رواية 1984 لجورج أورويل : القسم الثاني عشر


في قاعة الطعام ذات السقف المنخفض، تحت سطح الأرض، كان یتحرك ببطء. فالقاعة كانت تغص بمن فیها والضجیج یصم الآذان. ومن فوق قضبان طاولة توزیع طعام الغداء كانت أبخرة الطعام المسلوق تتصاعد بقوة ، مصحوبة برائحة حمضیة لاذعة ، مع ذلك لم تتغلب على رائحة خمر النصر. وفي الجانب الأقصى من القاعة كان هنالك ثقب صغیر في الحائط حیث یستطیع المرء شراء قدح مترع بالخمر مقابل عشرة سنتارت.
«ها هو للرجل الذي كنت أبحث عنه» صاح صوت یأتي من خلف ونستون. استدار ونستون وإذا به یجد صدیقه القدیم سایم الذي یعمل في دائرة البحوث . (ربما كانت كلمة «صدیق» لیست بالكلمة الدقیقة تماماً، ففي تلك الأیام لم یكن للمرء أصدقاء، بل رفاق. غیر أنه كان من بین الرفاق من رفقته ألطف من رفقة غیره). كان سایم لغویاً اختصاصیاً في اللغة الجدیدة . إنه بالفعل أحد أعضاء فریق ضخم من خبراء یعكفون الآن على جمع وتصنیف الطبعة الحادیة عشرة من قاموس اللغة الجدیدة. كان سایم مخلوقاً وضئیل الجسم ، أصغر حجماً من ونستون ذا شعر أسود وعینین واسعتین جاحظتین علیهما مسحة من الحزن المفعم بالسخریة، تبدوان كأنهما تتفحصان وجهك اثناء حدیثه إلیك.
ابتدره سایم قائلاً: «كنت أود أن أسألك ما إذا كان لدیك شفرات حلاقة».
«ولا واحدة» قال ونستون بشيء من العجالة والشعور بالذنب،

«لقد بحثت في كل مكإن، لكنها لم تعد موجودة الآن».

كان الجمیع لا یكفون عن السؤال عن شفرات الحلاقة، وكان ونستون في حقیقة الأمر لدیه شفرتان لم یستعملهما بعد، غیر أنه یدخرهما لوقت تمس فیه الحاجة. كان ثمة نقص حاد في الشفرات منذ أشهر مضت. فدائماً كان هنالك سلعة من السلع الضرویة التي لم تعد متاجر الحزب تزود المواطنین بها. تارة تكون الأزرار، وتارة خیطان الصوف الخاص برتق الملابس، وأخرى رباطات الأحذیة، أما الآن فهي شفرات الحلاقة التي لا یمكنك للعثور علیها إلا باستجدائها بصورة شبه سریة من السوق السوداء.
وأضاف ونستون كاذباً: «إنني استعمل الشفرة نفسها منذ ستة أسابیع».
تحرك الصف مرة أخرى للأمام. وعندما توقف التفت ونستون إلى سایم ثانیة. تناول كل منهما صینیة معدنیة سطحها لزج من أثر الشحوم، من كومة صینیات على حافة الطاولة.
بادر سایم بالسؤال: «هل ذهبت ورأیت السجناء وهم یشنقون البارحة؟»
قال ونستون بشيء من اللامبالاة: «كنت في العمل، الأرجح أني سأشاهدهم على الشاشة.»ّ
فرد سایم: « إن ذلك لا یغني أبداً».
وكانت عیناه الساخرتان تحدقان بوجه ونستون وكأنهما تقولان له:

« أنا أعرفك، وأرى ما في داخلك، وأعرف جیداً لماذا لم تذهب لمشاهدة السجناء ینشنقون.» على المستوى الفكري، كان سایم شدید الولاء لأیدیولوجیة الحزب، إذ تراه یتكلم بشماتة وبابتهاج كریهین عن غارات شنتها الطوافات على قرى العدو وعن المحاكمات والاعترافات التي أدلى بها مجرمو الفكر، وعن الإعدامات التي تنفذ داخل زنزانات وزارة المحبة. أما إذا أردت

أن تتكلم إلیه، فإن ذلك یتوقف على مدى قدرتك على الانتقال بالحوار لموضرع آخر لإبعاده عن مثل هذه المواضیع واستدراجه، إذا أمكن ذلك، للحدیث عن جمالیات اللغة الجدیدة التي كان مولعاً بها وبارعاً فیها. أشاح ونستون بوجهه جانباً

لیتحاشى النظرة الفاحصة لعیني سایم الواسعتین السوداوین.
قال سایم معقباً: «كانت عملیة شنق جیدة ، غیر أنهم على ما أعتقد أفسدوها بربط القدمین معاً، كنت أحب أن أراهم وهم یرفسون بها. لكن اللحظة الأكثر إثارة كانت تأتي في النهایة، وذلك حینما یتدلى اللسان إلى الخارج وقد أصبح داكن الزرقة. إن تلك اللحظة هي التي تحوز إعجابي.»
«التالي من فضلكم» صاح العامل ذو المریلة البیضاء وبیده مغرفة.
دفع كل من ونستون وسایم بصینیته تحت القضبان فوضع لكل منهما بسرعة الوجبة المقررة: قصعة معدنیة من طعام مسلوق ذي لون قرمزي رمادي، وكسرة من الخبز، ومكعب من الجبن، وفنجان من قهوة النصر الخالیة من الحلیب، وقطعة سكر واحدة.
قال سایم: «هنالك طاولة شاغرة تحت شاشة الرصد، لنأخذ في طریقنا إلیها قدحین من الخمر».
كانت الخمر تقدم لهم في أقداح من الصیني بلا مقایض. وشقا طریقهما عبر القاعة الغاصة بالناس ، ثم وضع كل منهما صینیته على الطاولة ذات الغطاء المعدني، والتى كانت تغطي إحدى زوایاها مستنقعات صغیرة من حساء خلّفه بعضهم، بد وكأنه طعام تقیأه شخص ما. أخذ ونستون قدحه من الخمر، وبعد أن توقف لحظة لیستجمع قواه تجرع تلك المادة ذات الطعم الزیتي جرعة واحدة . وعندما نفرت الدموع من عینیه، أحس فجأة أنه كان جائعاً. فأخذ یزدرد الحساء الذي كانما تخالطه مواد لزجة على هیئة مكعبات هلامیة ذات لون وردي ربما كانت بعض مستحضرات اللحم. وإلى أن أتى كل منهما على قصعته دون أن ینطق بكلمة. ومن الطاولة الواقعة إلى الیسار من ونستون، وراء ظهره بقلیل، كان شخص ما یتكلم على نحو سریع ومستمر، وبجعجعة تشبه صوت بطة، تخترق صخب القاعة كلها.

سأل ونستون بصوت عال لیتغلب على جلبة المكان: «أین وصلت بالمعجم؟»
قال سایم: «إنني أتقدم ببطء. إنني لي باب النعورت. إنه عمل جذاب.»
وتألق وجهه مباشرة لدى ذكر اللغة الجدیدة، فأزاح القصعة جانباً وتناول كسرة خبز بید وبالید الأخرى قطعة جبن، وانحنى برأسه على الطاولة حتى یتسنى له الحدیث بصورت منخفض. وقال: «الطبعة الحادیة عشرة هي طبعة نهائیة، إننا نصوغ اللغة في شكلها النهائي، ذلك الشكل الذي لن یجري حدیث بغیره. عندما نفرغ منه، فإنه سیتحتم على الآخرین من أمثالك أن یتعلموا من جدید مرة ثانیة. لعلك تظن أن مهمتنا الرئیسیة هي ابتكار كلمات جدیدة، لكن لا، لیس البتة، اننا نقوم بتدمیر عشرات الكلمات بل مئات الكلمات , كل یوم یجري تدمیرها. إننا - نسلخ - اللغة حتى العظام . فالطبعة الحادیة عشرة لن تحتوي على كلمة واحدة یمكن أن یبطل استخدامها قبل عام 2050.»

ثم أخذ یقضم قطعة الخبز ویبتلعها بنهم ، وواصل الحدیث بشيء من الحذلقة، وقد بدأ وجهه الأسمر الرقیق مفعماً بالحیویة، وقد زالت النظرة الساخرة من عینیه، وحتال مكانها هدوء حالم. وأضاف بعد تفكیر: «إن تدمیر الكلمات شيء جمیل. بالطبع فإن نسبة الفقد الأكبر تكون في الأفعال والنعورت، إلا أن هناك الكثیر من الأسماء التي یمكن التخلص منها أیضاً، إضافة إلى المفردات والأضداد . ترى ما هو مبرر وجود كلمة هي مجرد نقیض لأخرى؟ فكل كلمة تحمل نقیضها في نفسها. خذ مثلاً كلمة «جیداً إذا كان لدي كلمة مثل «جید»، ما هي الحاجة إذن إلى كلمة مثل «رديء»؟ إن كلمة «غیر جید» تؤدي المعنى تماماً بل إنها أفضل لأنها تحمل المعنى المضاد تماماً، بینما لا تؤدیه الأخرى بالتمام نفسه. ثم أیضاً إذا أردات تعبیراً أقوى لكلمة «جید»، ما فائدة أن یكون لدیك كل هذه السلسلة من الكلمات الغامضة غیر المجدیة مثل «ممتاز» و«رائع» وما شاكلها؟ ألا تغطي كلمة « جید جداً» المعنى، أو كلمة « جید جداً جداً» إنا كنت ترغب في معنى أقوى. من المؤكد أننا نستعمل هذه الصیغ ولكن في الطبعة النهائیة من قاموس اللغة الجدیدة سوف لن تكون موجودة . وفي النهایة سیكون مفهومنا للجودة والرداءة محكوماً كلیة بست كلمات فحسب - أو في الواقع بكلمة واحدة. ألا ترى ذلك أمراً رائعاً یا ونستون؟ لقد كانت الفكرة في الأصل من بنات أفكار الأخ الكبیر».
لاح شيء من الحماس المفتعل على وجه ونستون لدى سماعه ذكر الأخ الكبیر، إلا أن سایم استطاع رغم ذلك أن یتبین على الفور فتوراً في هذا الحماس.
وأردف قائلاً وعلى وجهه علائم الأسف:«یبدو أنك لا تقدر اللغة الجدیدة حق قدرها یا ونستون. حتى عندما تكتبها فإن تفكیرك یظل محكوماً باللغة القدیمة . إنني أقرأ تلك الفقرات التي تكتبها من حین لآخر «التایمز». إنها جیدة نوعاً ما غیر أنها تظل أشبه بالترجمة. إنك في داخلك تمیل إلى استخدام اللغة القدیمة رغم كل ما تحمله من غموض وظلال المعاني غیر المجدیة. أنت لا تدرك روعة تدمیر الكلمات. هل تعرف أن اللغة الجدیدة هي اللغة الوحیدة في العالم التي تتناقص مفرداتها عاماً بعد عام؟»
كان ونستون یعرف ذلك بالتأكید. فابتسم ولم یعلق، آملا الحصول على بعض التعاطف، وخوف أن یخونه لسانه. قضم سایم كسرة أخرى من الخبز الأسمر ثم ابتلعها سریعاً وتابع قائلاً:
«ألا ترى أن الغایة النهائیة للغة الجدیدة هي التضییق من آفاق التفكیر؟ بحیث تصبح جریمة الفكر في نهایة المطاف جرماً

مستحیل الوقوع من الناحیة النظریة، وذلك لأنه لن توجد كلمات

یمكن للمرء من خلالها أن یرتكب هذه الجریمة . فكل مفهوم یحتاج إلیه الناس سیتم التعبیر عنه بكلمة واحدة محددة المعنى

وغیر قابلة للتأویل، أما معانیها الفرعیة فیتم طمسها حتى تصبح طي النسیان . إننا في الطبعة الحادیة عشرة لن نكون بعیدین عن هذا الهدف. ولكن تلك العملیة ستستمر على هذا المنوال إلى أمد حتى بعد رحیلنا أنا وأنت عن هذا العالم. فالكلمات تتناقص عاماً بعد عام، كما یتضاءل مدى الوعي والإدراك شیئاً فشیئاً . بل وحتى في الوقت الراهن لیس هنالك سبباً أو عذر یبرر اقتراف جریمة الفكر. لقد باتت المسألة مجرد انضباط ذاتي وضبط یفرضه المرء على واقعه، وفي النهایة لن تكون هنالك حاجة حتى لذلك. ستبلغ الثورة أوجها حینما تكتمل اللغة ویتم إتقانها. إن الانجسوك هي اللغة الجدیدة واللغة الجدیدة هي الانجسوك. قال هذه العبارة وهو في غایة النشوة، ثم أردف: « هل خطر لك أبداً یا ونستون انه مع حلول عام 2050 على أقصى حد ، لن یتبقى على وجه الأرض إنسان یمكنه فهم حدیث كهذا الذي نتبادله معاً الآن؟»
وعلق ونستون قائلاً: «ولكن دعنا نستثني ... » قالها مرتاباً ولم یكملها.
لقد كان على وشك القول: «نستثني عامة الناس» لكنه تدارك نفسه حینما استشعر أن هذه الملحوظة قد تؤول بطریقة ما باعتبارها نقصاً في الولاء لدیه. ولكن سایم مع ذلك قد استشف ما كان یهم بقوله.
وقال غیر عابئ: « ًإن أبناء عامة الناس لیسوا بشراً. لكن مع حلول عام 2050 أو ربما قبل ذلك، سوف نكون المعرفة الحقیقیة باللغة القدیمة قد تلاشت، وسیكون كل التراث الأدبي القدیم قد اندثر.

ولما أعمال تشوسر وشكسبیر وملتون وبایرون فلن یكون لها وجود إلا عبر تراجم اللغة الجدیدة، ولن یقف التغییر الذي سیلحق بها عند مجرد جعلها تختلف عما كانت علیه، بل سیتحول إلى نقیض ما اعتاده الناس. وحتى أدبیات الحزب ستتغیر، وشعاراته ستتبدل. إذ كیف یمكن أن تتبنى شعاراً مثل: «الحریة هي العبودیة» فیما یكون مفهوم الحریة نفسه قد جرى نسفه؟ إن المناخ الفكري سیكون كله قد تغیر. وفي الحقیقة لن یكون هنالك «تفكیر» على النحو للذي نفهمه الآن، فالولاء یعني انعدام التفكیر بل انعدام الحاجة للتفكیر. الولاء هو عدم الوعي.» وفجأة وبقناعة راسخة فكر ونستون أن سایم لا بد وستتم تصفیته یوماً ما. إنه متوقد الذكاء. إنه یرى ببصیرة نافذة ویتحدث بصراحة شدیدة. والحزب لا یرغب في وجود مثل هؤلاء. یوماً ما سیختفي من الوجود، ذلك ما أراه مكتوباً على جبینه.

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك