رواية 1984 لجورج أورويل : القسم الثلاثون


أخیراً حدث ما كان ونستون یترقبه، لقد جاءته الرسالة المرتقبة والتي خیل إلیه أنه أمضى كل حیاته منتظراً مجیئها.فبینما كان یسیر عبر الممر الطویل بالوزارة قرب النقطة التي وضعت فیها جولیا رسالتها خلسة في یده، شعر بأن شخصاً یفوقه في الحجم یسیر وراءه مباشرة. وقد سعل هذا الشخص سعلة خافتة توطئة لبدء حدیثه.

فما كان من ونستون إلا أن توقف فجأة واستدار، فإذا به أمام أوبراین.وأخیراً أصبح ونستون وجهاً لوجه مع أوبراین، وبدا لونستون أن حافزاً واحداً یحركه الآن، وهو أن یلوذ بالفرار.

وأخذ قلبه یخفق خفقاناً شدیداً، وانعقد لسانه عن الكلام، ولكن أوبراین واصل سیره في الاتجاه نفسه وربت على كتف ونستون بلطف حتى یتسنى لهما أن یسیرا جنباً إلى جنب. ثم استهل كلامه بأسلوب ینم عن وقار واحترام فریدین كانا یمیزانه عن غالبیة أعضاء الحزب الداخلي.

وقال: «لقد كنت أتحین فرصة للحدیث معك، فقد قرأت بالأمس إحدى مقالاتك باللغة الجدیدة في صحیفة التایمز، وبدا لي أنك تولي هذه اللغة اهتماماً علمیاً أكادیمیاً، ألیس كذلك؟»
كان ونستون قد استعاد بعضاً من رباطة جأشه، فقال: «لا أستطیع أن أقول إنه اهتمام علمي، فأنا هاو لها فقط، كما أنها لیست موضوع اختصاصي، ناهیك عن أنني لم أشارك من قریب أو بعید من یدرسون تركیباتها الفعلیة».
فقال أوبراین: «ولكنك تكتبها ببراعة وأسلوب واضح، وهذا لیس رأیي وحدي، فقد كنت أتحدث مؤخراً مع أحد أصدقائك وهو لا شك من الخبراء بها. ولكن لا تسعفني ذاكرتي باسمه في هذه اللحظة.»
عاد قلب ونستون یخفق بشدة من جدید، إذ لم یكن ذلك إلا إشارة إلى سایم، وسایم لم یكن قد مات فحسب، وإنما امحى وكأنه لم یكن له وجود. وباتت أي إشارة محددة إلیه تنطوي على خطر قاتل.

ولذلك ظن ونستون أن ملاحظة أوبراین هي بمثابة إشارة أو شیفرة، وكونه یشترك معه في جریمة من جرائم الفكر مهما صغرت، فإن ذلك یجعلهما شریكین. وتابعا السیر ببطء عبر الممر إلى أن توقف أوبراین لبرهة، وبحركته المعهودة الغریبة والمفعمة بود تأتلف له القلوب أعاد تثبیت نظارته فوق عینیه. ثم استطرد:«إن ما أردت فعلاً قوله هو أنني لاحظت أنك قد استخدمت في مقالك كلمتین بطل استعمالهما، إلا أن ذلك لم یحدث إلا مؤخراً جداً. ترى هل اطلعت على الطبعة العاشرة من معجم اللغة الجدیدة؟»
قال ونستون: «كلا، أظن أن هذه الطبعة لم تصدر بعد، فنحن ما زلنا نستخدم الطبعة التاسعة في قسم السجلات».
فقال أوبراین: «أعتقد أن الطبعة العاشرة لن تظهر قبل عدة شهور إلا أن بضعة نسخ تجریبیة قد وزعت ولدي واحدة منها. ولعله ّیهمك أن تطلع علیها؟»
وعلى الفور أجاب ونستون وقد تراءى له أنه أدرك ما یرمي إلیه أوبراین: «نعم یهمني جداً».
فقال أوبراین: «إن بعض التحسینات الأخیرة التي أجریت على اللغة الجدیدة تدل على إبداع حقیقي، فتخفیض عدد الأفعال مثلاً هو إحدى النقاط الجدیدة التي ستحوز إعجابك على ما أظن. هل ارسل لك المعجم مع أحد السعاة؟ ولكني أخشى أن أنسى شیئاً مثل هذا كعادتي، ولعله من الأفضل أن تأتي إلى شقتي في وقت یناسبك لتأخده؟ انتظر ریثما أعطیك عنواني».كانا یقفان أمام إحدى شاشات الرصد، وبحركة عفویة تحسس أوبراین جیوبه ثم أخرج مفكرة مبطنة بالجلد وقلم حبر مذهب، ووقف أسفل شاشة الرصد مباشرة یكتب العنوان في وضعیة تتیح لمن یراقب على الطرف الآخر من الشاشة أن یقرأ ما یكتبه، ثم نزع الورقة التي كتب علیها وسلمها لونستون.
وقال: «إنني في العادة أكون في المنزل مساء. فإن لم تجدني، فسیعطیك خادمي المعجم».
ومضى أوبراین تاركاً ونستون ممسكاً بقصاصة الورق التي لم یكن بحاجة إلى إخفائها هذه المرة. ومع ذلك فقد حفظ بعنایة ما كان مكتوباً فیها. وبعد بضع ساعات ألقى بها في مقبرة ثقب الذاكرة مع مجموعة من الأوراق الأخرى.استغرق حدیثهما دقیقتین على الأكثر، ولم یكن لهذا الحدث غیر مغزى واحد محتمل.

لقد حاكه أوبراین بطریقة تجعل ونستون یتعرف على عن وانه. ولم یكن من ذلك بد، فبدون الاستعلام المباشر یستحیل أن یتعرف المرء على عنوان سكن أي شخص آخر. فما من دلیل لذلك من أي نوع.

«إذا ما أردت مقابلتي، فهذا هو العنوان الذي یمكنك أن تجدني فیه».

كان هذا هو ما قاله أوبراین لونستون.

وقال ونستون في نفسه ربما تكون هناك رسالة مخبأة بین صفحات المعجم. ولكن مهما یكن من أمر، هناك شيء واحد بات مؤكداً، وهو أن المؤامرة التي كان یحلم بها جاریة بالفعل وأنه یقف على أعتابها.
كان یعلم أنه سیلبي دعوة أوبراین إن عاجلاً أو آجلاً. ربما كان ذلك غداً، أو بعد زمن أطول، فذلك ما لم یكن یعرفه على وجه الدقّة. لكن الذي حدث في هذا الیوم لم یكن سوى حصاد لعملیة بدأها منذ سنوات.

فالخطوة الأولى التي خطاها كانت مجرد فكرة سریة لا إرادیة، وأما الثانیة فكانت المفكرة وكتابة المذكرات. لقد انتقل من الأفكار إلى الأقوال، والآن ها هو ینتقل من الأقوال إلى الأفعال.

وأما الخطوة الأخیرة فهي شيء ما سیحدث في وزارة الحب وعلیه أن یتقبلها. فالنهایة توجد في طیات البدایة، ولكنها نهایة مخیفة أو بعبارة أدق، هي أشبه بتذوق مسبق لطعم الموت قبل أن یجيء، وأشبه بكونك حیاً ولكن لا معنى لحیاتك. وحتى عندما كان یتحدث مع أوبراین ویفطن لمعاني كلماته، كانت تعتریه رعدة یرتجف لها جسمه،

وینتابه إحساس بأن قدمیه تهویان به نحو رطوبة القبر، ولم یكن هذا الإحساس جدیداً علیه لأنه كان یدرك دائماً أن القبر هنالك في انتظاره.

استیقظ ونستون وعیناه مغرورقتان بالدموع، وكانت جولیا تتقلب بجواره وهي شبه نائمة، وغمغمت بكلمات ربما كانت «ما الخطب؟»
فقال: «لقد كنت أحلم أن...»، ثم انعقد لسانه ولم یكمل القول، فقد كان الأمر معقداً إلى حد تعجز الكلمات عن وصفه. لقد بقي الحلم نفسه والذكرى المرتبطة به عالقین في باله لبضع لحظات عقب استیقاظه.
بقي ونستون مضطجعاً، مغمضاً عینیه اللتین كان ما زال یخیم علیهما أجواء الحلم. لقد كان حلماً ممتداً صافیاً بدت له حیاته كلها فیه وقد انبسطت أمامه كمنظر طبیعي لا یحده إلا الأفق على جبل وقد غسل بماء المطر في عصر یوم صیفي. لقد حدث كل ذلك في جوف الثقل الزجاجي والذي كان سطحه بمثابة قبة السماء التي كان ما بداخلها مغموراً بضیاء صافي ناعم یمكن للمرء أن یرى خلاله مسافات لامتناهیة.

وفي الحلم تراءت له حركة ذراع أمه وهي تحتضن أخته الصغیرة، والتي تكررت ثانیة بعد ثلاثین سنة ولكن من امرأة یهودیة شاهدها في إحدى الفقرات الإخباریة وهي تحاول عبثاً أن تقي صغیرها من طلقات الرصاص، قبل أن تنقض علیهما الهلیكوبتر فتحولهما إلى أشلاء.
فقال لها: «هل تعلمین أنني كنت حتى هذه اللحظة أعتقد أنني قتلت أمي؟»
فسألته جولیا والنعاس یغالبها: «ولماذا قتلتها؟»
فأجابها: «أنا لم أقتلها. لم أقتلها بالمعنى العادي للكلمة»

وكان ونستون قد استحضر في الحلم تلك النظرة الأخیرة التي ألقاها على أمه، وما هي إلا لحظات بعد استیقاظه حتى تداعت إلى ذهنه كافة التفاصیل التي اقترنت بالمشهد. إنها الذكرى التي حاول عن عمد طوال سنوات أن یدفعها خارج دائرة وعیه، وإن كان ونستون لا یذكر متى حدث ذلك على وجه التحدید، فإنه یذكر أن عمره آنذاك لم یكن یقل عن عشر سنوات أو اثنتي عشرة سنة.
كان أبوه قد اختفى قبل وقت من وقوع الحادثة. كم من الوقت تحدیداً، لا یذكر أیضاً. بید أنه كان یتذكر الأجواء المشحونة بالقلق والصخب التي كانت تخیم على تلك الفترة: فقد كان یذكر دوي الغارات الجویة وما یسببه من نوبات هلع یهرع الناس على أثرها إلى محطات قطارات الأنفاق، ولذكر أكوام الأنقاض التي ملأت كل الأماكن وسدت كل المنافذ، والإعلانات غیر المفهومة والتي كانت تعلق في كل زاویة من زوایا الشوارع وجماعات الشبیبة ذوي القمصان الموحدة اللون والأرتال الهائلة من الناس یصطفون أمام الأفران والأصوات المتقطعة لطلقات المدافع الرشاشة وهي تسمع من بعید، وإضافة إلى كل ذلك یذكر أن الناس لم یكن لدیهم ما یكفیهم من الطعام.

كما یذكر الساعات الطوال التي كان یمضیها مع غیره من الصبیة وهم یحومون حول أكوام القمامة بحثاً عن عروق أوراق الملفوف وقشور البطاطس بل وحتى أحیاناً یبحثون عن كسر الخبز العفنة التي یمسحون عنها الرماد بعنایة، أو یمضونها في انتظار الشاحنات التي تنقل علف المواشي عند طرقات یعرفونها على أمل أن یتساقط بعضه على الأرض فیتناولونه.
وعندما اختفى أبوه لم تظهر أمه أي أمارة من أمارات الذهول أو الحزن الفاجع على اختفائه، لكن ثمة تغییراً فجائیاً آخر قد طرأ علیها، إذ بدت وكأن روحها قد أزهقت تماماً. لقد أصبح جلیاً حتى لونستون آنذاك أنها باتت تنتظر شیئاً تدرك أنه لا بد آت، فقد كانت تقوم بكل واجبات المنزل، فتطهو وتغسل الملابس وترتقها وترتب الفراش وتكنس الغرفة وتمسح الغبار، وكانت تؤدي كل تلك الواجبات ببطء قاتل وبسأم شدید حتى لكأنها تمثال یتحرك من تلقاء ذاته. وكان بنیانها الضخم حسن الشكل یبدو كأنه یرتد إلى حالة من السكون.

فكانت تمضي الساعات جالسة فوق السریر جامدة لا تحرك ساكناً اللهم إلا العنایة بأخته الصغیرة، تلك الطفلة التي تبلغ من العمر سنتین أو ثلاث سنوات ضئیلة الجسم معتلّة الصحة ساكنة الحركة والتي رق وجهها حتى أصبح شبیهاً بوجه قرد. وفي أحیان كثیرة كانت أمه تأخذه بین ذراعیها وتضمه إلى صدرها فترة طویلة من الوقت دون أن تنبس بكلمة. ورغم صغر سنه وأنانیته كان ونستون یعي أن تصرفات أمه ترتبط بطریقة ما بذلك الشيء وشیك الحدوث والذي لم تشر إلیه أبداً وتذكر ونستون تلك الغرفة التي كانوا یعیشون فیها رغم عتمتها ورائحتها العفنة وضیق مساحتها، والتي یشغل نصفها سریر ذو غطاء أبیض.

كان هنالك موقد للطهي ورف لحفظ الطعام، وخارج الغرفة كان یوجد حوض بُني لغسل الأواني والذي كانت تشترك فیه أكثر من غرفة. وكذلك تذكر ونستون أمه بجسمها الممشوق كالتمثال وهي تنحني على الموقد لتقلب شیئاً كانت تضعه في القدر.

وإضافة إلى كل ذلك تذكر إحساسه الدائم بالجوع والمعارك الشرسة التي كانت تندلع كلما حان وقت الطعام حینما كان یسائل أمه مراراً وتكراراً وبلهجة متذمرة عن سبب عدم وجود المزید من الطعام، وحینما كان یصرخ ویثور علیها، بل وحتى تذكر نبرة صوته حینما كان یتحایل علیها ببكاء یستدر العطف والشفقة من أجل الحصول على نصیب أكبر من حقه.
وكانت أمه مستعدة دائماً لأن تعطیه أكثر من حصته فقد كانت تسلم بذلك، فهو «الولد» وینبغي أن یحظى بأكبر الحصص. ومع ذلك فقد كان كلما أعطي یطلب المزید. وكانت أمه ترجوه عند كل وجبة ألا یكون أنانیاً وأن یتذكر أن أخته الصغیرة مریضة وبحاجة إلى الطعام أیضاً.
إلاّ أن رجاءها كان یذهب عبئاً. بل وكان یصرخ غاضباً إذا توقفت عن سكب الطعام له، وكثیراً ما كان ینتزع القدر والملعقة من بین یدیها أو یغتصب بعض القطع من طبق أخته. ومع أنه كان یدرك ان أمه وأخته قد تموتان جوعاً بسببه، فإنه لم یكن یستطیع منع نفسه عن ذلك، بل كان یرى أن من حقه أن یفعل ذلك، فقد كانت عضات الجوع التي تنهش أحشاءه تسوغ له ذلك. وبین الوجبات كان من دأبه أن یسرق ما تطاله یداه من مخزون الطعام الموضوع فوق الرف إذا سهت أمه عن حراسته.

وذات یوم وزعت علیهم مخصصاتهم من الشوكولاتة والتي كان قد مضى على انقطاعها أسابیع أو شهور. وكان ونستون لا یزال یذكر بوضوح تلك القطعة الصغیرة والثمینة من الشكولاتة التي أعطیت لثلاثتهم وكانت تزن أوقیتین (كانت الأوقیة لم تزل مستخدمة في تلك الأیام). وكان بدیهیاً أن تقسم إلى ثلاثة أقسام متساویة، فراح ونستون فجأة یصرخ بأعلى صوته طالباً الاستئثار بقطعة الشوكولاتة برمتها، ولكن أمه نهرته وطلبت منه ألا یكون شرهاً، ودار بینهما جدال طویل مزعج لم یخل من الصیاح والنحیب والدموع والاحتجاجات والمساومات، ووسط كل ذلك كانت أخته الصغیرة تتشبث بكلتا یدیها بأمها،

تماماً مثلما تفعل صغار القردة، وهي تنظر إلیه بعینین شاخصتین یملأهما الحزن. وفي النهایة اقتطعت أمه من الشوكولاتة ثلاثة أرباعها وأعطتها لونستون فیما أعطت الربع الباقي لأخته. وأمسكت الطفلة الصغیرة بقطعة الشوكولاتة وراحت تحملق فیها ربما لأنها لم تكن تعرف ما هي،

أما ونستون فقد راقبها للحظة ثم وبقفزة سریعة ومباغتة انتزع قطعة الشوكولاتة من یدها ولاذ بالفرار.
وصاحت به أمه: «ونستون، ونستون، ارجع! أعد قطعة الشوكولاتة لأختك!»فتوقف ونستون عن الركض لكنه لم یرجع، وكانت عینا أمه القلقتین تحملقان فیه. وحتى في تلك اللحظة كان یفكر في ذلك الشيء الوشیك والذي لا یعرف كنهه. وأما أخته فما كادت تفطن إلى أن شیئاً ما قد سلب منها حتى انخرطت في ولولة واهنة،

فراحت الأم تحیطها بذراعیها وتضمها إلى صدرها، وكان في هذه الحركة ما یوحي لونستون بأن أخته تلفظ أنفاسها الأخیرة، لكنه استدار غیر آبه بشيء وولى هارباً في حین كانت قطعة الشوكولاتة تذوب في یده. ولم یقدر له أن یرى أمه ثانیة، فما إن فرغ من التهام قطعة الشوكولاتة حتى تملّكه شعور بالخزي من نفسه وراح یهیم لساعات على وجهه في الشوارع لا یعرف له مقصداً حتى إذا شعر بالجوع ینهشه قفل راجعاً إلى البیت. لكنّه لم یجد أمه فقد اختفت، وكانت عملیات الاختفاء أمراً مألوفاً في تلك الآونة.

وجد ونستون كل شيء في الغرفة على حاله لم یمسسه أحد عدا أمه وأخته اللتین لم تأخذا شیئاً من ثیابهما وحتى معطف أمه كان في مكانه. وحتى الیوم هذا لا یعرف على وجه الیقین إن كانت أمه قد لقیت حتفها أم لا، فمن الجائز جداً أن تكون قد أرسلت إلى أحد الاماكن، مثلما حدث معه بمعسكرات الأشغال الشاقة، أما أخته فربما نُِقهوها إلى إحدى مستعمرات الأطفال المشردین التي كان یطلق علیها «مراكز الإصلاح» والتي كانت أعدادها قد ازدادت نتیجة كثر الحرب الأهلیة. أو لعلها في معسكر الأشغال برفقة أمها، أو وحیدة في مكان ما لتموت جوعاً أو إهمالاً كان الحلم ما یزال حیاً في ذاكرته، خصوصاً حركة ذراعي أمه الحانیة وهي تطوق بهما طفلتها وهي حركة كانت تنطوي على معان كثیرة.

وعادت به ذاكرته إلى حلم آخر كان قد حلم به قبل شهرین، عندما ظهرت له أمه في سفینة تغرق والطفلة تتشبث بها، تماماً كما كانت جالسة على حافة السریر القذر في البیت، وهو یراهما من علو شاهق تغرقان وتغرقان إلى أعماق سحیقة لكنها ما تزال تنظر إلیه بعینین شاخصتین عبر المیاه المظلمة.
وروى ونستون لجولیا قصة اختفاء أمه، ودون أن تفتح عینیها راحت تتحرك على الفراش حتى باتت في وضع أكثر راحة. وقالت على نحو غامض: «أظنك كنت وغداً صغیراً في هاتیك الأیام، ولا بأس فكل الأطفال أوغاد».
فقال لها: «أجل، ولكن النقطة الهامة في القصة هي...».
لكنه أمسك عن الكلام حینما لاحظ من إیقاع أنفاسها أنها عادت إلى النوم ثانیة. وكان یود الاستمرار في حدیثه عن أمه. فمن كل ما یذكره عنها لم یكن یرى فیها امرأة غیر عادیة أو ذكیة، لكنها مع ذلك ظلت تتسم بالنبل وتتصف بالطهارة كونها كانت تتصرف وفق معاییر أخلاقیة خاصة بها. فمشاعرها كانت تنبع من داخلها ولا یمكن لأي قوى خارجیة أن تؤثر علیها. ولم تعتقد أبداً أن أي عمل مهما بدا غیر مؤثّر یمكن أن یكون عدیم المعنى والجدوى. وكانت تؤمن بأن المرء إذا أحب شخصاً فیجب أن یخلص له الحب، حتى إذا لم یبق لدیه شيء یمنحه إیاه، بقي لدیه ذلك الحب. لذلك عندما انتزع ونستون قطعة الشوكولاتة الأخیرة من ید أخته احتضنت الطفلة بین ذراعیها لتعوضها عنها حناناً وحباً. وبالرغم من أن ذلك كان عدیم الجدوى ولم یغیر من الأمر شیئاً ولم يرجع للطفلة قطعة الشكولاتة، كما لم یحل دون موتها أو موت الطفلة،

يتبع....

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك