رواية 1984 لجورج أورويل : القسم الخامس والاربعين


وأعطوه لوحاً للكتابة وقلم رصاص لكنه لم یستعملهما أول الأمر، فحتى في فترات استیقاظه كان یشعر وكأنه مخدر، وغالباً ما كان یستلقي بین كل وجبة وأخرى دون أن یتحرك، فكان یستغرق في نوم عمیق في بعض الأحیان، بینما یروح في أحیان أخرى في حالة من التأمل والتفكیر كان یتعذر علیه خلالها أن یفتح عینیه رغم أنه كان قد أَِلف منذ وقت طویل أن ینام والضوء القوي مسلط على وجهه.

وكان یتخلل هذه الساعات الطوال أحلام كثیرة كانت سارة في معظمها، فتارة یتراءى له أنه في الریف الذهبي وتارة أخرى یتراءى له أنه جالس وسط أطلال ضخمة تنعكس علیها أشعة الشمس وبصحبته أمه وجولیا وأوبراین ولا یفعلون شیئاً سوى الجلوس تحت أشعة الشمس والحدیث عما ترتاح له النفس.

ولم تكن أفكاره في معظمها تخرج عن تلك الأحلام التي یراها ویبدو أنه قد فقد كل قدرة على التفكیر بعد زوال أسباب الألم عنه.

ومع كل ذلك لم یكن یشعر بالملل أو بالرغبة في الحدیث إلى أحد، أو حتى في التلهي بأي شيء، فكل ما كان یتطلّع إلیه هو أن یبقى وحیداً لا یضربه أو یستجوبه أحد وأن یحصل على كفایته من الطعام وأن یتاح له أن ینظف جسمه.
وعلى نحو تدریجي صار یمضي ساعات أقل في النوم، إلا أنه لم یكن یشعر بأي دافع لمغادرة فراشه، فقد كان كل همه أن یستلقي في هدوء ویستشعر العافیة وهي تدب في أوصاله من جدید، فكان

یتحسس بأصابعه أنحاء جسمه المختلفة لیتحقق من أن نمو عضلاته واستدارتها واشتداد جلده لیس خداعاً بصریاً،

ولم یعد یساوره شك في أن جسمه آخذ في الامتلاء حتى أن فخذیه أصبحا أغلظ من ركبتیه. وبعد فترة بدأ، بشيء من النفور أول الأمر، یمارس بعض التمرینات الریاضیة على نحو اعتیادي. ولم یمض

وقت طویل حتى أصبح بمقدوره أن یمشي ثلاثة كیلومترات مقدراً إیاها بخطواته التي یقطعها داخل الزنزانة، كما أن كتفیه المقوستین راحتا تستقیمان. وحاول أن یؤدي بعض التمرینات الأعقد لكن شعوراً بالصدمة والمذلَّة قد تََملَّكه حینما وجد نفسه عاجزاً لا یقوى على ذلك، فلم یستطع أن یحمل المقعد بذراعه، كما لم یستطع أن یقف على ساق واحدة دون أن یسقط أرضاً.

وكان إذا جلس على عقبیه لم یستطع النهوض ثانیة إلا بألم شدید في فخذه وربلة ساقه،

وإذا انبطح على بطنه وحاول أن یرفع جسمه عن الأرض یعجز عن رفع جسمه ولو سنتمتراً واحداً، لكنه بعد بضعة أیام تمكن من ذلك أیضاً. وراح یتباهى بجسمه ممنّیاً نفسه بأن وجهه قد أخذ یعود إلى شكله الطبیعي، لكنه حینما یحدث أن یتحسس رأسه الأصلع فإنه یتذكر ذلك الوجه المهشم المملوء بالتجاعید الذي نظر إلیه في المرآة أول مرة.
وازداد ذهنه نشاطاً، فقد كان یجلس في السریر متكئاً بظهره إلى الحائط وواضعاً لوح الكتابة على ركبتیه محاولاً الشروع في إعادة تثقیف نفسه.
لقد قرر الاستسلام، هذه مسألة لا ریب فیها. والواقع أنه كان على استعداد للاستسلام حتى قبل فترة من اتخاذه لهذا القرار. فمنذ اللحظة التي أدخل فیها إلى وزارة الحب، بل منذ أن وقف هو وجولیا متسمرین في مكانهما حینما راح ذلك الصوت المنبعث من شاشة الرصد یملي علیهما ما یفعلانه، أدرك سخف وحماقة سعیه لأن ینصب من نفسه عدواً للحزب. لقد أدرك الآن أنه وعلى مدى

سبع سنوات كانت شرطة الفكر تراقبه مثل خنفساء تحت عدسة مكبرة، وأنه لم یكن یأتي بحركة أو ینطق بكلمة إلا سجلوها علیه،

ولم تكن ترد على خاطره فكرة إلا سبروا غورها، بل حتى ذرات الغبار الأبیض التي كان یضعها على غلاف مذكراته كانوا یستبدلونها، كما أنهم أسمعوه أشرطة صوتیة مسجلة وأروه صوراً فوتوغرافیة بعضها كانت تجمع بینه وبین جولیا. لقد خلص إلى أنه لم یعد یستطیع أن یناصب الحزب العداء فضلاً عن أن الحزب

على حق دائماً، ولا بد أنه على حق، إذ كیف یعقل أن یكون العقل الجماعي الخالد على خطأ؟

وبأي معاییر خارجیة یمكن تقییم أحكامه؟ إن لسلامة العقل مقاییس إحصائیة، والمسألة برمتها لا تقتضي أكثر من مجرد أن تتعلم التفكیر بالطریقة التي یفكرون بها.
وحینما شعر بأن القلم بات غلیظاً ومزعجاً لأصابعه راح یسجل الأفكار التي كانت تدور برأسه، فكتب وبأحرف كبیرة غیر واضحة:
الحریة هي العبودیة
ثم ودونما توقف كتب تحتها:
اثنان واثنان یساویان خمسة
وحینئذ أحس بنوع من الجمود وبدا له أن حالة من الجمود قد تملكت عقله حتى بات عاجزاً عن التركیز لتهیّبه من شيء ما. كان یعلم أنه یعرف ما الذي سیعقب ذلك، لكنه لم یكن یستطیع أن یتذكره الآن، وعندما تذكره لم یكن ذلك إلا بفعل قدرته على تقدیر ما هو من المفترض أن یكون، أي أنه لم یأت تلقائیاً. فكتب یقول:
الله هو السلطة
لقد تقبّل كل شيء، وخلص إلى أن الماضي قابل للتغییر رغم أنه لم یتغیر أبداً. كما اقتنع بأن أوقیانیا كانت في حرب مع إیستاسیا وأنها كانت في حرب معها بصفة دائمة وبأن كل من جونز وآرنسون وراذرفورد قد اقترفوا الجرائم التي أدینوا بها وبأنه لم یر أبداً الصورة التي تبرئ ساحتهم، فهذه الصورة لم توجد البتة وإنما هو الذي اخترعها. وتذكر أشیاء متناقضة لكنه اعتبرها ذكریات زائفة ناتجة عن خداع الذات. وأدرك كم أن الأمر سهل،

فلم یكد یستسلم حتى وجد أن كل شيء أصبح مؤاتیاً ویأتي من تلقاء ذاته. إن الأمر أشبه بمن یسبح ضد تیار یجرفه إلى الوراء مهما كان قویاً، ثم فجأة قرر تغییر الاتجاه والسباحة مع التیار بدلاً من معاكسته. وما من شيء تغیر في ذلك إلا موقفه:

فما كان مقدراً سلفاً كان سیحدث على أي حال، ولم یكن یعرف إلا بالكاد لماذا تمرد. فكل شيء كان سهلاً ولسیراً ما عدا...!
إن أي شيء یمكن أن یكون صحیحاً، ولیس فیما یدعى بقوانین الطبیعة إلا هراء، وقانون الجاذبیة ما هو إلا عبث. ألم یقل أوبراین «لو شئت لجعلت أرضیة هذه الغرفة تطفو كفقاعة الصابون».

وأدرك ونستون الموضوع على النحو التالي: إذا كان أوبراین یظن أن بمقدوره أن یجعل أرضیة الغرفة تطفو، وإذا ظننت أنا في الوقت نفسه أنني أراه یفعل ذلك، فإن الأمر یكون قد حدث بالفعل. وفجأة انبجست الفكرة التالیة في عقله انبجاس كتلة من حطام سفینة غارقة تطفو فوق سطح الماء:

إن ذلك لا یحدث في واقع الأمر وإنما نحن نتوهمه، إنه هذیان، لكنه سرعان ما طرد هذه الفكرة من مخیلته رغم أن المغالطة جلیة وواضحة، إنه یفترض أن ثمة عالماً حقیقیاً تقع فیه الحوادث الحقیقیة موجود في مكان ما خارج النفس، ولكن كیف یمكن أن یوجد عالم مثل هذا العالم؟ وهل من معرفة لم تردنا عن طریق عقولنا؟ فكل شيء یحدث في العقل وكل ما یحدث في العقل إنما هو ما یحدث حقاً.

لم یجد صعوبة في دحض هذه المغالطة، كما أن خطراً لم یكن یتهدده إن هو لم یذعن لها. لكنه خلص رغم ذلك إلى أنه ما كان ینبغي أن تخطر بباله هذه المغالطة، كما أن العقل ینبغي أن یكون بمثابة بقعة عمیاء حینما تخطر له أي من تلك الأفكار الخطرة.

وهذه عملیة یجب أن تحدث تلقائیاً وبوحي من الغریزة، أو كما أسموها في اللغة الجدیدة «إیقاف الجریمة».

وشرع یمرن نفسه على إیقاف الجریمة، وأخذ یواجه نفسه بفرضیات مثل: یقول الحزب إن الأرض مستویة، ویقول إن الثلج أثقل من الماء، ثم راح یمرن نفسه على ألا یرى أو یفهم ما یساق من براهین تدحض هذه الفرضیات، ولم یكن ذلك بالأمر الیسیر لأنه كان یستلزم قدرات عظیمة على التحكم في العقل والذكاء.

ولذلك كانت المسائل الحسابیة التي تثیرها مثلاً عبارة مثل «اثنان واثنان یساویان خمسة» أبعد من أن یتفهمها عقله، وهي تتطلب أیضاً شكلاً من أشكال ریاضة العقل وقدرة على استخدام المنطق إلى أقصى الحدود ثم، وفي اللحظة ذاتها، التعامي عن أوضح المغالطات المنطقیة، ومن ثم كان الغباء لازماً لزوم الذكاء بل هو أصعب منالاً
وكان یتساءل طوال تلك الأوقات متى سیطلقون علیه النار. لقد قال أوبراین «إن الأمر كله یتوقف علیك»، ولكنه كان یدرك أنه لیس في استطاعته أن یفعل ما یقرب هذا الأمر، فقد یحدث ذلك خلال عشر دقائق من الآن أو عشر سنوات، فربما یبقونه في سجن انفرادي لسنوات، وربما یرسلونه إلى معسكر من معسكرات الأشغال الشاقة، أو ربما یطلقون سراحه ردحاً من الزمن كما كان دیدنهم في بعض الأحیان، ومن الجائز تماماً أنهم قبل أن یطلقوا علیه الرصاص یمكن أن یعیدوا تمثیل مسرحیة اعتقاله واستجوابه من جدید.

أما الشيء الوحید الذي كان واثقاً منه هو أن الموت لن یأتیه إلا بغتة، فقد كان عرفاً غیر معلن أن یطلقوا النار على المرء من الخلف، ودائماً في مؤخرة رأسه ومن دون إنذار سابق أثناء سیره من زنزانة إلى أخرى عبر أحد الممرات.
وذات یوم، وإن كانت عبارة «ذات یوم» لیست بالتعبیر الصحیح هنا، إذ أغلب الظن أن ذلك حدث في منتصف اللیل حینما استغرق في حلم جمیل غریب، تراءى له أنه بینما كان یسیر عبر الممر مترقباً أن تأتیه الرصاصة في أي لحظة، تناهى إلى علمه أنها ستأتیه في لحظة أخرى.

وهنا شعر بارتیاح وهدأت شكوكه وزالت مخاوفه وآلامه وسكت عن الجدل. كان جسمه مفعماً بالحیویة

والقوة وكان یسیر بخفة تحت ضیاء الشمس وقد امتلأت خطواته بهجة وفرحاً بذلك، لم یعد یسیر عبر ممرات وزارة الحب الضیقة الكالحة وإنما في مرج فسیح تذهبه أشعة الشمس حتى ظن أنه واقع تحت تأثیر جرعة من المخدرات. لقد تراءى له أنه في الریف الذهبي یسیر فوق الحشائش الخضراء وأشعة الشمس الرقیقة تداعب وجنتیه، كما كان باستطاعته أن یشعر بالحشائش القصیرة وهو یطأها بقدمیه. وعند حافة هذا المرج كانت أغصان أشجار الدردار تتمایل بینما ینساب من تحتها جدول من الماء یسبح

فیه بعض السمك النهري.

وفجأة جفل مفزوعاً، وأخذ العرق یتصبّب من عموده الفقري، ثم سمع نفسه یصرخ بأعلى صوته: جولیا! جولیا! جولیا! حبیبتي جولیا!

وانتابته في ذلك الوقت حالة هذیان جارفة جعلته یعتقد بوجود جولیا أمامه، وبدا له أنها لیست معه فحسب، وإنما تغلغلت في داخله حتى أصبحت جزءاً من كیانه. وفي تلك اللحظة شعر نحوها بحب غامر لم یشعر به حینما كانا طلیقین معاً، كما أحس بأنها لا تزال على قید الحیاة وأنها في حاجة إلى أن یمد لها ید العون.
اضطجع في فراشه وهو یحاول أن یهدى من روعه، وتساءل ما الذي دهاه حتى یفعل ما فعل؟

وكم سنة أضاف إلى سنوات عبودیته بسبب لحظة الضعف هذه؟
وتصور أنه سوف یسمع وقع أقدام الحراس بعد لحظات، إذ لا یمكن أن یتركوا مثل هذا العمل یمر دون قصاص، وسوف یدركون الآن،

إن لم یكونوا قد أدركوا سلفاً، أنه قد خرق الاتفاق الذي أبرمه معهم. نعم لقد انصاعت إرادته للحزب لكن قلبه لا یزال یضمر له الكراهیة. لقد كان فیما مضى یخفي عقلاً ضالاً وراء مظهر من مظاهر الامتثال للحزب، أما الآن فقد ارتد على عقبیه: لقد استسلم بعقله، وكان یأمل أن یظل قلبه المكنون لا یمسسه شيء. كان یدرك أنه على خطأ، ولكنه فضل أن یتمسك بخطئه، فلا قائدة ترجى من التراجع، ولا بد أنهم سینتبهون إلى ذلك وسینتبه إلیه أوبراین بلا ریب، فهو قد اعترف بكل شيء في تلك الصرخة الرعناء حینما راح یصرخ منادیاً على جولیا.
وسیتوجب علیه أن یبدأ الطریق الذي قطعه من جدید، وربما استغرق ذلك منه سنوات. وراح ونستون یتحسس وجهه بیده محاولاً أن یألف الشكل الجدید الذي أخذه، كانت هنالك تجاعید عمیقة في وجنتیه، كما بدت عظامه ناتئة، فیما كان الأنف مفلطحاً، فضلاً عن طقم الأسنان بعد آخر مرة نظر إلى نفسه في المرآة.

وأدرك أنه لم یعد من السهولة بمكان أن یحتفظ المرء بغموض تعبیرات وجهه فیما لا یعرف شكل وجهه. ومع ذلك فإن مجرد السیطرة على تعبیرات الوجه لم تعد تكفي لإخفاء أي سر، فقد استبان له وللمرة الأولى أنه إذا ما رام المرء أن یخفي سراً فعلیه أن یخفیه حتى عن نفسه التي بین جنبیه وألا یدعه یطفو أبداً على سطح الوعي في أي شكل من الأشكال أو تحت أي مسمى من المسمیات إلا في اللحظة التي یحتاج إلیه فیها. وأدرك ونستون أنه من الآن فصاعداً بات یتوجب علیه ألا یكون تفكیره تفكیراً قویماًفحسب، وإنما أیضاً مشاعره وأحلامه. كما علیه في جمیع الأوقات أن یحتفظ بكراهیته في حرز حریز في أعماق نفسه مثل جسم مادي هو جزء من كیانه ولكنه مع ذلك لا یتصل ببقیة أعضاء

جسمه.

لا شك أنهم یوماً ما سیطلقون علیه الرصاص، لكنه لم یكن یستطیع أن یحدد متى سیحدث ذلك، وإن كان من الجائز أن یتمكن من التكهن بذلك قبیل وقوعه بثوان. إن الرصاصة تأتي دائماً من الخلف أثناء اجتیاز السجین أحد ممرات وزارة الحب. إن معرفته المسبقة بوقت إطلاق النار علیه بعشر ثوان كافیة، فهذه الثواني العشر كفیلة بأن تقلب عالمه الداخلي رأساً على عقب. إذ فجأة،

وبدون سابق إنذار وبدون أن یتوقف عن السیر وبدون أن یطرأ تغییر على أي خلجة من خلجات وجهه، یسقط القناع الذي كان یلبسه وتمتلئ نفسه بكراهیة أشبه بلهیب مستعر. وفي هذه اللحظة نفسها تقریباً تنطلق الرصاصة إما قبل الأوان أو بعد فواته.

يتبع....

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك