رواية 1984 لجورج أورويل : القسم السادس والعشرون


وعلى نحو مفاجئ عاود التفكیر في كاترین والتي كانت ولا ریب ستشي به إلى شرطة الفكر لولا أنها كانت من الغباء إلى حد یجعلها لا تدرك الانحرافات الحاصلة في آرائه عن عقیدة الحزب،

لكن الشيء الذي جعلها تخطر بباله حقیقة هو حرارة الجو الخانقة في ذلك التوقیت والتي جعلت العرق یتفصد من جبینه، فبدأ یخبر جولیا عن شيء قد حدث، أو بالأحرى لم یحدث في ظهیرة صیف أخرى شدیدة القیظ منذ إحدى عشرة سنة.
كان ذلك بعد ثلاثة أو أربعة أشهر من زواجه، حینما ضلا طریقهما أثناء رحلة جماعیة في مقاطعة «كنت»، ولم یتخلفا عن الأخرین سوى دقیقتین إذ سلكا منعطفاً خاطئاً، وفي الحال وجدا نفسیهما عند جرف لمحجر طباشیر قدیم بلغ ارتفاعه ما بین عشرة أو عشرین متراً وفي القاع كانت تتراكم كتل من الصخور. وقد ضلا طریقهما، وحالما أدركا ذلك بدت كاترین شدیدة الانزعاج،

فقد كان مجرد بعدها عن الضجیج المنبعث من أصوات الرفاق كفیلاً بأن یشعرها بأنها قد اقترفت إثماً. وكانت ترید العودة سریعاً من الطریق الذي سلكاه خطأً ثم تبدأ البحث في الاتجاه الآخر. بید أنه في هذه اللحظة استرعى انتباه ونستون بعض الزهور التي تنمو وسط شقوق الجرف الذي تحتهما. وكان بعضها ذا لونین، رغم أنهما ینبتان من الجذر نفسه.
ولأن ونستون لم یكن قد رأى زهوراً كهذه من قبل، فقد صاح:

«انظري كاترین! انظري إلى هذه الزهور. تلك التي تنمو قرب القاع. إنها ذات لونین مختلفین؟»
كانت كاترین قد ولت وجهها نحو طریق العودة، ولكنها اضطرت مغتاظة أن تعود. وانحنت برأسها فوق حافة الجرف لتنظر إلى حیث یشیر، كان ونستون یقف خلفها على بعد مسافة قلیلة منها وقد وضع یده حول خصرها خشیة أن تفقد توازنها. وفي هذه اللحظة خطرت بباله فجأة فكرة أنهما وحیدان تماماً؛ فما من مخلوق بشري حولهما وما من ورقة شجر تهتز بل ولا طائر یرفرف بجناحیه. وفي مكان كهذا المكان كان احتمال وجود میكروفون مخبأ احتمالاً ُجد ضئیل، وحتى لو وجد میكروفون فإنه لن یلتقط إلا الصوت. لقد كانت تلك الساعة أشد ساعات الظهیرة قیظاً وأكثرها إغراء للنوم، حیث كانا یصطلیان تحت أشعة الشمس، وتتصبب حبات العرق على وجه ونستون. وسرعان ما خطرت له الفكرة....
سألته جولیا: « به ولماذا لم تلقها من فوق الجرف؟ لو كنت مكانك لفعلت».
فقال: «نعم عزیزتي كنت ستفعلین. بل إنني كنت سأفعل، أو ربما كنت سأفعل، ذلك أیضاً لو أنني كنت على ما أنا علیه الآن. إنني لست متأكداً على أیة حال».
- هل أنت آسف على أنك لم تفعل؟
- اجل، إجمالاً أنا آسف.
كانا یجلسان جنباً إلى جنب على الأرض المغطاة بالغبار فجذبها إلیه وضمها ثم أراح رأسها على كتفه فتغلبت رائحة شعرها الجمیلة على رائحة روث الحمام. كانت في میعة الصبا ولا تزال تنتظر الكثیر من الحیاة، بید أنها لم تدرك أن دفع شخص بغیض من فوق جرف والتخلص منه لن یحل المشكلة.
قال: «الواقع أن ذلك لم یكن لیغیر من الأمر شیئاً».
قالت جولیا: «علام إذن الأسف لأنك لم تتخلص منها؟»
قال: « لأنني أفضل الإیجابي على السلبي، ففي هذه اللعبة التي نلعبها لیس في استطاعتنا أن نفوز، إذ كل ما في الأمر أن بعض الفشل أهون من بعض».
وحینذاك أحس بارتعاشة سرت في كتفیها كدلالة على عدم موافقتها، إذ كانت تعارضه دائماً كلما تفوه بأشیاء من هذا القبیل.

فهي لا تسلّم إطلاقاً بفكرة أن قانون الطبیعة یحكم على الفرد دائماً بالهزیمة. وبطریقة ما كانت تعلم أن مصیرها إلى زوال، ذاك أن شرطة الفكر، إن عاجلاً أو آجلاً، ستلقي القبض علیها وتزیلها من الوجود. لكنها من وجهة نظر أخرى كانت تؤمن أنه من الممكن، بشكل من الأشكال، إقامة عالم یعیش في الخفاء ویمكنك العیش فیه حسبما تشاء وتختار. وكل ما تحتاج إلیه لتحقیق ذلك العالم هو حظ

ودهاء وجرأة. بید أنها لم تدرك أنه لیس ثمة ما یسمى بالسعادة،

وأن النصر الوحید الذي یمكن تحقیقه قابع في المستقبل البعید الذي سیأتي بعد موتك بأمد طویل، كما لم تكن تدرك أنه یجدر بالمرء أن یعتبر نفسه جثة بلا روح منذ اللحظة التي یعلن فیها الحرب

على الحزب.
علق: «إننا في عداد الموتى».
فقالت جولیا بإصرار: «إننا لم نمت بعد».
قال: «أوافقك أننا لم نمت جسدیاً. لكن بعد ستة أشهر، سنة، خمس سنوات حسبما أتصور سنكون من الموتى. إنني أخاف الموت، وأنتي أصغر مني سناً وربما تخافین الموت أكثر مني. لا ریب أننا سنحاول إرجاء قدومه قدر المستطاع، وإن كان ذلك لن یغیر من حقیقة الأمر شیئاً، فما دام الإنسان هو الإنسان فإن الموت والحیاة لدیه یصبحان وجهین لعملة واحدة».

قالت جولیا: «إن هذا لهراء. ترى مع أي منا تحب ان تنام الآن، معي أم مع هیكل عظمي؟ ألا تستمتع بكونك على قید الحیاة؟ ألا تحب أن تتحسسني؟ ها أنا ذا، وهذه یدي، وهذه ساقي، أنا حقیقیة،

أنا موجودة، إنني حیة! ألا تحب هذا؟»

ودنت منه لتضغط بصدرها على صدره. أحس نهدیها ناضجین وبارزین من خلال معطفها. وبدا جسدها كما لو كان یصب بعضاًمن عنفوانها وحیویتها في جسده.
فأجاب: «بلى، أحب ذلك».
قالت: « إلي عزیزي، علینا إذن كف عن ذكر الموت. والآن أصغ أن نتفق على موعد لقائنا القادم، یمكننا أن نعود إلى مكاننا في الغاب، فقد غبنا عنه فترة طویلة، ولكن یجب علینا أن نسلك طریقاً آخر هذه المرة. لقد حددت كل شيء. استقل القطار... لكن انظر، سأرسمه لك»
وبطریقتها العملیة مسحت جزءاً صغیراً من الأرض المغطاة بالغبار، واستلّت ریشة من عش حمام وراحت ترسم خریطة الطریق.

راح ونستون یُقلب نظره في زوایا الغرفة الوضیعة الصغیرة الكائنة فوق حانوت السید شارنغتون. كان فیها سریر ضخم ینتصب مرتباً بجوار النافذة وعلیه أغطیة بالیة. وكان فوق المتكأ العلوي للمدفأة ساعة عتیقة من ذات الاثني عشر رقماً تسمع دقاتها. وفي زاویة الغرفة شبه المعتمة كان یومض وعلى نحو

ضعیف ثقل الورق الزجاجي الذي اشتراه في آخر زیارة له إلى ذلك الحانوت.
قرب سیاج المدفأة كان هنالك موقد زیتي من الصفیح أكل الدهر علیه، فضلاً عن إبریق وفنجانین أمده بها السید شارنغتون.

أشعل ونستون شریط الموقد ثم وضع فوقه إبریق الماء لیغلي، وكان قد أحضر معه عبوة من قهوة النصر وبعض مكعبات السكرین. كانت عقارب الساعة تشیر إلى الخامسة مساء، فیما هي في الواقع

السابعة والثلث. أما موعد وصول جولیا فكان في السابعة والنصف.
راح قلبه ینبض خوفاً بكلمات: إنها لحماقة! إنها لحماقة، إني أجرجر نفسي متعمداً إلى موت زؤام مجاني، فالجریمة التي أوشك على ارتكابها هي من الجرائم التي لا یمكن لعضو الحزب أن یتملّص منها.
لقد انبجست في ذهنه هذه الفكرة للمرة الأولى وأثارتها في مخیلته رؤیته للثقل الزجاجي الذي انعكس على سطح الطاولة المطویة.

وكما تكهن فإن السید شارنغتون لم یجد غضاضة في أن یؤجر الغرفة له، وبدا جلیاً أن حفنة الدولارات التي سیدرها علیه ذلك قد سرته كثیراً حتى أنه لم یظهر علیه أي أثر لصدمة أو شعور بالتأذي لدى معرفته بأن ونستون ینوي أن یتخذها ملاذاً لممارسة الحب، بل وعلى النقیض من ذلك راح یتظاهر بعدم المبالاة وجعل یسترسل في الحدیث عن مبادئ عامة وبلهجة لطیفة تعطي انطباعاً بأنه لیس له وجود بالغرفة. وقال لقد كانت الخصوصیة شیئاً ثمیناً جداً، فالمرء یحتاج من وقت لآخر إلى موئل یختلي فیه بنفسه،

وأصول اللیاقة الاجتماعیة تقضي بأن یحتفظ كل من تناهى إلى معرفته هذا الأمر بالمعلومات لنفسه، بل وبدا وكأنه یتلاشى نهائیاً ویلغي وجوده وهو یضیف قائلاً: «إن للمنزل مدخلین، أحدهما یمر عبر الساحة الخلفیة ویطل على زقاق».
وتحت النافذة كان هنالك شخص یغني، فاسترق ونستون النظر محتمیاً وراء ستار الموسلین، وكانت شمس حزیران لا تزال في كبد السماء، حیث كان ینظر في الساحة التي غمرتها الشمس إلى تلك المرأة الضخمة التي جعلها بنیانها المتین أشبه بعمود نورماندي، فكانت ذات ساعدین مفتولي العضلات حمراوي اللون تلف حول خصرها مئزراً، كما كانت تروح وتجيء بین وعاء الغسیل والحبل حیث كانت تعلق أشیاء صغیرة بیضاء اللون أدرك ونستون أنها حفاضات أطفال، وكانت كلما انتهت من مشاجب

الغسیل التي تحملها بین شفتیها تنطلق بالغناء بصوت جهوري:
«كان حلماً مقطوع الرجاء مر كیوم من نیسان ولكن بنظرة وكلمة وأحلام أثاروها استُلب مني فؤادي».
ظلت أصداء هذه الأغنیة تتردد في أنحاء لندن على مدى أسابیع،

لقد كانت واحدة من أغنیات مشابهة لا حصر لها یوجهها أحد فروع قسم الموسیقى إلى العامة، وكانت كلماتها تؤلف دون أي تدخل بشري بواسطة جهاز یعرف باسم «الناظم». غیر أن المرأة كانت تغنیها بطریقة بعثت الحیاة في كلماتها ما جعل هذه السخافات الكئیبة تتحول إلى أصوات تبعث على السرور.

كان ونستون یسمع المرأة وهي تغني، كما یسمع وقع احتكاك حذائها وهي تجرجره على أحجار الشارع مختلطاً بصراخ الأطفال في الشارع. كما كان یتناهى إلى السمع هدیر خافت لحركة الشاحنات یأتي من أفق بعید، ومع ذلك ظل سكون عجیب یخیم على الغرفة، وربما كان مرد ذلك عدم وجود شاشة رصد في الغرفة.
وعاد یحدث نفسه: یا لها من فكرة حمقاء، إنه لمن المستبعد التردد على هذا المكان لأكثر من بضعة أسابیع بغیر افتضاح سترهما.

ولكن فكرة أن یمتلكا مكاناً مغلقاً وآمناً وفي متناولهما كانت تمارس على كلیهما إغراء لا یقاوم، إذ تعذّر علیهما لفترة بعد لقائهما في برج الكنیسة ترتیب لقاءات جدیدة، فقد ازدادت ساعات العمل بشكل لا یحتمل استعداداً لفعالیات «أسبوع الكراهیة». ومع أنه كان لا یزال هناك شهر قبل حلول هذا الأسبوع فإن الاستعدادات الهائلة والمعقدة التي تسبقه ألقت بمزید من الأعباء على كاهل كل شخص. وأخیراً تمكن كل منهما من تدبیر نصف یوم عطلة في الیوم نفسه، وكانا قد اتفقا على أن یعودا إلى مخدعهما في الغاب. وفي المساء الذي سبق الموعد المضروب التقیا على نحو خاطف في الشارع، وكالمعتاد لم یتطلع ونستون مباشرة إلى جولیا وهما یسیران وأحدهما في اتجاه الآخر في قلب

الزحام، بید أنه مع ذلك لاحظ من خلال هذه النظرة الخاطفة أن جولیا أكثر شحوبا من ذي قبل.
وحینما تبین لها أن لا خطر یتهددها إن هي تكلمت، غمغمت تقول: «لقد تم إلغاء الموعد، أقصد موعد الغد».

يتبع....

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك