما یقوله الكتاب صحیح؟
فأجابه أوبراین: «أما الوصف الذي یقدمه فصحیح، وأما البرنامج الذي یضعه فهراء لا قیمة له، فكل ما یقوله عن التراكم السري للمعرفة والانتشار التدریجي للفكر التنویري اللذین یفضیان في نهایة الأمر إلى ثورة البرولیتاریا والإطاحة بالحزب لا یعدو أن یكون هراء ما بعده هراء، لأن البرولیتاریا لن تثور ولو بعد ألف أو ملیون سنة، إنها لا تستطیع ذلك، ولا أظن أنني بحاجة لأن أخبرك بالسبب لأنك تعرفه بالفعل، وإذا كنت متعلقا ببعض الأحلام التي راودتك عن اندلاع العصیان المسلح فعلیك أن تتخلى عنها، فلیس ثمة سبیل للإطاحة بالحزب الذي سیظل حكمه قائماً إلى أبد الدهر، ولتجعل ذلك المعتقد هو نقطة لانطلاق أفكارك».

عندئذ اقترب أوبراین من ونستون وراح یردد: «إلى أبد الدهر. والآن یحسن بنا أن نعود إلى سؤال «كیف» و«لماذا».

إنك تفهم جیداً كیف یحتفظ الحزب بالسلطة، ولكن قل لي لماذا نتشبث بالسلطة؟ ما هي دوافعنا؟ لماذا نرید السلطة؟ هیا، تكلم». لكن ونستون ظل ملتزماً بالصمت.
مرت لحظة أو لحظتان ولم ینبس ونستون ببنت شفة، وغمره شعور بالإعیاء والیأس، ولمح من عیني أوبراین أن الحماس المجنون بدأ یعاوده من جدید. كان یعرف سلفاً ماذا سیقول أوبراین، إنه سیقول إن الحزب لم یسع إلى السلطة من أجل مآربه الخاصة وإنما من أجل مصلحة الأغلبیة، وأنه ما سعى إلى السلطة إلا لأن جماهیر العامة مخلوقات ضعیفة هشة تتسم بالجبن ولا یمكنها احتمال مسؤولیة الحریة أو مواجهة الحقیقة، ومن ثم یجب أن یتم تسییر شؤونهم وخداعهم بطریقة منهجیة من قبل آخرین

أعلى وأعز منهم قوة، وأن على البشریة أن تختار بین خیارین لا ثالث لهما، فإما الحریة وإما السعادة، ودائماً تفضل الغالبیة العظمى من الجنس البشري السعادة على الحریة.

إن الحزب هو الوصي الأبدي على المستضعفین وإنه یضحي بسعادته من أجل سعادة الآخرین. لكن أفظع شيء لدى ونستون هو أن أوبراین كان حینما یسوق مثل هذه الحجج كان یفعل ذلك عن إیمان بها، وفي استطاعتك أن ترى هذا مرتسما على وجهه.

إن أوبراین یعرف كل شيء، بل إنه یعرف أكثر من ونستون ألف مرة عن حقیقة العالم، ویعرف ما تعانیه هذه الجماهیر من المخلوقات البشریة من إذلال وانحطاط وبأیة أكاذیب وأسالیب بربریة یبقیها الحزب على ما هي علیه. كان أوبراین یفهم كل ذلك فهماً جیداً ومع ذلك لم یكن لذلك أهمیة، فكل شيء مبرر باسم الغایة النهائیة.

وتساءل ونستون بینه وبین نفسه: ماذا تستطیع أن تفعل حیال مجنون أحد ذكاء منك ویصغي جیداً إلى حججك لكنه یتمسك بجنونه؟
قال ونستون بصوت واهن: «إنكم تحكموننا من أجل مصلحتنا وفي سبیل منفعتنا، فأنتم تؤمنون أن البشر لا یصلحون لحكم أنفسهم بأنفسهم ومن ثم ...».
وتوقف ونستون عن الكلام عندما شعر بوخزات ألم مفاجئة تتدفق في جسده حینما دفع أوبراین ذراع القرص إلى خمسة وثلاثین.

وقال أوبراین: «هذا غباء وسخافة یا ونستون، ما كان ینبغي أن تنطق بشيء مثل ذلك». وسحب ذراع القرص إلى مكانه ثم مضى یقول:
- والآن سأعطیك جواباً عن سؤالي: إن الحزب یسعى إلى بلوغ السلطة لذاتها، وإن مصالح الآخرین لا تعنینا في شيء، فكل همنا محصور في السلطة. نحن لا نسعى وراء الثروة ولا الرفاهیة ولا العمر المدید ولا السعادة وإنما نسعى وراء السلطة، والسلطة المطلقة فقط، ولسوف تفهم عما قریب ماذا نعني بالسلطة المطلقة.

إننا نختلف عن الأشكال الكثیرة من حكم القلة التي وجدت في الماضي لجهة أننا نعرف ما نفعل.
أما الآخرون بمن فیهم هؤلاء الذین كانوا یشبهوننا فكانوا جبناء ومرائین، لقد بلغ النازیون الألمان والشیوعیون الروس حداً جعلهم جد قریبین منا في مناهجهم لكنهم لم یمتلكوا من الشجاعة ما یكفي للاعتراف بدوافعهم. لقد كانوا ادعو، بل ربما اعتقدوا، أنهم بلغوا السلطة وهم لها كارهون وأنهم لن یمكثوا فیها إلا لأجل محدود، وأنه لم یعد یفصلهم شيء عن الفردوس الموعود الذي یحیا فیه الناس أحراراًمتساوین.

إننا لا نشبه هؤلاء. إننا ندرك أنه ما من أحد یمسك بزمام السلطة وهو ینوي التخلي عنها. إن السلطة لیست وسیلة بل غایة، فالمرء لا یقیم حكماً استبدادیاً لحمایة الثورة، وإنما یشعل الثورة لإقامة حكم استبدادي. إن الهدف من الاضطهاد هو الاضطهاد، والهدف من التعذیب هو التعذیب وغایة السلطة هي السلطة. هل بدأت تفهم ما أقول الآن؟
وهال ونستون، مثلما هاله من قبل، ما بدا على وجه أوبراین من علامات التعب والإرهاق. كان وجها قویاً، ممتلئاً، قاسي الملامح،

مفعماً بالذكاء ویتقد بعاطفة مكبوتة یعجز المرء إزاءها، إلا أنه ومع كل ذلك كانت علامات التعب بادیة علیه، فقد كان هناك الانتفاخان أسفل العینین وتهدل الجلد عند الصدغین.

مال أوبراین فوق ونستون متعمدا أن یقترب منه أكثر بوجهه المهترئ، وقال:
- لعلك تفكر في وجهي المتعب الذي زحفت علیه علامات الشیخوخة، وأنني أحدثك عن السلطة بینما لا أستطیع أن أوقف انحلال جسدي. ألا تستطیع یا ونستون أن تفهم أن المرء إن هو إلا خلیة؟ وأن إنهاك الخلیة هو تجدید لنشاط الكائن الحي. هل تموت یا ترى عندما تقلم أظافرك؟
واستدار أوبراین مبتعداً عن السریر وراح یذرع الغرفة جیئة وذهاباً مرة أخرى وقد وضع یده في جیبه ثم مضى یقول:
- إننا نحن كهنة السلطة، والله هو السلطة، لكن في الوقت الراهن لا تعني لك السلطة إلا مجرد كلمة، وقد آن الأوان لأن تكون لدیك فكرة عما تعنیه السلطة، وأول ما یجب علیك أن تدركه هو أن السلطة جماعیة وأن الفرد لا یمكن أن یملك سلطة إلا بمقدار ما یتخلص من فردیته، ولعلك تعرف شعار الحزب القائل: «الحریة هي العبودیة».

فهل خطر ببالك من قبل أن هذا الشعار یمكن قلبه لیصبح: «العبودیة هي الحریة». فالإنسان حینما یكون وحیداً وحراً، دائماً ما یُقهر ویُغلب. ویجب أن یكون الأمر كذلك لأن الموت هو القدر المحتوم على كل إنسان والموت هو أنكى أنواع الفشل التي یمنى بها الإنسان، بید أنه إذا استطاع أن یخضع خضوعاً تاماً وأن یتخلّص من ذاتیته، وأن یذوب ذوباناً تاماً في الحزب حتى یصبح هو الحزب، فإنه حینئذ یمنح القوة والخلود.

وأما الأمر الثاني الذي یجب أن تدركه هو أن السلطة هي سلطان على البشر، على أجسامهم وعلى عقولهم قبل كل شيء. أما أن یكون لك سلطان على المادة، وهي الواقع الخارجي كما تسمیه، فلیس بالأمر الهام، إذ نحن نسیطر على المادة سیطرة مطلقة.

وتجاهل ونستون للحظة القرص، وحاول جاهداً أن یستوي جالساً فوق السریر لكنه شعر على إثر ذلك بألم یمزق أوصاله بعد هذه المحاولة.
وصاح ونستون قائلاً: «ولكن كیف تسیطرون على المادة؟ إنكم لا تسیطرون حتى على الطقس أو قانون الجاذبیة، ناهیك عن المرض والألم والموت».
لكن أوبراین أسكته بإشارة من یده وقال:
- إننا نسیطر على المادة لأننا نسیطر على العقل، والواقع یكمن في جمجمة الإنسان، وتدریجیاً ستعلم یا ونستون أن لیس ثمة ما یستعصي علینا، فیمكننا أن نصبح غیر مرئیین ویمكننا أن نطیر في السماء. هل تعلم أنه بوسعي أن أجعل أرضیة هذه الغرفة تطفو كفقاعة صابون إن شئت ذلك، وإذا كنت لا أرغب في ذلك فلأن الحزب لا یرید ذلك. یجعب علیك أن تتحرر من أفكار القرن التاسع عشر فیما یتعلق بقوانین الطبیعة، فنحن الذین نضع قوانین الطبیعة.

اعترض ونستون قائلاً: «لا، لستم واضعیها! إنكم لستم حتى سادة كوكبنا هذا، وإلا فما تفسیرك لوجود أوراسیا وإیستاسیا؟ إنكم لم تقهروا هاتین الدولتین بعد!»
فأجاب أوبراین: «لا یهمنا ذلك لأننا سوف نقهرهما حین یناسبنا ذلك، وحتى إن لم نفعل، فان ذلك لا یعنینا في شيء، فبوسعنا أن نقصیهما خارج دائرة الوجود ونطمس كل أثر لهما في الأذهان بحیث تصبح أوقیانیا هي العالم كله».

فقال ونستون: «ولكن العالم ذاته لیس إلا ذرة غبار والإنسان خلق ضعیفاً عاجزاً! منذ متى وهو موجود؟ لقد ظلت الأرض لملایین السنین غیر مأهولة!»
فقال أوبراین: «هراء، إن عمر الأرض في مثل عمرنا، فهي لیست أقدم منا، بل كیف یمكن أن تكون أقدم؟ فما من شيء یوجد إلا من خلال الإدراك الإنساني».
- لكن الصخور مملوءة بعظام الحیوانات البائدة، كالفیل المنقرض والزواحف العملاقة التي عاشت على الأرض أمداً طویلاً قبل أن یسمع أحد بالإنسان.
- هل رأیت هذه العظام بعینك یا ونستون؟ بالطبع لا. إن علماء البیولوجیا في القرن التاسع عشر هم الذین اخترعوها.

قبل الإنسان لم یكن هنالك شيء، وبعد نهایة الإنسان، إن كان له نهایة، لن یكون هنالك شيء على هذا الكوكب، فخارج الإنسان لا یوجد شيء.
- ولكن الكون كله موجود خارج الإنسان. انظر إلى النجوم! إن بعضها یبعد عنا ملایین السنین الضوئیة، وهي لذلك لن تكون في متناولنا أبداً
فرد أوبراین بغیر اكتراث: «وما هي النجوم؟ إنها قطع من نار لا یفصلنا عنها سوى بضعة كیلومترات ویمكننا الوصول إلیها إذا شئنا ذلك، كما بوسعنا أن نجعلها تتسمر في مكانها، فالأرض هي مركز الكون والشمس والنجوم تدور حولها».

وصنا قام ونستون بحركة تنم عن رفضه لما یقال، ولكنه لم یقل شیئاً هذه المرة. وأكمل أوبراین حدیثه كمن یرد على اعتراض:
- لا شك أن ما قلته لا ینسحب على بعض الحالات، فعندما نبحر في عرض المحیطات أو نتنبأ بخسوف للقمر، فإننا غالباً ما نجد أنه من الأنسب أن نفترض أن الأرض تدور حول الشمس وأن النجوم تبعد عنا ملایین الملایین من الكیلومترات، لكن ما أهمیة ذلك؟ أتظن أننا نعجز عن وضع نظام مزدوج للفلك؟ فتصبح النجوم قریبة أو بعیدة حسب ما هو مطلوب. أتظن أن علماء الریاضیات لدینا لا یقدرون على ذلك؟ أنسیت ازدواجیة التفكیر؟
فانكمش ونستون على السریر، إذ مهما قال، فإن الردود السریعة من أوبراین كانت تسحقه كما تسحقه ضربة الهراوة، إلا أنه ومع ذلك كان یدرك أنه على حق. لا بد أن هنالك طریقة یمكن من خلالها إثبات زیف الاعتقاد القائل بانه لا وجود لشيء خارج إدراك الإنسان. ألم یتضح مند القدم أنه ینطوي على مغالطة؟ بل لقد كان له اسم ولكنه نسیه.

وارتسمت على فم أوبراین ابتسامة خفیفة زمت شفتیه وهو یتأمل في ونستون، ثم قال:
- «لقد قلت لك یا ونستون إن المیتافیزیقا لیست نقطة قوتك. إن الاسم الذي تحاول أن تذكره هو التمركز حول الذات ولكنك مخطئ فهذا لیس تمركزاً حول الذات، وإنما هناك التمركز حول الذات الجماعیة إذا أردت. لكن ذلك أمر مختلف. إنه عكس ما تقول». ثم أضاف وقد تغیرت لهجته: «إن كل هذا خروج على الموضوع. إن السلطة الحقیقیة، السلطة التي ینبغي علینا أن نقاتل من أجل بلوغها لیل نهار لیست السلطة على الأشیاء، بل على الإنسان».

ثم توقف عن الكلام واتخذ هیئة المعلم حینما یسأل تلمیذاً واعداً: «كیف یؤكد إنسان سلطته على إنسان آخر یا ونستون؟»
وقال ونستون بعد تفكیر: «بجعله یقاسي الألم».

فرد أوبراین: «أصبت فیما تقول. بتعریضه للألم، فالطاعة وحدها لیست كافیة، وما لم یعان الإنسان الألم كیف یمكنك أن تتحقق من انه ینصاع لإرادتك لا لإرادته هو؟ إن السلطة هي إذلاله وإنزال الألم به، وهي أیضاً تمزیق العقول البشریة إلى أشلاء ثم جمعها ثانیة وصیاغتها في قوالب جدیدة من اختیارنا. هل بدأت تفهم أي نوع من العالم نقوم بخلقه الآن؟ إنه النقیض التام لیوتوبیا المدینة الفاضلة التي تصورها المصلحون الأقدمون، إنه عالم الخوف والغدر والتعذیب، عالم یدوس الناس فیه بعضهم بعضاً، عالم یزداد قسوة كلما ازداد نقاء، إذ التقدم في عالمنا هو التقدم باتجاه المزید من الألم. لقد زعَمت الحضارات الغابرة أنها قامت على الحب والعدالة أما حضارتنا فهي قائمة على الكراهیة، ففي عالمنا

لا مكان لعواطف غیر الخوف والغضب والانتشاء بالنصر وإذلال الذات، وأي شيء خلاف ذلك سندمره تدمیراً.

إننا بالفعل نعمل على تفكیك العادات الفكریة التي ورثناها من العهد السابق للثورة، لقد فصمنا عرى العلاقة بین الطفل ووالدیه، وبین الصدیق وصدیقه، وبین الرجل والمرأة، ولم یعد أحد یجرؤ على الثقة

بزوجته أو طفله أو صدیقه، بل إنه في المستقبل لن یكون هنالك زوجات أو أصدقاء، كما سیؤخذ الأطفال من أمهاتهم لدى ولادتهم مثلما تؤخذ البیضة من تحت الدجاجة، وسوف نقضي على الغریزة الجنسیة ونبیدها، أما الإنجاب فسیكون إجراء سنویاً رسمي الطابع مثله مثل تجدید بطاقة الحصص التموینیة، وسنجتث ما یعرف بنشوة الجماع اجتثاثاً ویعمل الآن أطباء الأعصاب على تحقیق هذه الغایة، كما سینعدم كل ولاء لیس للحزب، وسیباد كل حب غیر حب للأخ الكبیر. ولن یكون هنالك ضحك إلا الضحك الذي یصحب نشوة النصر على العدو المقهور، ولن یكون هنالك فن أو أدب أو علم، فحینما تجتمع في أیدینا كل أسباب القوة لن تكون بنا حاجة إلى العلم. كلما ستزول الفروق بین الجمال والقبح،

ولن یكون هنالك حب الاستطلاع أو التمتع بالحیاة ولن یكون هناك میل نحو مباهج الحیاة التي ستدمر تدمیراً. ولكن حذار أن تنسى یا ونستون أن الرغبة في السلطة ستظل مشبوبة وستزداد دهاء. وفي

كل لحظة ستكون هنالك نشوة النصر ولذة سحق العدو المدحور العاجز.

وإذا كنت ترید أن تستشرف صورة المستقبل، تخیل حذاء یدوس ویدمغ وجه إنسان إلى أبد الآبدین».
وهنا توقف أوبراین عن الكلام وكأنه توقع من ونستون أن یتكلم، ولكن ونستون كان قد حاول الانكماش على نفسه ولم یستطع أن یتلفظ بكلمة، وبدا له وكأن قلبه قد تجمد، فاستأنف أوبراین حدیثه قائلاً:

يتبع....

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك