رواية 1984 لجورج أورويل : القسم السادس والاربعين


سیمزقون عقله إرباً إرباً قبل أن یتمكنوا من إصلاحه، وبذلك یكون التفكیر الضال قد أفلت من دون عقاب أو توبة وأصبح بعیداً عن متناولهم. وهم بذلك یكونون قد تسببوا في إحداث ثغرة في نموذجهم تنفي عنهم ما یدعون من كمال.

لقد رأى أن الحریة هي أن یموت وهو یكرههم.
وأغمض ونستون عینیه، فقد كان الأمر في صعوبته یتعدى مجرد قبول نظام فكري، إنه مسألة إذلال النفس والحط من شأنها. إن علیه أن یغمر نفسه في أقذر الأقذار.

وتساءل في نفسه: ترى أي شيء أكثر تقزیزاً للنفس على الإطلاق؟ وهنا خطر على باله الأخ الكبیر بوجهه الهائل الضخامة (الذي كان یحسبه لرؤیته على اللوحات الإعلانیة یبلغ متراً في عرضه) وشاربیه الأسودین

الكثین وعینیه اللتین تلاحقان المرء أینما ذهب. ترى ما هو نوع المشاعر التي كان یكنّها للأخ الكبیر؟
وفي هذه اللحظة سمع وقع أقدام ثقیلة في الممر، وفُتح الباب الحدیدي محدثاً صوتاً عالیاً لیدلف منه أوبراین إلى الزنزانة یتبعه الضابط الشاب ذو الوجه الكالح والحراس ذوو الزي الأسود.

وقال أوبراین: «انهض یا ونستون وتعال إلى هنا!»
ووقف ونستون قبالته فأمسك أوبراین كتفي ونستون بیدیه القویتین ونظر إلیه متأملاً
وقال له: «لقد راودتك أفكار تدعوك لخداعي، لقد كان ذلك رعونة منك. قف على قدمیك وشد قامتك وانظر إلى عیني».
وتوقف عن الكلام ثم مضى یقول ولكن بلهجة أرق:
- إن حالتك آخذة في التحسن، فمن الناحیة الفكریة لم یعد یعلق بك غیر أخطاء طفیفة، أما من الناحیة العاطفیة فقد أخفقت في إحراز تقدم یذكر.

أخبرني یا ونستون، ولكن دون كذب أو خداع. ولعلك تدرك الآن أن باستطاعتي أن أعرف متى تكذب في حدیثك ومتى تصدق، أخبرني ما هي مشاعرك الحقیقیة إزاء الأخ الكبیر؟
فأجاب ونستون: إنني أكرهه.
فقال أوبراین: «تكرهه؟ حسناً. لقد آن الأوان لأن تخطو الخطوة الأخیرة. یجب أن تحب الأخ الكبیر فلا یكفي أن تطیعه وأنت لا تحبه».
دفع ونستون دفعة خفیفة نحو الحراس وقال:
- خذوه إلى الغرفة 101.
في كل مرحلة من مراحل سجنه كان ونستون یعرف، أو یبدو كأنه یعرف، أنه موجود داخل أقبیة البنایة الخالیة من النوافذ، فقد كان یحس بتغییرات طفیفة في الضغط الجوي، فالزنزانة التي یضربه فیها الحراس كانت تحت سطح الأرض والغرفة التي استجوبه فیها أوبراین كانت فوق سطح الأرض، وأما الغرفة التي یقبع فیها حالیاً فتقع في أعماق سحیقة تحت الأرض حیث أعمق نقطة یمكن بلوغها.
كانت هذه الغرفة أكثر اتساعاً من معظم الزنزانات التي نزل بها.

وكل ما لاحظه حوله هو طاولتین صغیرتین موضوعتین أمامه مباشرة وقد وضع على كل منهما غطاء من نسیج أخضر، تبعد إحداهما عنه متراً أو مترین أما الأخرى فأبعد من ذلك وأقرب إلى الباب. وأما هو فكان مشدود الوثاق بإحكام إلى مقعد یجعله عاجزاً من أطرافه فضلاً عن رأسه. كما كان ثمة ما یشبه عن تحریك أيٍ الكمادة التي تمسك برأسه من الخلف وتحول بینه وبین الالتفات یسرة أو یمنة.
مضت لحظة غمره فیها شعور بالوحدة، ثم فتح الباب لیدلف منه أوبراین.
قال له: «لقد سألتني ذات مرة ماذا في الغرفة 101 وأجبتك بأنك بالفعل تعرف الجواب عن سؤالك، فما من أحد لا یعرف أن في هذه الغرفة أسوأ ما في العالم».
ثم فُتح الباب ثانیة لیدلف منه حارس یحمل شیئاً مصنوعاً من الأسلاك، لعله صندوق أو سلة من نوع ما.

وضعه الحارس فوق الطاولة الأبعد عن ونستون. ولأن أوبراین كان واقفاً أمامه فقد حجب عنه رؤیة هذا الشيء أو التحقق منه.

وقال أوبراین: «إن أسوأ شيء في العالم یختلف من شخص إلى شخص، فقد یكون لدى البعض هو الدفن حیاً، أو الموت حرقاً أو غرقاً أو بواسطة الخازوق أو غیر ذلك من ألوان الموت الشنیع،

ومع ذلك تظل هنالك حالات یكون فیها أسوأ ما في العالم لدى الشخص هي أشیاء تافهة لا تفضي إلى الموت في أغلب الأحوال».
وتنحى أوبراین جانباً كي یتمكن ونستون من رؤیة أفضل لذلك الشيء الموجود فوق الطاولة، لقد كان قفصاً من الأسلاك، مستطیل الشكل وله مقبض من أعلى یمكن حمله منه، وقد ثبت في مقدمته شيء بدا مثل قناع مبارزة. ومع أنه كان یبعد عنه متراً أو مترین فقد استطاع ونستون أن یتبین أن القفص مقسم طولیاً إلى قسمین وفي كل قسم منهما جرذ.
وقال أوبرین: «أتعلم أن أسوأ شيء في العالم بالنسبة لحالتك هو الجرذان؟»
وسرعان ما سرت في جسد ونستون قشعریرة وتملّكه خوف لم یعرف سببه بمجرد أن ألقى النظرة الأولى على القفص، ثم لم یكد یفطن إلى ذلك الشيء الأشبه بقناع المبارزة والمثبت في مقدمة

القفص حتى أحس بأن قلبه یغوص بین ضلوعه وبأن أحشاءه تتقطع.
فصرخ ونستون بصوت متحشرج: «لا یمكنك أن تفعل ذلك بي!

لا یمكنك ذلك! إن هذا لمستحیل».

فقال أوبراین: «هل تذكر نوبة الهلع التي كانت تنتابك أثناء أحلامك؟ حینما كان یتراءى لك جدار من السواد وتسمع زئیراً في أذنیك، لقد كان هنالك شيء شنیع على الجاذب الآخر من الجدار،

لا بد أنك كنت تعلم ما هو هذا الشيء ولكنك لم تجسر على الكشف عنه.

إنها الجرذان، هي التي كانت على الجانب الآخر من الجدار».
قال ونستون وهو یحاول جاهداً السیطرة على صوته: «أوبراین لعلك تعلم أن ما من ضرورة تدعوك لذلك. ماذا ترید مني أن أفعل؟»
لكن أوبراین لم یعطه جواباً مباشراً. وعندما تكلم كانت لهجته هي لهجة المعلم التي كان یتحدث بها أحیاناً، ثم نظر أمامه متأملاً كما لو أنه یخاطب جمهوراً یجلس خلف ونستون.
وقال: «إن الألم وحده لا یكون دائماً علاجاً كافیاً، فهنالك حالات یمكن للإنسان أن یحتمل الألم فیها ولو أدى ذلك إلى الموت. بید أن هناك شیئاً لا یمكن لأحد كائناً من كان أن یحتمله بل لا یمكنه حتى التفكیر فیه.

إنه شيء تستوي فیه الشجاعة والجبن، فإذا كنت تسقط من ارتفاع شاهق فإنه لیس جبناً أن تتعلق بحبل، وإذا أخرجت من أعماق المیاه فلیس من الجبن أن تملأ رئتیك بالهواء، فهذه الأعمال تتم بالغریزة ومن ثم لا یمكن قمعها. وهذا إنما ینطبق على الجرذان، فهي بالنسبة إلیك أمر لا یحتمل، إنها نوع من الضغط الذي لا یمكنك احتماله حتى إن أردت ذلك. وحینئذ ستجد نفسك تفعل ما یطلب منك».
فقال ونستون: «ولكنك لم تقل لي ماذا ترید مني؟ كیف تریدني أن أفعل شیئاً لست أدري ما هو؟»

وحمل أوبراین القفص ووضعه على الطاولة الأقرب. كان بمقدور ونستون أن یسمع خریر الدم وهو یقرقر في أذنیه، وانتابه شعور بوحدة قاتلة وخیل إلیه أنه في قلب صحراء شاسعة قاحلة یغمرها ضوء الشمس وتتردد في أرجائها أصداء أصوات الجرذان، كل ذلك رغم أن قفص الجرذان لم یكن یبعد عنه أكثر من مترین.

لقد كانا جرذین ضخمین وفي عمر تصبح فیه الجرذان شرسة ویغبر لونها.
وقال أوبراین وكأنه لا یزال یخاطب جمهوراً لا یُرى: «إن الجرذان، ورغم أنها من القوارض، هي من آكلات اللحوم أیضاً.

علیك أن تضع ذلك نصب عینیك. لا بد أنك سمعت عن الأحداث المؤسفة التي تقع في الأحیاء الفقیرة من هذه المدینة، ففي بعض الشوارع تخشى الأم أن تترك طفلها وحیداً في البیت ولو لخمس دقائق لأن الجرذان حتماً ستنقض علیه وتحیله في غضون دقائق كومة من العظام، بل إنها أیضاً تهاجم المرضى ومن یحتضرون على فراش الموت، وهي في ذلك تُظهر ذكاء مذهلاً في معرفة متى یكون الإنسان عاجزاً ولا یستطیع حتى الدفاع عن نفسه».

كانت تنبعث من القفص صرخات حادة خیّل لونستون أنها تأتیه من مكان بعید، لقد كان الجرذان یتقاتلان ویحاولان تقطیع السیاج الفاصل بینهما، لقد سمع أیضاً أنات یأس عمیق وهي ما بدا له أنها

صادرة من خارج نفسه.
وحمل أوبراین القفص ثم ضغط على شيء فیه، فسمع ونستون طقطقة حادة فراح یحاول بكل ما أوتي من قوة أن یحرر نفسه من القیود التي تشده إلى المقعد ولكن دون جدوى، فقد كان كل جزء من جسمه من رأسه حتى أخمص قدمیه مقیداً بشكل لا یسمح له بالحركة.

وقرب أوبراین القفص إلى ونستون حتى أصبح لا یبعد عنه أكثر من متر واحد.
وقال أوبراین: «لقد ضغطت على المزلاج الأول، لعلك تفهم آلیة عمل هذا القفص، إن القناع سینطبق انطباقاً تاماً على رأسك ولن یترك لك أي مخرج، وعندما أضغط على المزلاج الثاني سینفتح

باب القفص لینطلق منه هذان الوحشان الضاریان كطلقتین ناریتین. هل سبق لك أن رأیت جرذاً یقفز في الهواء؟ إنه سیقفز في وجهك ویبدأ في نهشه، وهو أحیاناً ینقض على العینین أولاً،

لكنه في أحیان أخرى ینخر لنفسه أخادید في الوجنتین لیلتهم اللسان أولاً».
وأصبح القفص أكثر قرباً من ونستون، وراح یسمع صرخات حادة متتابعة بدا له أن أصداءها تتردد فوق رأسه، ولكنه قاوم مستمیتاً نوبة الهلع التي استولت علیه، وخلص إلى أن التفكیر والتفكیر وحده، حتى لو لم یبق أمامه سوى جزء من الثانیة، هو الأمل الوحید.

وفجأة نفذت إلى خیاشیمه هذه الرائحة العفنة النتنة التي تنبعث من الجرذین، فشعر باشمئزاز شدید وكاد یفقد الوعي وجلل السواد كل شيء حوله، وخیل إلیه أن مساً من الجنون قد أصابه فراح یصرخ كحیوان یئن. ولكنه خرج من هذه الأجواء حالكة السواد وقد خطرت له فكرة مفادها أن السبیل الوحید لإنقاذ نفسه

هي أن یأتي بشخص آخر ویضعه حائلاً بینه وبین الجرذان.
واقترب القناع من وجه ونستون حتى بات یحجب عنه رؤیة أي شيء آخر. وأصبح باب القفص یبعد عنه بأكثر من شبرین وكان الجرذان یعرفان ما هما مقدمان علیه، فبینما كان أحدهما یقفز في الهواء لأعلى وأسفل كان الآخر یقف ممسكاً بالقضبان وهو یتشمم الهواء بشيء من الشراسة.

كان بمقدور ونستون أن یرى الشعر الطویل للجرذین وأسنانهما الصفراء. وهنا عاد الرعب الأسود یهز أوصاله فعمي علیه كل شيء وتملكه شعور بالیأس وجمود في التفكیر.
وقال أوبراین بطریقته التعلیمیة التي اعتادها: «لقد كانت هذه العقوبة شائعة في إمبراطوریة الصین القدیمة».
واقترب القناع من وجهه حتى لامست الأسلاك وجنتیه، وهنا تبین له أن هناك أملاً أو حتى بصیصاً من الأمل لكنه ربما جاء بعد فوات الأوان،

فقد أدرك فجأة أن العالم كله لیس فیه سوى شخص واحد یمكن أن یحیل علیه هذا العقاب، أو جسم واحد یمكنه أن یضعه كحائل بینه وبین الجرذین، وعلى الفور راح یصرخ كالمجنون:
- افعلوا ذلك بجولیا! افعلوا ذلك بجولیا! لیس بي وإنما بجولیا! إنني لا أبالي. مزقوا وجهها، انزعوا لحمها حتى تصبح كومة من العظام ثم كسروا هذه العظام ولكن لا تفعلوا ذلك بي وإنما بجولیا.

وشعر وكأنه یهوي إلى هوة سحیقة بعیداً عن الجرذین، كان لا یزال مشدوداً إلى المقعد، لكنه كان یشعر أنه یسقط إلى أسفل، عبر الجدران، عبر المحیطات، عبر الأجواء العلیا، ثم شعر أنه یندفع

عبر الفضاء الخارجي وعبر المسافات الفاصلة بین النجوم بعیداً بعیداً عن الجرذین حتى بات یفصله عنهما بضع سنوات ضوئیة،

بید أن أوبراین كان لا یزال واقفاً بجانبه، وما زال یحس بالأسلاك الباردة تلامس وجنتیه. ووسط هذه الظلمة الحالكة التي أحاطت به سمع طقة معدنیة أخرى لكنها هذه المرة كانت لإغلاق باب القفص

لا لفتحه.

يتبع....

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك