رواية 1984 لجورج أورويل : القسم السابع والاربعين, قبل الاخيرة
كان مقهى شجرة الكستناء خالیاً تقریباً من مرتادیه، وكانت أشعة الشمس المائلة تخترق نوافذه وتسقط على أسطح الطاولات التي یغطیها الغبار، بینما تشیر الساعة إلى الثالثة ظهراً وهي ساعة
الاستراحة الوحیدة في هذه الفترة، أما شاشة الرصد فراحت تبث مقطوعات موسیقیة خفیفة.
جلس ونستون في زاویته المعتادة وهو یحملق في كأسه الفارغة. وكان من حین لآخر یلقي نظرة خاطفة على الوجه الضخم الذي ینظر إلیه نظرة ثاقبة من الجدار المقابل، وكانت العبارة المعهودة
التي تحت الصورة تقول: الأخ الكبیر یراقبك. وجاء الساقي دون أن یطلبه أحد وأترع كأس ونستون بشراب جن النصر وأضاف إلیها قطرات من قنینة أخرى كانت تحتوي على سكرین منكه برائحة القرنفل وتلك كانت میزة المقهى.
وكان ونستون یصغي إلى شاشة الرصد التي كانت لا تزال تبث مقطوعات موسیقیة خفیفة، بید أنه كان من المحتمل أن تتحول في أیة لحظة إلى بث النشرة الخاصة التي تصدرها وزارة السلام، فقد
كانت الأنباء الواردة من الجبهة الأفریقیة أنباء مقلقة وكانت تشغل بال ونستون لیل نهار، فالجیش الأوراسي (كانت أوقیانیا في حالة حرب مع أوراسیا في ذلك الوقت بل لقد كانت دائماً في حرب معها
یزحف جنوباً بسرعة مذهلة. ولئن كانت نشرة الظهیرة لم تحدد منطقة بعینها، فإن الأرجح أن مصب نهر الكونغو كان هو مسرح العملیات، ولذلك كانت برازافیل ولیوبولدفیل في خطر، ولم یكن المرء بحاجة إلى مطالعة الخریطة حتى یدرك الخطر الذي ینطوي علیه ذلك التطور، لم یكن الأمر یقتصر على فقدان مستعمرات أفریقیا الوسطى فحسب، بل إن أوقیانیا نفسها، وللمرة الأولى منذ أن دارت رحى الحرب، قد أصبحت مهددة.
وقد أثارت هذه الأنباء عاطفة متقدة في ونستون، لم تكن بالطبع الخوف وإنما نوعاً من الاستثارة اللامبالیة التي سرعان ما تبددت.
لكن ونستون توقف عن التفكیر في الحرب، إذ لم یعد بمقدوره في هذه الأیام أن یركز ذهنه على الموضوع الواحد لأكثر من لحظات معدودة في كل مرة، فرفع الكأس وازدرد كل ما فیها جرعة واحدة
وكعادته دائماً بعد الشراب كانت تنتابه رعشة خفیفة ویتقیأ قلیلاً،
فقد كان شراب الجن هذا من النوع القوي الذي لم یستطع السكرین والقرنفل أن یلطفا من رائحته القویة الممرضة، بل الأنكى أن هذه الرائحة التي ترافقه لیل نهار كانت ممتزجة في ذهنه برائحة هؤلاء....
لكنه لم یكن یجرؤ على التلفظ باسمهم أو حتى تسمیتهم في ذهنه بل لم یحاول أن یتصورهم في مخیلته أبداً. كانوا شیئاً غائماً یحوم حول وجهه وتنفذ رائحته إلى أنفه، ومع تغلغل الشراب في كل أجزاء جسمه راح ونستون یتجشأ من شفتیه الأرجوانیتین. كان جسم ونستون قد ازداد امتلاء منذ أن أطلقوا سراحه كما أنه كان قد استعاد لون بشرته القدیم. جاءه الساقي، مرة ثانیة ودون أن یطلبه أحد، وهو یحمل رقعة الشطرنج والعدد الأخیر من صحیفة التایمز وقد فتحت على صفحة مسائل الشطرنج، وما إن رأى كاس ونستون فارغة حتى ذهب فأحضر القنینة ثم أترع له كأسه، لم یكن الساقي بحاجة إلى انتظار أوامر ونستون لأنه كان قد عرف عاداته، فرقعة الشطرنج في انتظاره دائماً والطاولة في زاویة
المقهى كانت محجوزة له، وحتى حینما كان المقهى یمتلئ بالرواد فانه كان یجلس إلیها بمفرده لأنه ما من أحد كان یرغب في مشاطرته طاولته.
ولم یكن ونستون یبالي بعدد الكؤوس التي یحتسیها، وإن كان مسؤولو المقهى یقدمون له بین الحین والحین قصاصة ورق قذرة یقولون إنها فاتورة الحساب، وكان یدفعها وهو یعتقد دائماً أنهم یتساهلون معه في فاتورة حسابه غیر أنه لم یكن لیبالي حتى لو غالوا فیها، إذ كان المال لدیه وفیراً في هذه الأیام حیث كان یشغل وظیفة فخریة (شرفیة) تدر علیه دخلاً أكبر بكثیر مما كان یتقاضاه لقاء وظیفته القدیمة.
توقفت الموسیقى التي كانت تبثها شاشة الرصد وحل محلها صوت اشرأب ونستون لیصغي له، لكن لم یكن ثمة أنباء من الجبهة، لقد كان مجرد بیان موجز من وزارة الوفرة جاء فیه أن الخطة الثلاثیة العاشرة قد حققت فائضاً في نصیب الفرد من أربطة الأحذیة بنسبة 98%.
وراح ونستون یفكر في حل مسألة الشطرنج ثم صف القطع وبدأ یحركها، لقد كانت نهایة خادعة فیما یتعلق بالفرسین: «الأبیض یتحرك فیمیت الشاه بحركتین». نظر ونستون متأملاً في صورة الأخ الكبیر وقال في نفسه وقد تملكته نزعة تأملیة: إن الأبیض دائماً ینتصر، إنه ینتصر دائماً ودون استثناء وكأن ذلك معد سلفاً،
بل لم یحدث أبداً في تاریخ اللعبة أن فاز الأسود. ألا یرمز هذا لانتصار قوى الخیر دائماً وأبداً على قوى الشر؟
وتوقف الصوت الصادر عن شاشة الرصد لحظة ثم قال بنبرة مختلفة وأكثر جدیة: نحیطكم علما أننا سنذیع نبأ هاماً في تمام الثالثة والنصف.
إنه نبأ في غایة الأهمیة، فاحرصوا على ألا یفوتكم سماعه. لا تنسوا الثالثة والنصف. ثم عادت الشاشة لبث الموسیقى مرة ثانیة.
وخفق قلب ونستون، إن ذلك تنویه بالبلاغ القادم من الجبهة، واستشعر بغریزته أن الأنباء القادمة لن تكون سارة، ولم یكن هاجس الهزیمة النكراء التي یمنى به جیش أوقیانیا في أفریقیا قد غاب عن ذهنه لحظة واحدة، بل خیل إلیه أنه یرى جیش أوراسیا وهو یجتاح حدود أوقیانیا المنیعة بأعداد هائلة متراصة كالنمل ویزحف متوغلاً داخل أفریقیا وتساءل: لماذا لم یكن ممكناً تطویق هذا الجیش بطریقة أو بأخرى؟ كان الساحل الغربي لأفریقیا واضحاً في ذهنه، وأمسك بالفرس الأبیض وحركه عبر الرقعة،
تلك هي النقطة المناسبة. وحتى حینما كان یرى الجحافل السوداء تزحف جنوباً كان یرى قوة أخرى تتجمع على نحو غامض وتباغت هذه الجحافل بالانقضاض على مؤخرتها فتقطع خطوط مواصلاتها براً وبحراً. وشعر بأن مجرد رغبته في حدوث ذلك یمكن أن تأتي بهذه القوة إلى عالم الوجود، ولكن یجب على هذه القوة أن تتحرك سریعاً، فلو استطاع جیش أوراسیا أن یستولي على أفریقیا برمتها وإذا أصبح لدیه مطارات وغواصات في رأس الرجاء الصالح، فإن ذلك سیمكنه من تقطیع أوصال أوقیانیا،
ولربما أدى ذلك إلى اندحار أوقیانیا اندحاراً نهائیاً وإعادة ترسیم خریطة العالم والقضاء على الحزب. وأخذ نفساً عمیقاً وقد انتابه خلیط من المشاعر الغریبة أو بالأحرى طبقات من المشاعر بعضها فوق بعض بحیث لا یمكن للمرء أن یحدد أیها فوق وأیها تحت لكنها كانت تتصارع داخله.
وبعد أن زالت عنه هذه النوبة، أعاد الفرس الأبیض إلى مكانه،
لكنه لم یعد قادراً على التركیز في الشطرنج، فقد هامت به أفكاره مرة أخرى ووجد نفسه ودون أن یشعر یخط بإصبعه على الطاولة التي یعتلیها الغبار:
=2+2
لقد قالت له جولیا ذات مرة: «إنهم لا یستطیعون التغلغل إلى كیانك»، لكن أوبراین قال له: «إن ما یحدث لك هنا سیلازمك إلى الأبد، وهذا هو القول الصحیح، فما یقترفه المرء من أفعال وما یحدث له من خطوب تظل ملازمة له ولا یمكنه التخلص من آثارها، إن شیئاً قد قتل داخلك وأحرق ثم عولج موضعه بالكي».
ولقد رأى جولیا، بل وتكلم معها بعد أن أطلق سراحهما، فلم یعد ذلك ینطوي على خطورة، فقد أدرك بغریزته أنهم لم یعودوا یعیرون أفعاله اهتماماً ولذلك كان بوسعه أن یرتب للقاء ثان یجمع بینهما فیما لو شاء أحدهما أو كلاهما ذلك. فلقاؤهما الأول جاء بمحض الصدفة والذي تم في الحدیقة في یوم من أیام شهر آذار شدیدة البرودة حیث كانت الأرض صلبة كالحدید، وأما الحشائش فكانت شبه میتة ولم یكن هنالك سوى القلیل من براعم الزعفران التي تنتصب في العراء فتفتتها الریح.
وكان ونستون یسرع الخطى وقد تجمدت یداه ودمعت عیناه من شدة الریح عندما رآها على مسافة عشرة أمتار، هاله أنها تغیرت على نحو غیر محدد،
ومر كل منهما بالآخر دونما حتى إشارة، لكنه استدار وتبعها لأنه كان یعرف أن لا خطر في ذلك، وما من أحد عاد یهتم بهما. لكنها ظلت صامتة وتابعت سیرها عبر الحشائش من دون أن تعیره اهتماماً، ثم بدت بعدئذ وكأنها تبطئ من خطوها حتى تتیح له اللحاق بها وكانا قد بلغا آنذاك مجموعة من الأشجار العاریة التي لم تكن تصلح للاختفاء أو الاحتماء بها من الریح. وأخیراً توقفا،
وكان الجو قارس البرودة والریح تُحدث حفیفاً بین الأغصان وتمزق البراعم الصغیرة، فاقترب منها ونستون وأحاط خصرها بذراعه.
لم یكن ثمة شاشات رصد، بید أنه كان من المؤكد وجود مكبرات صوت مخفاة كما كان من السهولة أن یراهما أحد المارة ولكنه لم یكن یعیر أیا من ذلك أدنى اعتبار، فقد كان في استطاعتهما أن یتخذا من الأرض فراشاً إذا رغبا أن یعاودا اتصالهما الجنسي،
واقشعر جسده عندما خطر بباله ذلك الشيء. لكن جولیا لم تتجاوب معه حین أحاط خصرها بذراعه كما أنها لم تحاول تخلیص نفسها منه وحینئذ أدرك كنه التغیر الذي طرأ علیها، كان وجهها قد أصبح أكثر شحوباً وظهرت به ندبة طولیة أسدلت شعرها على جزء منها، بید أن ذلك لم یكن هو كل ما تغیر فیها، فقد أصبح خصرها أكثر امتلاء وتیبّساً، وعلى الفور تذكر كیف أنه وعقب إحدى غارات القصف الصاروخي كان قد ساعد في انتشال إحدى الجثث من تحت الأنقاض وهاله ثقلها وتیبسها غیر الطبیعیین وهو الأمر الذي جعلها تبدو أقرب للحجر منها للّحم. وأحس ونستون بأن جسم جولیا الذي یطوقه بذراعه قد أصبح أشبه بتلك الجثة،
كما شعر بأن نسیج جلدها قد بات مختلفاً كلیة عما كان علیه من قبل.
لم یحاول ونستون تقبیلها
يتبع...