رواية 1984 لجورج أورويل : القسم الرابع والاربعين


فاستأنف أوبراین حدیثه قائلاً:
- ولتتذكر أن ذلك سیكون أبدیاً، وأن الوجه سیظل دائماً تحت الحذاء، فدائماً هنالك الهرطوقي، عدو المجتمع، الذي یمكن قهره وإذلاله المرة تلو الأخرى.

إن كل ما عانیته منذ وقعت في قبضتنا سیتواصل وسیزداد سوءاً، كما لن تتوقف مطلقاً عملیات التجسس والخیانة والاعتقالات والتعذیب وأحكام الإعدام وحوادث اختفاء الناس.

لن یتوقف أي من ذلك، وسیصبح العالم عالم الرعب بقدر ما هو عالم الانتصارات. وكلما ازداد الحزب قوة ومنعة قلّت درجة تسامحه، وكلما ضعف معارضو السلطة اشتدت قبضة الاستبداد والطغیان، أما غولدشتاین فسیتم قهره ووصمه بالعار والتهكم منه والبصق علیه في كل یوم بل في كل لحظة، ومع ذلك سیبقى موجوداً وستبقى هرطقاته. إن هذه المسرحیة الدرامیة التي مثلتها معك على مدى سبع سنوات مضت سیعاد تمثیلها مرة تلو مرة، وجیلاً تلو جیل ودائماً بأشكال أكثر دهاء، ولسوف نجعل

المهرطق دائماً تحت رحمتنا، یئن من الألم، محطماً ومحتقراً وفي النهایة سیأتي من نفسه نادماً بعد أن انتصر على نفسه السیئة ویركع طالباً العفو والصفح. إن ذلك هو العالم الذي نعده یا ونستون، عالم یتألف من نصر تلو نصر ونشوة تلو نشوة وهو ما یمثل ضغطاً قویاً على عصب السلطة.

إنني أعتقد أنك بدأت تدرك ما سیكون علیه العالم، ولكن في النهایة سیطلب منك ما هو أكثر من الإدراك، سوف یطلب منك أن تقبل هذا العالم وترحب به وتصبح جزءاً منه.
وكان ونستون قد استعاد قدراً من عافیته بحیث أصبح قادراً على الكلام.
فقال بصوت خافت: «إنكم لن تستطیعوا إلى ذلك سبیلاً».
- ماذا تعني بهذا الكلام یا ونستون؟
- إنكم لن تستطیعوا خلق عالم كالذي وصفته فذلك حلم یستحیل تحقیقه.
- ولماذا؟
- لأنه من المستحیل أن تؤسس حضارة على الخوف والكراهیة والقسوة، فمثل هذه الحضارة إن وجدت لا یمكن أن تبقى.
- ولم لا؟
- لأنها ستكون خلواً من أي حیویة ومن ثم ستتفسخ وتنهار من داخلها.
- هذا هراء، إنك واقع تحت تأثیر الاعتقاد بأن الكراهیة تستنزف طاقات الإنسان أكثر مما یفعل الحب، فلم ذلك؟ وحتى لو افترضنا أن اعتقادك صحیح فما أهمیة ذلك؟ ولنفترض أننا اخترنا أن نفني أنفسنا بشكل أسرع، ولنفترض أننا سرعنا وتیرة الحیاة الإنسانیة بحیث یشیخ الناس في الثلاثین من أعمارهم، فما أهمیة ذلك؟

ألا تستطیع أن تفهم أن موت الفرد لیس موتاً ما دام الحزب خالداً أبدیاً؟
وكالعادة ترك صوت أوبراین ونستون في حالة من العجز والیأس،

وفوق ذلك فقد خشي إن هو استمر في مقارعته لأوبراین، أن یدیر الأخیر قرص التعذیب مرة أخرى، إلا أنه مع كل ذلك لم یحتمل البقاء صامتاً، ولذلك عاود ونستون الهجوم ولكن بصوت خافت وحجة واهیة وخوف مما توعده به أوبراین:
- لست أدري ولست أبالي، لكنكم ستفشلون على أیة حال، لا بد أن شیئاً ما سیقهركم، إن الحیاة نفسها ستهزمكم.
فرد أوبراین: إننا نسیطر على الحیاة في جمیع مستویاتها یا ونستون، إنك تتخیل أن هنالك شیئاً اسمه الطبیعة الإنسانیة سیغضبها ما نفعله، ومن ثم فإنها سوف تنقلب علینا. ولكن ما لا تعرفه هو أننا نعید خلق الطبیعة الإنسانیة، فالإنسان قابل للتحول بشكل غیر محدود، أو لعلك عدت إلى فكرتك القدیمة التي مفادها أن العامة أو العبید سیثورون علینا ویطیحون بنا من سدة الحكم.

أخرج هذه الفكرة من ذهنك تماماً لأن هؤلاء عاجزون عجز الحیوانات، ولأن البشریة هي الحزب نفسه، وما عدا ذلك فهو معدوم الأهمیة وخارج نطاقها».
- إنني لا أبالي بما تقول، ففي النهایة سوف یهزمونكم. سوف یرونكم على حقیقتكم إن عاجلاً أو آجلاً وساعتئذ سیمزقونكم إرباً إرباً
هل لدیك دلیل على أن ذلك سیحدث؟ أو سبب یحتم حدوث ذلك؟
- كلا، ولكني أعتقد ذلك، إنني موقن أنكم ستفشلون، ففي هذا العالم شيء لا أدري طبیعته، ربما یكون روحاً أو مبدأ، لن تتغلبوا علیه مطلقاً.

- إذن أي مبدأ ذلك الذي ترى أنه سیهزمنا؟
- لست أدري، ربما كانت روح الإنسان.
- وهل تعتبر نفسك إنساناً؟
- أجل.
- إن كنت إنساناً یا ونستون فأنت آخر إنسان، لقد انقرض نوعك، ونحن الوارثون. هل تدرك أنك وحید في هذا العالم، وأنك أصبحت خارج مجرى التاریخ. إنك لست موجوداًثم تغیرت لهجته وقال بصوت أشد خشونة: «إنك تعتبر نفسك أسمى منا خلقاً لما تعرفه عنا من كذب وقسوة؟»
- اجل إنني أعتبر نفسي كذلك.
وهنا سكت أوبراین عن الكلام، وسمع صوتان آخران یتكلمان.

وبعد لحظة أدرك ونستون أن أحد الصوتین صوته هو، لقد كان شریطاً مسجلاً للحدیث الذي دار بینه وبین أوبراین من حوار لیلة انضمام ونستون إلى جماعة الأخوة. وسمع ونستون نفسه وهو یعد بأن یكذب ویسرق ویزور ویقتل ویروج المخدرات ویشجع الدعارة وینشر الأمراض الجنسیة ویشوه وجوه الأطفال.

وقام أوبراین بإشارة تدل على نفاد صبره وكأنه یقول إن هذا التظاهر الذي یكتنفه لا جدوى منه، ثم ضغط على مفتاح فأوقف الصوت.
وقال: «انهض من ذلك السریر»
وانحلت الأربطة من تلقاء ذاتها، فنزل ونستون عن السریر ووقف مترنحاً
وقال أوبراین: «إنك آخر إنسان، إنك حارس الروح الإنسانیة.

سوف ترى نفسك على حقیقتها. انزع عنك ثیابك».
فك ونستون الرباط الذي كان یمسك ثیابه ولم یكن یذكر إن كان قد خلع ثیابه منذ أن ألقي القبض علیه أم لا. وكان المعطف یواري تحته أسمال بالیة مصفرة اللون بدا له أنها بقایا ملابسه الداخلیة،

وما إن طرحها هي الأخرى أرضاً ووقف عاریاً حتى رأى مرآة ذات ثلاثة أوجه في الطرف الأقصى من الغرفة، فدنا منها ثم توقف مفزوعاً وانخرط في بكاء حار بلا إرادة منه.
فقال أوبراین: «تقدم وقِف بین جناحي المرآة حتى ترى الجانب الآخر من نفسك».
لكن ونستون توقف لهول ما رأى، لقد رأى هیكلاً عظمیاً محدودب الظهر رمادي اللون، لقد أفزعته الهیئة التي رآها وأفزعه أكثر إدراكه أن هذه هیئته، ودنا ونستون أكثر من المرآة فرأى وجهاً ناتئة عظامه وخیل إلیه أنه یرى وجه طائر بائس محبوس في قفص، وجبهة ضامرة تنتهي براس صلعاء وأنف معقوف وعظام خدین تبدوان محطمتین وترتكز علیهما عینان تشعان خوفاً وحذراً، وكان الخدان مجعدین والفم مسحوب للداخل.

لم یكن لدیه ریب في أن ذلك هو وجهه ولكن بدا له أنه تغیر أكثر مما تغیر هو من داخله، فالانفعالات التي سجلها كانت تختلف عن تلك التي یشعر بها. لقد تساقط شعر رأسه، بل لقد خال للوهلة الأولى أنه

شاب أیضاً، لكنه عرف فیما بعد أن فروة رأسه فحسب هي التي أخذت لوناً رمادیاً. وفیما عدا وجهه وكفیه فقد رأى جسمه كله رمادیاً وقد اصطبغ بأقذار قدیمة علقت به.

وكانت تنتشر في كل أنحاء جسمه وتحت هذه الأقذار ندبات جروح ملتهبة، وبالقرب من كاحله كانت دوالي ساقیه ملتهبة وقد تشقق عنها الجلد. لقد أفزعه حقاً الهزال الذي حل بجسمه، لقد ضاق قفص أضلاعه حتى بدا كهیكل عظمي، ونحلت ساقاه حتى بدت ركبتاه أغلظ من فخذیه.

وحینئذ أدرك ما كان أوبراین یقصده حینما طلب منه أن یقترب من المرآة حتى یرى الجانب الآخر من نفسه. لقد كان تقوس العمود الفقري شیئاً مریعاً وكانت الكتفان النحیلتان مشدودتین إلى الأمام في تقعر بحیث تصنعان من قفصه الصدري تجویفاً. وكانت رقبته النحیلة تنوء تحت ثقل جمجمته. ولو أن ونستون سئل أن یخمن من هو صاحب ذلك الجسم لقال أنه جسم رجل في الستین یعاني من مرض عضال.
قال أوبراین: «لقد كنت ترى أحیاناً أن وجهي الذي هو بمثابة وجه الحزب الداخلي هرماً متعباً. فكیف ترى وجهك الآن؟»
وأمسك أوبراین بكتف ونستون وأداره نحوه ثم استطرد قائلاً:
- انظر إلى ما آلت إلیه حالك! انظر إلى الأوساخ تكسو جسمك،

انظر إلى القذارة تتخلل أصابع قدمیك، انظر إلى القیح ینسال من التقرحات التي في ساقیك. هل تعلم أنك أصبحت أنتن من عنزة قذرة؟ أغلب الظن أنك لم تعد تلاحظ ذلك. انظر إلى الهزال الذي ألم بك،
هل تراه؟ إن في استطاعتي أن أقبض على كتفك بإبهامي وسبابتي، وفي استطاعتي أن أنتزع رقبتك مثل جزرة. هل تعلم أنك فقدت خمسة وعشرین كیلوجراماً من وزنك منذ أن وقعت في قبضتنا؟

حتى شعر رأسك صار یتساقط بغزارة. انظر ها هي خصلة شعر وأراه إیاها بعد أن انتزعها من رأس ونستون. افتح فمك، آه لم یبق في فمك إلا أحد عشر سناً. هل تذكر كم كان عددها عندما جئت إلینا؟ بل إن البقیة الباقیة تتساقط هي الأخرى أیضاً
وأمسك سناً من أسنان ونستون الباقیة وانتزعه بإبهامه وسبابته من جذوره، فشعر ونستون بألم ممض في فكه، ثم رمى أوبراین السن فوق أرض الزنزانة.
ومضى أوبراین یقول: «إنك تهترئ وتتآكل. إنك لم تعد إلا كیساً من الأقذار. استدر وانظر إلى المرآة مرة ثانیة. هل ترى ذلك الشيء الذي یواجهك؟ إنه آخر إنسان. وإن كنت إنساناً، فهذه هي الإنسانیة. والآن ارتد ثیابك».

وبدأ ونستون یرتدي ثیابه بحركات بطینة متخشبة، ولم یكن حتى هذه اللحظة قد انتبه إلى ما وصل إلیه من الضعف والهزال. ولم یكن یدور بباله غیر فكرة واحدة وهي أنه مكث في هذا المكان أكثر مما كان یتصور.

وفجأة وبعد أن ارتدى تلك الأسمال مرة ثانیة تملّكه شعور بالأسى على جسمه البالي. وقبل أن یعرف ما

الذي كان یفعله وجد نفسه یجلس منهاراً على مقعد بجوار السریر ثم راح یذرف الدمع على حاله. لقد أدرك أنه أصبح قبیحاً وبشعاً فجلس كومة من العظام الملفوفة في خرق بالیة وراح یبكي حاله تحت الضوء الباهر، ولم یستطع أن یمنع نفسه من البكاء فوضع أوبراین یده على كتفه بقدر من اللطف وقال له:
- لن تظل على هذه الحال إلى الأبد، یمكنك أن تنجو بنفسك من هذه الحال إذا شئت ذلك. إن كل شيء مرهون بإرادتك.

فقال ونستون بین شهقات بكائه: «أنت فعلت ذلك! إنك أنت الذي أوصلتني إلى هذه الحال».
فرد أوبراین: (كلا یا ونستون، بل أنت الذي أوصلت نفسك إلى هذه الحال حینما نصبت من نفسك عدواً للحزب. لقد كان كل ذلك نتیجة لجرمك الأول. وما من شيء حدث لك إلا وكنت على بینة من أنه سیحدث».
وتوقف برهة عن الكلام ثم استأنف قائلاً:
- لقد ضربناك یا ونستون وحطمناك. وها أنت قد رأیت ما آل إلیه جسمك، إن عقلك قد أصبح في مثل حال جسمك. ولا أظن أنه قد بقي لدیك شيء من كبریائك، لقد ركلناك بالأقدام وجلدناك بالسیاط

وعرضناك لكل الإهانات حتى كنت تصرخ من شدة الألم وتدحرجت على الأرض مضرجاً بدمائك غارقاً في قیئك. لقد ركعت طالباً الرحمة، وخنت كل شخص، أو شيء، تعرفه. هل تستطیع أن تجد لوناً من الإهانة والإذلال لم تذقه على أیدینا؟
وكف ونستون عن النحیب رغم أن الدموع ظلت تنهمر من عینیه

وتطلّع إلى أوبراین وهو یقول:
- لكنني لم أخن جولیا.
فنظر إلیه أوبراین بإمعان ثم قال: «هذا صحیح، إنك لم تخن جولیا».
وعاد التبجیل الغریب، الذي كان ونستون یكنه لأوبراین، یغمر قلبه من جدید.
وقال محدثاً نفسه: كم هو متوقد الذكاء! إنه لم یخفق مرة واحدة في استكناه ما یقال له. فأي شخص آخر على وجه الأرض في مكانه كان سیجیب عن سؤالي بأنني قد خنت جولیا.

فلیس هنالك ما عجز أوبراین عن انتزاعه مني تحت وطأة التعذیب. ولا بد أنني أنبأتهم بكل شيء عنها وعن عاداتها وشخصیتها وحیاتها الماضیة. ولا شك أنني قد اعترفت بتفاصیل كل ما جرى بیننا في لقاءاتنا وكل ما قالته لي وقلته لها، وبالوجبات المهربة من السوق السوداء وبالفاحشة التي اقترفناها معا وبتآمرنا الغامض ضد الحزب. ولكنه قال له إنه لم یخن جولیا لإدراكه أنه لم یزل مقیماً على حبها، لقد أدرك أوبراین من كلامه ما كان یعنیه دون شرح أو تفسیر.
وسأل ونستون: « ّأخبرني، متى سیطلقون علي الرصاص؟»
فرد أوبراین: «ربما یتعین علیك أن تنتظر طویلاً، فأنت حالة صعبة. لكن لا تقطع حبل الرجاء، فكل شخص لا بد أن نشفیه إن عاجلاً أو آجلاً. ولسوف نطلق علیك الرصاص في نهایة المطاف».

كانت حالة ونستون الصحیة تتحسن تحسناً واضحاً، فقد راح جسمه یزداد قوة وامتلاء یوماً بعد یوم، هذا إن صح أن یتحدث المرء عن الأیام.
كان الضوء الباهر وصوت الطنین مستمرین تماماً كما كانا من قبل، غیر أن سبل الراحة بالزنزانة أصبحت متوفرة أكثر بقلیل عن ذي قبل، فوضعوا له على السریر فراشاً ووسادة، وجاؤوا له بمقعد وسمحوا له بالاستحمام بصورة منتظمة في حوض من الصفیح، بل وأعطوه ماء دافئاً للاغتسال، كما زودوه بملابس داخلیة وبزة، وعالجوا دوالي ساقیه الملتهبة وقدموا له طقم أسنان صناعیة بعد أن خلعوا ما كان قد بقي له من أسنان.
ولا بد أن أسابیع وربما شهوراً قد مرت وهو على هذه الحال، وقد أصبح بوسعه الآن أن یحصي الأیام واللیالي فیما لو شاء ذلك،

حیث أصبحت وجبات الطعام تقدم له بصفة منتظمة، وحسب تقدیره كان یتناول ثلاث وجبات خلال الأربع والعشرین ساعة،

كان یقدم له فیها طعام جید إلى حد بعید حیث كانت الوجبة الثالثة دائماً تحتوي على لحم، بل وذات مرة أعطوه علبة من السجائر،

ولأنه لم یكن لدیه ثقاب فقد كان الحارس الصامت دائماً یعطیه ثقاباً، ولدى أول محاولة من جانبه للتدخین انتابته نوبة سعال حادة، لكنه ثابر على ذلك وراح یدخن نصف سیجارة عقب كل وجبة.

يتبع....

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك