أجاب ونستون: «لا، ولا واحدة، إنني أستعمل الشفرة نفسها منذ ستة أسابیع، آسف».
وعاد من جدید ذلك الصوت المجعجع الآتي من الطاولة المجاورة بعدما كان توقف مؤقتاً أثناء إذاعة بیان الوزارة. ولسبب ما وجد ونستون نفسه یفكر في مسز بارصون، بشعرها الملفوف وبالغبار الذي یتخلل تغضنات وجهها. أظن أنه في غضون عامین سیشي بها أطفالها إلى شرطة الفكر. وبعدئذ سیتم تصفیتها، كما ستتم تصفیة سایم وونستون وأوبراین. أما بارصون فلن یحدث له شيء من ذلك أبداً. كما أن ذلك المخلوق الذي بلا عینین صاحب الصوت المجعجع لن تتم تصفیته، وكذلك لن تتم تصفیة هؤلاء الرجال القصار شبیهي الخنافس الذین یتحركون داخل الردهات الملتویة في الوزارات.
وأیضاً تلك الفتاة ذات الشعر الأسود التي تعمل في دائرة الإثارة، لن تتم تصفیتها. بدا له أنه یعرف بالفطرة من سیبقى ومن سیفنى بالرغم من أنه لم یكن من السهل التكهن بمن سیقدر له البقاء.
في هذه اللحظة أفاق من تأملاته بهزة عنیفة. فالفتاة الجالسة إلى الطاولة المجاورة التفتت نصف التفاتة وهي تتطلع إلیه، وكانت هي نفسها الفتاة ذات الشعر الأسود. كانت تنظر إلیه بطرف عینیها ولكن بتركیز مستغرب. وكلما التقت عیناها بعینیه كانت تحید بطرفها عنه. أحس ونستون إذ ذاك بالعرق یتصبب من عموده الفقري. وسرت في أوصاله نوبة فزع شدیدة. ومع أن هذه النوبة قد تلاشت سریعاً، لكنها خلّفت لدیه شعوراً بعدم الارتیاح. وتساءل، ترى ما الذي
یجعلها تراقبه؟ ولماذا تتبعه إلى كل مكان؟ ولسوء حظه لم یستطع أن یتذكر ما إذا كانت جالسة على هذا المقعد قبل مجیئه، أم أنها قد جاءت لاحقاً. ولكنها كانت، بالأمس، تجلس وراءه مباشرة أثناء (دقیقتي الكراهیة) بینما لم یكن ثمة حاجة واضحة تدعوها لذلك.
من المرجح تماماً أن هدفها الحقیقي هو الإصغاء إلیه والتأكد من أنه یهتف بصوت عال. وعاودته فكرته السابقة، فقد لا تكون عضواً في شرطة الفكر، وفي هذه الحالة من المؤكد أنها من الجواسیس وهم الأشد خطراً على الإطلاق. لم یكن یعلم منذ متى وهي تتطلع إلیه، لكن ربما كان ذلك لما یربو على الخمس دقائق. ومن الممكن أن تكون قد فضحته ملامح وجهه. إنه لخطر جسیم أن تدع أفكارك تجري على عواهنها حینما تكون في مكان عام أو ضمن مدى شاشة الرصد.
فأهون الأشیاء یمكن أن تودي بك حتى لو كانت حركة عصبیة صغیرة أو نظرة قلق لا إرادیة أو همهمة اعتادها المرء، أو أي
شيء یوحي بنقص في الولاء.
وفي كل الأحوال فإن ظهور تعبیر انفعالي غیر لائق على وجهك (كأن تبدو علیك علامات الارتیاب حینما یتم الإعلان عن أحد الانتصارات) هو مخالفة تستوجب عقاباً، بل لقد اشتق لذلك اسم في اللغة الجدیدة: جریمة الوجه.عادت الفتاة وأدارت له ظهرها. ففكر ربما أنها لم تكن تلاحقه، وربما كان جلوسها خلفه أو قریباً منه خلال هذین الیومین محض مصادفة.
انطفأت سیجارته فوضعها بعنایة على طرف الطاولة، لعله یعاود تدخینها بعد انتهاء العمل إذا لیم یتناثر تبغها. قد یكون الشخص الجالس إلى الطاولة المجاورة جاسوساً لشرطة الفكر، وربما سیجد نفسه في غضون ثلاثة أیام نزیل إحدى زنزانات وزارة المحبة، لكن عقب السیجارة یجب ألا یذهب هدراً.
طوى سایم شریط الورق ووضعه في جیبه بینما بدأ بارصون یتكلم ثانیة. «هل سبق لي أن أخبرتك أیها الصبي العجوز»، قالها بارصون مبتسماً وهو یمسك بغلیونه، « عما فعله الصغیران الشقیان، حینما قاما بإشعال النار في تنورة بائعة عجوز في السوق عندما رأیاها تلف بعض النقانق بصورة الأخ الكبیر؟ لقد تسللوا خلفها وأشعلوا في تنورتها النار مستخدمین علبة ثقاب. أعتقد أن التنورة قد تضررت كثیراً من ذلك. آه من هذین الشقیین، إنهما ممتلآن حماسة. لا شك أن التدریب الأولي الذي یتلقونه في منظمة الجواسیس هذه الأیام، وهو أفصل من ذاك الذي كنا نتلقاه نحن في أیامنا. هل تعرف ما الذي تم تزولدهم به مؤخراً؟ سماعات بوقیة للأذن یتنصتون بها من ثقوب مفاتیح الأبواب. لقد أحضرت ابنتي الصغیرة واحدة منها أمس وجربتها على باب غرفة الجلوس، ورأت أنها تستطیع بواسطتها أن تسترق السمع ضعفي ما تسترقه
بوضع أذنها على ثقب المفتاح. من المؤكد أن ذلك مجرد لعبة. لكن ألا تظن أن ذلك سیوحي لهم بأفكار مناسبة؟
في هذه اللحظة أطلقت شاشة الرصد صفرة عالیة إیذاناً بالعودة للعمل. فهب الرجال الثلاثة من فورهم وانطلقوا یشقّون طریقهم وسط الزحام الزاحف بحثاً عن مصعد غیر معطل، في حین كان ما تبقى من تبغ في سیجارة ونستون یتناثر على الأرض.
ملاحظة من فريق مكتبة القصص العالمية: هنالك بعض المواقف الجنسية, حاولنا قدر المستطاع اخفائها وتبسيطها, ولكن لا يمكن حذفها نهائياً, لكي تكون الرواية مكتملة.
كتب ونستون في مذكراته:
«كان ذلك منذ ثلاث سنوات مضت، وكان الوقت مساء والظلام مخیماً، وفي شارع جانبي ضیق قرب إحدى محطات القطار
الكبیرة. إلى جانب باب عند حائط، تحت ضوء قندیل ینبعث منه نور ضئیل، كانت تقف امرأة ذات وجه صغیر علیه طلاء كثیف من النوع الذي یروقني في بیاضه الذي یشبه القناع وبشفتین حمراوین لامعتین - نساء الحزب كن لا یطلین وجوههن أبداً -
وكانت الشوارع آنذاك خاویة من المارة ومن شاشات الرصد.
مدت یدها وقالت: «دولارین ... »
توقف ونستون قلیلاً ُ، فقد صعب علیه مواصلة الكتابة. أطبق جفنیه وضغط علیهما بأصابعه محاولاً أن یمحو ذلك المنظر الذي ظل مطبوعاً في مخیلته. وطغت علیه رغبة جامحة في أن یصیح بأعلى صوته متفوهاً بكلام بذيء أو أن یضرب رأسه بالحائط، ویركل الطاولة ویلقي بالمحبرة خارج النافذة... أو أن یأتي بأي عمل من شأنه أن یولّد عنفاً أو یُحدث ضوضاء او یسبب ألماً، عسى أن یطمس ذلك تلك الذكرى التي كانت تؤلمه.
ثم أخذ یردد بینه وبین نفسه: «إن ألد أعدائك هو جهازك العصبي. وما یعتمل في نفسك من توتر قد یورطك في عمل لا تحمد عقباه». تذكر رجلاً مر به في الشارع منذ أسابیع قلیلة مضت. كان مظهره عادیاً تماماً، عضو في الحزب یبلغ من العمر ما بین الخامسة والثلاثین والأربعین، طویل القامة نحیف ويحمل حقیبة صغیرة. لم یكن یفصل بینهما سوى بضعة أمتار عندما رأى الجانب الأیسر لوجه الرجل ینقبض في تشنج فجائي. وتكرر ذلك ثانیة عندما مر كل منهما بالآخر. كانت تلك الحركة عبارة عن رجفة أو ارتعاشة سریعة كطقة مصراع الكامیرا وكان من الواضح أن تلك الحركة عادة عنده. ودار بخلده حینذاك أن ذلك الرجل المسكین قد انتهى أمره. فقد كان المخیف في الأمر أنه من الجائز جداً أن تكون تلك الحركة لا إرادیة. أما الأشد خطراً فهو أن یتكلم أثناء نومه، إذ لم تكن هنالك من وسیلة للاحتراس من ذلك على حد علمه.
استجمع شجاعته ثم عاد إلى الكتابة:
«مضیت معها عبر البوابة ثم اجتزنا الساحة الخلفیة إلى مطبخ في قبو حیث كان هنالك سریر قرب الحائط وعلى الطاولة قندیل خفض نوره إلى أدنى درجة وهي...»
وصر بأسنانه وود لو استطاع أن یبصق. وفي تلك اللحظة ذاتها وفیما هو مع المرأة في المطبخ خطرت على باله زوجته كاترین. فقد كان ونستون متزوجاً في وقت ما، ومن المحتمل أنه كان لا یزال متزوجاً فعلى حد علمه أن زوجته لم تكن قد ماتت بعد. وبدا أنه یستنشق ثانیة الرائحة الساخنة المنبعثة من المطبخ، وهي رائحة تختلط برائحة البق والملابس القذرة والعطر الرخیص الرديء الذي مع ذلك، كان مغریاً لأنه ما من امرأة في الحزب تستعمل عطراً على الاطلاق، وحتى لم یكن ممكناً تصور أنها تفعل ذلك، بل كان ذلك التصرف مقتصراً على عامة الشعب.
وكانت تلك الرائحة تستدعي في ذهنه رغبة ممارسة الجنس دون أن یدرك لذلك سبباً
كانت مجامعته لتلك المرأة هي زلته الأولى منذ سنتین أو یزید. فبكل تأكید كانت معاشرة المومسات أمراً محظوراً. ولكن ذلك كان من بین المحظورات التي یمكنك أن تستجمع شجاعتك لمخالفتها من حین لأخر. لقد كانت مسألة محفوفة بالأخطار لكنها لیست مسألة حیاة أو موت. فإذا تم إلقاء القبض علیك مع إحداهن قد یحكم علیك بقضاء خمس سنوات في معتقل الأشغال الشاقة، لا أكثر من ذلك، إن لم یكن علیك جرم آخر. ولیس ذلك بالأمر الصعب، شریطة ألا یتم القبض علیك متلبساً بالجرم المشهود.
وكانت الأحیاء الفقیرة تغص بالنساء اللواتي كن على استعداد لأن یبعن أنفسهن. فبعضهن یمكن شراؤه لقاء قنینة من الخمر الذي كان یحظر شربه على عامة الشعب. كان الحزب یمیل لتشجیع الدعارة، ولكن بصورة غیر معلنة، باعتبارها متنفساً لغرائز لا یمكن كبتها كلیة. فالدعارة في حد ذاتها لم تكن تهم الحزب كثیراً ما دامت تتم مع نساء الطبقة المحتقرة والمسحوقة في الخفاء ومجردة من أي شعور حقیقي باللذة، أما الجریمة التي لا تغتفر فهي ممارستها بین أعضاء الحزب. وبالرغم من أن المتهمین في حملات التطهیر الكبرى كانوا یجبرون، دون استثناء، على الاعتراف بهذا الجرم، فقد كان من الصعب تخیل أن مثل هذا . الأمر قد حدث فعلاً
لم یكن هدف الحزب مجرد منع الرجال والنساء من تكوین ولاءات فیما بینهم، قد یتعذر السیطرة علیها. لقد كان هدفه الحقیقي غیر المعلن هو تجرید العملیة الجنسیة من كل لذة. إذ لیس الحب هو العدو بقدر ما هي الشهوانیة، سواء كانت في إطار الزواج أو خارجه. وكل الزیجات بین أعضاء الحزب كان یجب، لكي تتم، أن تحصل على موافقة لجنة تشكلت خصیصاً لهذا الغرض. وبالرغم من أنه لم ینص صراحة على ذلك المبدأ أبداً، فإن الإذن بالزواج كان یحجب دائماً إذا ما أظهر الشخصان المعنیان أي میول جنسیة متبادلة فیما بینهما. فالغایة الوحیدة المعترف بها للزواج هي إنجاب الأطفال لخدمة الحزب. وكان ینظر إلى العملیة الجنسیة على أنها عملیة تافهة تدعو للاشمئزاز والتقزز، تماماً كتعاطي حقنة شرجیة. ولم یكن یعبر عن ذلك بكلمات صریحة،
وإنما بطریقة غیر مباشرة حیث كان ذلك یغرس في كل عضو في منظمات مثل الحزب منذ طفولته المبكرة. ولذلك أیضاً
أنشاء رابطة الشباب المناهض للغریرة الجنسیة، التي كلنت تدعو للعزوبة الكاملة لكلا الجنسین. فكل الأطفال یجب إنجابهم عبر التلقیح الصناعي (وتسمى هذه العملیة في اللغة الجدیدة أرتسیم
على أن یعهد بهم بعد ذلك لمعاهد عامة.
كان ونستون یعي أن هذا لم یكن مقصوداً بشكل جدي وكلي ولكنه یتماشى مع أیدیولوجیة الحزب الذي كان یحاول وأد الغریزة الجنسیة، وإذا تعذر ذلك، فعلى الأقل تشویهها وتحقیرها. لم یكن ونستون یعلم لماذا كل ذلك، لكن كان یبدو أن ذلك طبیعي. فبقدر تعلق أي أمر بالنساء، فإن جهود الحزب كانت تحقق نجاحات كبیرة. مرة ثانیة لمعت في ذاكرته كاترین. لابد أنه انقضت تسع أو عشر أو ربما إحدى عشرة سنة على انفصالهما، وعجب لنفسه كیف لا تخطر على باله إلا نادراً. بل إنه ولأیام متصلة كان یستطیع نسیان كونه متزوجاً بها، فالحزب لم یكن یسمح بالطلاق وإن كان بدلاً من ذلك یشجع الانفصال في حال عدم الإنجاب.
كانت كاترین فتاة طویلة القامة ناعمة الشعر هیفاء القد رشیقة الحركة ذات وجه لا یتأثر بشيء وأنف معقوف، كان وجهها
یوحي بالنبل لأول وهلة، لكن إذا حدقت فیه لا تجد شیئاً.
بعید زواجه بها ومعرفتها عن قرب، أدرك أن عقلها هو الأكثر بلادة وجهلاً وتفاهة إلى حد لم یعرف له مثیلاً. فلم یكن في عقلها سوى الشعارات، ما من حماقة واحدة على الإطلاق لیست بقادرة على ابتلاعها ما دام الحزب هو الذي یقدمها. «الكاسیت البشري» هكذا كان یلقبها بینه وبین نفسه. ومع ذلك كان بمقدوره أن یتجشم العیش معها لولا علة واحدة هي الجنس.
كان یخیل إلیه أنها تفزع منه ویتیبس جسدها كلما اقترب منها، فإذا احتضنها فكأنما یحتضن تمثالاً خشبیاً شَد بمفاصل. والغریب أنه كان یشعر وهي تشده إلیها أنها تدفعه بعیداً عنها في الوقت نفسه بكل قوتها، وكانت صلابة عضلاتها تساعد على نقل ذلك الانطباع إلیه. وأخیراً تستلقي مغمضة العینین فلا تقاوم ولا تتجاوب بل تستسلم، وهو الأمر الذي كان في أوله مربكاً له بشدة ثم تحول بعد فترة إلى شيء فظیع. لو أنها فضلت العزوف عن الجنس، لكان ونستون رضي بنصیبه وتحمل العیش معها، لكن العجیب أن كاترین هي التي رفضت ذلك بنفسها متعللة بالرغبة في إنجاب طفل إذا استطاعا لذلك سبیلاً.
ومن ثم استمرت العملیة تتكرر بانتظام مرة كل أسبوع كلما كان ذلك ممكناً، كما أنها اعتادت أن تذكره بها في الصباح كشيء یتعین القیام به في المساء ولا یجوز نسیانه. وكانت تطلق على هذه العملیة اسمین: أولهما «صناعة طفل» والثاني «واجبنا
اتجاه الحزب». وإنه لحق أنها استعملت هاتین العبارتین. وسرعان ما بات ینتابه شعور بالرعب الشدید كلما حان الوقت المضروب لذلك. لكن من حسن الحظ لم تثمر علاقتهما طفلاً ولذا فقد كفت عن المحاولة، وسرعان ما انفصلا بعد ذلك.
تنهد ونستون، وتناول قلمه مرة أخرى وراح یكتب:
«وألقت بنفسها على الفراش، وفي الحال، وبدون أي نوع من المداعبات وبطریقة في منتهى اللامبالاة والخشونة رفعت تنورتها.
وأنا..»
ووجد نفسه واقفاً هناك في ضوء المصباح الخافت وقد امتلأت خیاشیمه برائحة البق والعطر الرخیص وفي قلبه شعور بالانهزام والنفور، ممزوجاً بالتفكیر في جسد كاترین الأبیض الذي تجمد إلى الأبد تحت تأثیر قوة الحزب التخدیریة. وتساءل لماذا یضطر إلى ذلك؟ لماذا لا تكون له امرأة تخصه، بدلاً من تلك النزوات القذرة التي تنتابه على فترات متباعدة؟ لقد كان وجود علاقة حب حقیقیة أمراً لا یمكن الطموح إلیه إذ كانت نساء الحزب كلهن متشابهات.
كانت العفة متجذرة فیهن تجذّر ولائهن للحزب. فبفضل إعدادهن الباكر وممارستهن للریاضة واستعمالهن الماء البارد والتفاهات التي كانت تحشى بها عقولهن في المدارس وفي رابطة الجواسیس ورابطة الشباب، والمحاضرات والعروض والأناشید والشعارات والموسیقى العسكریة، بفضل كل ذلك كان ینتزع منهن كل شعور طبیعي. كان عقله یخبره بأنه لا بد أن هناك استثناءات لذلك، ولكنقلبه لم یصدقه، إذ كن جمیعاً محصنات مثلما أرادهن الحزب.
وكانت غایة آماله أن یسقط حصن الفضیلة ولو لمرة واحدة في حیاته. ولما كانت ممارسة العملیة الجنسیة على طبیعتها تعتبر عصیاناً، فإن مجرد الرغبة الجنسیة تصبح جریمة فكر. وحتى إذا أمكنه إیقاظ كاترین من سباتها العاطفي، لكان ذلك اعتبر إغواء لها رغم أنها زوجته. وإذا كان لا بد من كتابة القصة فقد أخذ القلم وكتب:
«رفعت فتیلة القندیل لمزید من النور. وعندما وقعت عیناي علیها في الضوء...»
بسبب الظلام المخیم بدا ضوء المصباح الزیتي الضعیف كأنما ازداد توهجاً. وكانت تلك هي المرة الأولى التي یرأها فیها
بوضوح. تقدم نحوها خطوة ثم توقف وقد تملكته رغبة فیها یشوبها الرعب. إذ كان یدرك تماماً المجازفة التي أقدم علیها
بمجیئه إلى هنا، فمن الجائز تماماً أن یقبض علیه أثناء خروجه، وربما یكون رجال الدوریة في انتظاره أمام الباب الآن. بل وربما هم بانتظاره خارج الباب في هذه اللحظة للقبض علیه حتى لو غادر المكان دون أن یقربها.
لا بد من كتابة ما جرى، یجب الاعتراف به. اكتشف على ضوء المصباح أن المرأة كانت عجوزاً التصقت بوجهها طبقة سمیكة من طلاء الزینة إلى حد بدا كأنه سینهار عند أول ملامسة كقناع كرتوني. كما كان الشیب قد خط شعرها. وعندما فغرت فاها قلیلاً , لم یكشف إلا عن فراغ كفراغ الكهف یبعث على الخوف إذ كانت بلا أسنان.
وأخذ یكتب بسرعة بخط غیر منتظم:
«وعندما رأیتها في ضوء القندیل وجدتها عجوزاً، لا یقل عمرها عن الخمسین، لكني مضیت قدماً وعاشرتها كالمعتاد.»
وضغط بأصابعه على جفنیه ثانیة. لقد أتم كتابة الحكایة أخیراً، ولكن دونما أن یشعر بأي فارق، فذلك العلاج یخلصه من تلك
الرغبة الجامحة في الصیاح بأعلى صوته مطلقاً أقذر الكلمات.
_____________________
وكتب ونستون: «إن كان هنالك من أمل، فالأمل یكمن في عامة الشعب». لابد أن الأمل یكمن في عامة الشعب، فمن هذه الكتلة البشریة التي لا یلتفت إلیها والمهمشة وتمثل 85 بالمائة من تعداد شعب أوقیانیا، یمكن أن تنبعث القوة التي تدمر الحزب. لا یمكن إسقاط الحزب من داخله. فأعداؤه، إن كان له أعداء أصلاً، لا یمكنهم أن یجمعوا صفوفهم أو حتى أن یتعارفوا. وحتى إذا كانت أسطورة حركة «الأخوة» موجودة، وهو أمر جائز، فقد كان من غیر المتصور أن یتمكن أعضاؤها من التجمع بأعداد تزید على الاثنین أو الثلاثة. وأمر الانتفاضة یعرف من نظرة في العیون أو نبرة في الصوت أو في الغالب بكلمة یهمس بها من وقت لآخر.
لذلك لو أمكن لعامة الشعب أن یدركوا مدى قوتهم لما كانت هنالك حاجة للتآمر، فكل ما یحتاجه الأمر أن ینتفضوا مثلما ینتفض الحصان لإزاحة الذباب بعیداً عنه. ولو شاءوا لمزقوا وأحالوا الحزب هشیماً تذروه الریاح بین عشیة وضحاها. ولا بد أن یخطر ذلك لهم إن عاجلاً أو آجلاً؟ ومع ذلك... !
وتذكر كیف كان یسیر ذات مرة في شارع مزدحم عندما انبعث صیاح مدو لمئات الأصوات (أصوات نساء) من شارع جانبي
على مقربة منه. لقد كانت صرخة غضب ویأس قویة وعمیقة وعالیة أخذت تدوي كأنها صدى أجراس تدق. وشعر بقلبه یثب
من الفرح. لقد حانت اللحظة! هكذا ظن. إنه الهیجان! لقد انفكت عامة الشعب من عقالها أخیراً. وما إن وصل ذلك المكان حتى رأى حشداً من الغوغاء یبلغ عدده حوالي المائتین أو الثلاثمائة امرأة وقد تجمهرن حول أكشاك سوق الشارع وبدت وجوههن ملتاعة كوجوه ركاب سفینة تغرق. غیر أنه في هذه اللحظة استحال ذلك القنوط الجماعي إلى مشاجرات فردیة نشبت بین المتجمهرات. واتضح أن أحد هذه الأكشاك كان یبیع قدوراً من الصفیح ذات نوعیة ردیئة ورخیصة في حین كان من الصعب دائماً الحصول على أوعیة للطهي من أي نوع.
إذ كان المخزون منها قد نفد على نحو مفاجى، فكانت بعض النسوة یحاولن الابتعاد بما فزن به من أوعیة ویتعرضن للضرب والدفع أثناء ذلك، فیما راحت عشرات أخریات یصحن حول الكشك متهمات البائع بالتحیز وبإخفاء الأوعیة. ومن جدید تعالت الصیحات حینما ظهرت امرأتان منتفختان، إحداهما منسدلة الشعر، تمسكان بقدر واحدة وتتنازعان علیها وتحاول كل منهما تخلیصه من ید الأخرى حتى انخلع مقبض القدر. كان ونستون یراقب المنظر باشمئزاز.
وتعجب للحظة من تلك القوة المرعبة التي تبدت في تلك الصرخة التي انطلقت من بضع مئات من الحناجر! لماذا لا یصرخن مثل هذه الصرخات من أجل شيء له قیمته؟
وهنا عاد إلى مذكراته ومضى یكتب:
"لن یثوروا حتى یعوا ولن یعوا إلا بعد أن یثوروا.»
وغلب على ظنه أنه لا بد أن یكون ذلك مأخوذاً عن أحد كتب النصوص التي وضعها الحزب. كان الحزب یزعم، بالطبع، أنه
حرر العامة من أغلال العبودیة، فقبل الثورة كانوا یلاقون أبشع أنواع الاضطهاد على أیدي الرأسمالیین، كما یضربون بالسیاط
ویتضورون جوعاً، وكانت النساء یكرهن على العمل في مناجم الفحم (والحقیقة أن النساء ما زلن یعملن في مناجم الفحم)، وكان الأطفال یباعون إلى المصانع في سن السادسة. ولكن في الوقت نفسه ومما یتوافق مع ازدواجیة التفكیر، كان الحزب في أدبیاته
يتبع....