رواية 1984 لجورج أورويل : القسم الواحد والعشرون


كان الوقت ضحى عندما غادر ونستون مكتبه ومضى إلى المرحاض. وإذا بشخص مقبل نحوه من الطرف الأخر للممر

الطویل ذي الضوء الساطع. كانت الفتاة ذات الشعر الأسود. وكانت قد انقضت أربعة أیام مذ صادفها خارج حانوت

الخردوات. عندما اقتربت منه لفت انتباهه أن ذراعها الیمنى معلّقة في رقبتها إلى رباط لم یستطع أن یمیزه عن بعد لأن لونه شبیه بلون لباسها الرسمي الذي كانت ترتدیه. ربما كانت قد سحقت یدها وهي تدور حول آلات (كالیدوسكوب) الكبیرة التي تتم فیها الحبكة القصصیة. وكان مثل هذا الحادث أمراً شائعاً في دائرة الإثارة.
كانت تفصل بینهما مسافة أربعة أمتار تقریباً عندما تعثرت الفتاة وسقطت على وجهها فصرخت صرخة ألم مدویة، لابد أنها

سقطت على ذراعها المصابة. توقف ونستون عن سیره في حین كانت الفتاة قد نهضت على ركبتیها وقد شحل وجهها وبدت شفتاها أكثر احمراراً، وكانت عیناها تحدقان بوجهه وقد ارتسمت فیهما نظرة تطلب منه أن یساعدها، نظرة هي أقرب إلى الخوف منها إلى الألم.
خفق قلب ونستون بعاطفة غریبة، فالتي أمامه هي عدو كان یسعى للفتك به، لكنها أیضاً ِمخلوقة بشریة تتألم.

وبغریزته الإنسانیة تقدم نحوها لیأخذ بیدها. فحینما رأها تسقط فوق ذراعها المضمدة شعر كما لو أن الألم قد سرى إلى جسده هو. وسألها: هل أصابك أذى؟
- لا، لا شيء.. إنها ذراعي... سوف تصبح على ما یرام في الحال.

كانت تتكلم وقلبها یخفق بشدة، أما وجهها فقد شحب شحوباً شدیداً.

ومدت له یدها الثانیة، فأعانها على النهوض، وإذ ذاك بدا أنها استعادت بعض لونها وبدت في حال أفضل.
وعادت تكرر بعد قلیل: «لم یحدث شيء یستحق الذكر، فكل ما في الأمر أن معصمي ارتطم بالأرض. شكراً لك أیها الرفیق».
وعاودت السیر في الاتجاه نفسه الذي كانت تسیر فیه من قبل، سارت بخطى نشطة ورشیقة وكأن شیئاً لم یحدث على الإطلاق.
لم تستغرق هذه الحادثة سوى نصف دقیقة فقط. لقد كان الحرص على ألا تطفو مشاعر المرء على وجهه بمثابة عادة باتت أشبه بالغریزة، فقد كانا یقفان أمام شاشة الرصد مباشرة عندما وقع الحادث ومع ذلك كان من العسیر جداً على ونستون أن یكبت شعور الدهشة الذي ارتسم على وجهه، إذ أثناء الثانیتین أو الثلاث التي أعان خلالها الفتاة على النهوض حدث أنها أودعته شیئاً في یده ولم یكن هناك شك في أنها فعلت ذلك عن قصد. كان هذا الشيء صغیراً ومنبسطاً، وعندما ولج من باب المرحاض نقله من یده إلى جیبه حیث تحسسه بأطراف أصابعه. كانت قصاصة من الورق مطویّة.
عندما وقف أمام المبولة فتح الورقة وقال في نفسه «لا ریب في أنها تحمل رسالة ما بداخلها»، وراودته نفسه للحظة أن یقرأ

الرسالة في التو والحال، ولكنه سرعان ما تنبه لما تنطوي علیه هذه الخطوة من حماقة مطبقة، إذ من المؤكد أن شاشات الرصد تعمل لیل نهار في هذا المكان، فقفل راجعاً إلى مكتبه. جلس وألقى بقصاصة الورق بغیر اهتمام بین الأوراق الأخرى المرصوصة فوق مكتبه، وأحس بقلبه یخفق خفقات مدویة، وكان من حسن حظه أن المهمة المسندة إلیه في تلك اللحظة كانت عملاً روتینياً محضاً، إذ كان یصحح قائمة مطولة من الأرقام وهو الأمر الذي لا یتطلّب انتباهاً شدیداً.
وقال في نفسه أیاً كان ما هو مكتوب في الرسالة، فلا بد أنه سیكون ذا مغزى سیاسي. فكر في تلك اللحظة باحتمالین. أولهما،

وهو الأكثر رجحاناً، أن الفتاة تعمل جاسوسة لحساب شرطة الفكر، وهو ما كان یخشاه، لكنه لم یفهم لماذا تلجأ شرطة الفكر

لهذه الطریقة لتوصیل رسائلها، لعل لدیهم من الأسباب ما یفسر ذلك. فلربما في الرسالة تهدید أو استدعاء أو أمر بالانتحار أو فخ ما ینصب له. أما عن الاحتمال الآخر فقد كان أكثر جنوناً، كان یساور ونستون رغم أن ونستون قد حاول دون جدوى أن یكبته، ومفاده أن هذه الرسالة لیس ثمة ما یربطها بشرطة الفكر على الإطلاق إذ إنها مرسلة من إحدى المنظمات السریة. فلعل لجماعة «الأخوة» وجود!، ولعل الفتاة منضویة في عضویتها. لا ریب في أن هذه الفكرة كانت عبثیة، ولكنها انبجست في خاطره منذ لحظة شعوره بالورقة في یده. ولم تكد تمر دقیقتان حتى كان التفسیر الأول والأرجح قد خطر بباله ثانیة. وحتى الآن ورغم أن عقله أوحى إلیه أن هذه الرسالة قد تعني موته، فإنه لم یصدق ذلك وظل متشبثاً بأهداب أمل واه، في حین أخذ قلبه یدق بعنف محاولاً كبت أثر ارتعاشة على صوته وهو یهمهم بالأرقام إلى آلة التسجیل.
لف رزمة كاملة من أوراق العمل ثم زج بها في الأنبوب الهوائي.

ثماني دقائق كانت قد مضت حین أعاد تثبیت نظارته فوق أنفه وتنهد، ثم جذب مجموعة أخرى من أوراق العمل وقد وضعت قصاصة الورق فوقها، وما إن فضها حتى رأى الكلمة التالیة مكتوبة فوقها بخط كبیر:
«أحبك»

تمفكه ذهول شدید لعدة لحظات حتى أنه نسي أن یلقي بأداة الجریمة في قبور الذاكرة. وحینما فعل ذلك، ورغم إداركه للخطر

الذي ینطوي علیه إبداء أي اهتمام زائد، فإنه لم یقدر على منع نفسه من قراءتها مرة ثانیة، وفي الحال، حتى یطمئن قلبه إلى أن الكلمة موجودة حقاً وكان من العسیر علیه أن یواصل العمل لما تبقى من وقت في ذلك الصباح. ولم یكن أشق علیه من التركیز على ما بین یدیه من مهام مزعجة، إلا ضرورة إخفائه لما یختلج وجهه من انفعال أو اضطراب عن شاشة الرصد، وشعر كأن ناراً أشعلت في ضلوعه.

كان تناوله لطعام الغداء في المطعم الحار والغاص بالموظفین والمليء بالضوضاء بمثابة عملیة تعذیب. فقد كان یأمل أن یختلي بنفسه أثناء ساعة الغداء، لكنه ولسوء حظه، فإن الأحمق بارصون قد حشر نفسه بكل سماجة بجانبه، وقد فاقت رائحة عرقه الكریهة رائحة الطعام المسلوق، ومضى بارصون یثرثر حول الاستعدادات لأسبوع الكراهیة، مبدیاً حماسته بشكل خاص لنموذج لوجه الأخ الكبیر عرضه متران ویجري إعداده بواسطة فرقة الجاسوسات، التي تنتمي إلیها ابنته، خصیصاً لهذه المناسبة.

ولم یكن ونستون یستطیع سماع ما یقوله بارصون وسط الضوضاء مما یضطره إلى تحمل إزعاج تكرار بارصون لبعض ملاحظاته السخیفة. وقد لمح الفتاة ذات مرة وهي جالسة مع فتاتین أخریین حول إحدى الموائد في الطرف الآخر من قاعة الطعام. ویبدو أنها لم تره، أما هو فلم ینظر في اتجاهها مرة ثانیة.
كان ونستون أفضل حالاً في فترة ما بعد الظهیرة. فقد أسندت إلیه مهمة صعبة تتطلب عدة ساعات وتستلزم منه تركیزاً بحیث ینحي كل ما عداها جانباً. كان علیه تزویر بعض تقاریر الإنتاج الصادرة منذ سنتین بطریقة تثیر علامات استفهام حول نزاهة عضو بارز في قیادة الحزب وقد غدا في وضع مزعزع. كان ونستون یجید أداء مثل هذا اللون من العمل، بالتالي فقد تمكن من إقصاء الفتاة عن تفكیره لأكثر من ساعتین. ولكن عادت ذكراها ترتسم أمام عینیه مصحوبة برغبة جامحة في الاختلاء بنفسه حتى یمكنه التفكیر في هذا التطور الجدید، وهو ما سیكون مستحیلاً دون أن یختلي بنفسه. كانت تلك اللیلة هي إحدى اللیالي التي یتعین علیه فیها الذهاب إلى المركز الاجتماعي. ازدرد وجبة طعام أخرى لا طعم لها ثم سارع إلى المركز وشارك في سخافة من سخافات «مجموعة النقاش»، ثم لعب شوطین من كرة الطاولة وشرب عدة كؤوس من الخمر وجلس نصف ساعة یستمع لمحاضرة بعنوان «علاقة الانجسوك (الاشتراكیة الانجلیزیة) بالشطرنج». ورغم أن الملل قد أمسك بتلابیب روحه، فإنه وللمرة الأولى یشعر بعدم الرغبة في التملص من أمسیة من تلك الأمسیات. إذ بعد رؤیته لكلمة «أحبك» شعر برغبة تنبجس بین حنایاه في أن یظل على قید الحیاة، وبدا له فجأة أن من الحماقة أن یجازف بنفسه في مثل هذه المجازفات البسیطة.

لم تكن الساعة قد بلغت الحادیة عشرة مساء حینما عاد إلى شقته واستلقى على فراشه في الظلام حیث یكون بمأمن من شاشة الرصد إن هو التزم الصمت، لكن كان في مقدوره أن یسترسل في التفكیر دون توقف.
وكانت الصعوبة العملیة التي تتطلب حلاً هي: كیف یتصل بالفتاة ویرتب لقاء معها. وكان قد أبعد احتمال أنها تنصب له شركاً، وقد تأكد له ذلك بسبب ما اعتراها من اضطراب حینما أودعته القصاصة. فقد كان جلیاً أن نوبة من الهلع قد انتابتها إلى درجة أخرجتها عن صورتها المعروفة، ولم یخطر على باله البتة أن یتمنّع عن قبول هذه البادرة منها، رغم أنه كان یفكر قبل خمس لیال في تهشیم رأسها بحجر. لكن ذلك لم یعد ذا أهمیة الآن. وراح یفكر في جسدها العاري البض مثلما رآه في الحلم. كان یحسبها حمقاء كبقیة فتیات جیلها، برأس محشو بالحقد والأكاذیب وجوف مملوء بالجلید. ولذا فقد انتابته نوبة من حمى الخوف حینما خطر بباله احتمال فقدانه لها وإفلات جسدها الأبیض البض من بین یدیه! وكان أخشى ما یخشاه هو أن یتغیر رأیها إذا هو لم یبادر إلى الاتصال بها. ولكن الصعوبات العملیة التي كانت تحول دون تحقق ذلك اللقاء كانت جمة. كان أمره أشبه بأمر من یحاول تحریك قطعة شطرنج فیما الموت یحاصر الملك. فأینما تول وجهك ترى شاشة الرصد. وفي واقع الحال فإن كافة وسائل الاتصال بها قد خطرت بباله خلال خمس دقائق من قراءته للرسالة، ولكنه الآن وبعدما أصبح لدیه متسع من الوقت للتفكیر،

أخذ یستعرضها واحدة تلو أخرى كما لو كان یصف مجموعة من الأدوات على مائدة. وكان من الجلي أنه من غیر الممكن أن یجمع بینهما لقاء كذلك الذي جمع بینهما في ذاك الصباح. فلو أن عملها كان في دائرة السجلات لكان الأمر هیناً نسبیاً، لكنه لا یعرف على وجه التحدید أین توجد دائرة الإثارة في المبنى، ولیس لدیه ما یتذرع به للذهاب إلى هناك. ولو أنه كان یعرف أین تقطن وفي أي وقت تنصرف من العمل لتعمد مقابلتها في طریق عودتها إلى منزلها. بید أن تتبعها إلى منزلها لم یكن أمراً مأمونة عواقبه لأن ذلك یعني التسكع خارج الوزارة وهو أمر یحتمل أن یلفت إلیه الأنظار. وأما فكرة أن یبعث لها برسالة عبر البرید فأمر غیر ممكن بتاتاً، إذ كانت الرسائل تفتح عند نقلها طبقاً لنظام متبع ومعلن ومن ثم ما كان یقدم على كتابة خطابات إلا قلة من الناس. وحینما تستدعي الضرورة إرسال بعض الرسائل كان الناس یلجأون إلى بطاقات مطبوعة تتضمن قائمة من العبارات الجاهزة، ویكفي المرء آنذاك أن یشطب على العبارت التي لا تتناسب مع موضوع رسالته.

وفي نهایة المطاف استقر رأیه أن آمن مكان یلتقیان فیه هو المطعم. فإذا استطاع أن یشیر إلیها لكي تجلس بمفردها إلى منضدة في منتصف قاعة الطعام بعیداً عن شاشة الرصد ووسط طنین كاف من الأصوات لیغطي على الحدیث بینهما، إذا أمكن تحقیق هذه الشروط في مدى زمني مقداره 30 ثانیة فبإمكانهما أن یتبادلا بعض الكلمات.
انقضى أسبوع كانت حیاته خلاله بمثابة حلم قلق. ففي الیوم التالي لم تظهر الفتاة في المطعم إلا حینما كان یهم بمغادرته، وكانت صافرة بدء العمل قد سمعت فظن أنها غیرت نوبة عملها إلى نوبة أخرى. واجتاز كلاهما الآخر دون أن یرفع إلیه ناظریه. وفي الیوم الذي تلى ذلك، كانت الفتاة في المطعم في الوقت نفسه، لكنها كانت بصحبة ثلاث فتیات أخریات وكن یجلسن أسفل شاشة الرصد مباشرة. ثم مرت علیه ثلاثة أیام ثقیلة لم تظهر خلالها على الإطلاق، وبدا له أن عقله وجسده قد أصیبا بحساسیة مفرطة أو بنوع من الشفافیة جعل كل لفتة وكل صوت وكل تماس وكل كلمة، كان لزاماً علیه أن ینطق بها أو یصغي إلیها، لوناً من ألوان العذاب. وحتى في نومه لم یبارحه طیفها. وفي خلال هذه الأیام لم یمس مفكرته. وإذا كان من راحة فقد كان یلتمسها في أوقات عمله حین یكون بمقدوره أن ینسى نفسه في غمرة العمل لمدة أقصاها عشر دقائق. كان واضحاً أنه لیس لدیه أي دلیل أو تفسیر لما عساه قد لحق بالفتاة، ولا یمكن أن یسأل عنها. ربما تكون قد راحت ضحیة عملیة تصفیة أو ربما تكون قد أقدمت على الانتحار أو نُقلت إلى الطرف الآخر من أوقیانیا. لكن أسوأ هذه الاحتمالات وأرجحها على الإطلاق أنها ربما غیّرت رأیها وقررت أن تتحاشى لقاءه.

يتبع....

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك