رواية 1984 لجورج أورويل : القسم العشرون


بعد صمت، قال ونستون: «إنني أعرف ذلك البناء، إنه الآن عبارة عن أنقاض وسط شارع بالقرب من قصر العدل.»
أضاف الرجل: «هذا صحیح، إنه بالقرب من دار القضاء. وقد تعرض للقصف منذ سنوات كثیرة، لقد كان عبارة عن كنیسة في

یوم من الأیام وكانت تسمى كنیسة القدیس كلیمنت دان.» ثم ابتسم ابتسامة اعتذار وكأنه أدرك أنه قال شیئاً سخیفاً وأضاف: «برتقال ولیمون، تقول أجراس كنیسة القدیس كلیمنت!»
فقال ونستون: "ماذا؟ "
«أوه... «برتقال ولیمون تقول كنیسة القدیس كلیمنت» إنها أغنیة كنا نرددها ونحن صغار ولا أتذكر بقیتها، ولكني أعرف أنها

كانت تنتهي بمقطع (ها هنا تجد شمعة تستنیر بها حتى الفراش، وها هنا منجل لحز رقبتك.) لقد كان ذلك نوعاً من الرقص،

یرفعون أذرعهم لتمر من تحتها وعندما یصلون إلى مقطع (وهنا منجل لحز رقبتك) یخفضون أذرعهم لیمسكوا بك. لقد كانت مجرد أسماء للكنائس وتتضمن أسماء كنائس لندن الرئیسیة».
تساءل ونستون إلى أي قرن یعود بناء الكنائس یا ترى؟ إذ كان یصعب أن تقدر عمر أي بنایة قي لندن، فكل بنایة كبیرة ولافتة

للنظر كانوا یدعون تلقائیاً أنها شیدت في عهد الثورة، وأي بنایة أخرى یبدو بوضوح انتماؤها إلى عهد قبل ذلك كاشط تنسب إلى فترة غامضة تسمى القرون الوسطى، وأما قرون الرأسمالیة فكان ینظر إلیها على أنها لم تنتج شیئاً ذا قیمة، لذلك ما كان باستطاعة المرء أن یعرف شیئاً عن تاریخ من الطرز المعماریة أكثر مما یعرفه من خلال الكتب. فكل ما یلقي ضوءاً على الماضي مثل التماثیل والنقوش والنصب التذكاریة وأسماء الشوارع كان یتم تغییره وتحویره بصورة منهجیة.

قال ونستون: «لم أكن أعرف أبداً أنها كانت كنیسة».
ورد الرجل العجوز قائلاً: «في الواقع لا یزال یوجد الكثیر منها ولكنها تستعمل لأغراض أخرى...»

ثم استدرك: «ها لقد تذكرت بقیة الأغنیة:

برتقال ولیمون تقول أجراس كنیسة القدیس كلیمنت، وتقول أجراس كنیسة القدیس مارتن أنت مدین لي بثلاثة فارذن

هذا هو كل ما یمكنني تذكره الآن. والفارذن كان عملة نحاسیة صغیرة تشبه السنت.»
وسأل ونستون: «لكن أین كانت كنیسة القدیس مارتن؟»
«كنیسة القدیس مارتن؟ إنها لا تزال قائمة وتقع في ساحة النصر أمام معرض الصور. إنها عبارة عن بناء بواجهته قبة مثلثة

وأعمدة وسلّم.»
كان ونستون یعرف ذلك المكان جیداً. فقد كان متحفاً لعرض معروضات دعائیة من كل الأنواع كنماذج للقذائف الصاروخیة

والقلاع العائمة واللوحات الشمعیة، تُصور الفظائع التي ارتكبها الأعداء وما شابه ذلك.
وأضاف الرجل العجوز: «كانوا یسمونها القدیس مارتن في قلب الحقول ولو أني لا أرى أیة حقول في هذه الأنحاء».
لم یشتر ونستون الصورة، فقد كانت حیازتها أكثر مدعاة للشبهة من حیازة قطعة الزجاج كما أنه یستحیل حملها إلى المنزل إلا إذا انتزعت من إطارها. لكنه تلكأ بضع دقائق أخرى متحدثاً إلى الرجل العجوز الذي تبین له أن اسمه لیس «ویكس»، كما قد

یتبادر إلى الذهن من الكتابة التي على واجهة الحانوت، وإنما شارنتون، وكان أرمل، یبلغ من العمر 63 سنة ویسكن هذا

الحانوت منذ ثلاثین عاماً، وطوال هذه المدة كان یعتزم تغییر الاسم الموجود على الواجهة لكنه لم یفعل. وقد ظل صدى ذلك

المقطع من الأغنیة یتردد في رأسه طوال حدیثهما معاً. (برتقال ولیمون تقول أجراس كنیسة القدیس كلیمنت، وتقول أجراس كنیسة القدیس مارتن أنك مدین لي بثلاثة فارذن) لقد كان مقطعا غریباًلكن ما إن تردده في نفسك حتى یخیل إلیك أنك تسمع دقات أجراس حقیقیة، أجراس لندن المفقودة والتي ما زالت موجودة في مكان ما أو اتخذت شكلاً آخر ثم أصبحت في طي النسیان. وبدا له أن أصواتها المنبعثة من برج تلو آخر تجلجل في أذنیه. وبقدر ما یستطیع العودة بذاكرته للوراء فإنه لا یذكر أنه سمع دقات أجراس كنیسة حقیقیة.
ترك ونستون السید شارنتون وهبط الدرج بمفرده لئلا یراه العجوز وهو یستطلع الشارع قبل أن یخرج من الباب. وكان قد

عقد العزم على القیام بزیارة أخرى للحانوت بعد فترة مناسبة، شهر مثلاً، فربما كان ذلك أقل خطراً من تهربه من إحدى أمسیات المركز الاجتماعي. ولكن الحماقة الحقیقیة التي ارتكبها كانت عودته مرة أخرى الى مكان اشترى منه دفتر مذكراته دون أن یتحقق مما إذا كان صاحب الحانوت جدیراً بالثقة أم لا ومع ذلك...!
أجل رغم ذلك، فكر ثانیة أنه سیعود لشراء قطع أخرى جمیلة من هذه المهملات، ولیشتري لوحة كنیسة القدیس كلیمنت المحفورة، بعد أن ینتزعها من إطارها، ویحملها إلى المنزل تحت سترة معطفه الأزرق ولیستخلص بقیة القصیدة من تلافیف ذاكرة الرجل العجوز. ولمع في ذهنه للحظات مرة ثانیة ذلك المشروع الطائش، مشروع استئجار الغرفة الكائنة بالطابق العلوي. وتحت تأثیر غمرة الفرح التي اعترته لمدة خمس ثوان سعي حذره وخرج إلى الشارع دون أن یلقي ولو بنظرة عبر النافذة. وكان قد بدا یتمتم بنغمة مرتجلة: تقول أجراس كنیسة القدیس كلیمنت برتقال ولیمون، وأنت مدین لي بثلاثة فارذن.
فجاة شعر أن دمه تجمد في عروقه واضطربت أمعاؤه عندما رأى القادم نحوه وما عاد یفصله عنه سوى عشرة أمتار. لقد كانت الفتاة ذات الشعر الأسود التي تعمل في دائرة الإثارة. لم یكن من الصعب علیه أن یتعرف علیها رغم ضعف الإضاءة في الشارع.

نظرت إلى وجهه محدقة به ثم أكملت مسرعة كأنها لم تره. لبضع ثوان شعر ونستون أنه قد فقد القدرة على الحركة، فاستدار

یمیناً وابتعد متثاقلاً دون أن ینتبه إلى أنه یسیر في الاتجاه الخطأ.

على أي حال فقد اهتدى إلى حقیقة أمرها، فقد تبدد كل شك لدیه في انها كانت تتجسس علیه، إذ لیس من المعقول أن یكون تجوالها في المساء ذاته وفي الشارع الخلفي المعتم ذاته الذي یبعد كیلومترات عن أي حي یقطن فیه اعضاء الحزب، محض مصادفة، لقد كان ذلك أكثر من مجرد مصادفة. ولم یعد یهم إذا كانت جاسوسة لشرطة الرصد أو مجرد جاسوسة هاویة مدفوعة بفضولها الخاص. المهم أنها كانت تراقبه وربما رأته وهو یدلف إلى الحانة أیضاً
كان یسیر مجهداً، ومع كل خطوة یخطوها كانت قطعة الزجاج في جیبه ترتطم بشدة في فخذه حتى أنه كاد یخرجها ويرمي بها بعیداً.

وكان الأسوأ هو الألم الذي أصاب معدته ولدقیقتین تمثل الموت أمام عینیه إن لم یصل إلى مرحاض في الحال، كیف سیجده في مثل هذا الحي؟ غیر أن الأزمة مرت مخلفة ألماً شدیداً وراءها.

توقف ونستون عن السیر، فقد كان الشارع عبارة عن زقاق مسدود. تساءل لبضع ثوان عما یجب علیه أن یفعل، فاستدار إلى

الخلف وهم بالعودة وقد خطر بباله أن الفتاة اجتازته منذ ثلاث دقائق فقط وأنه ربما یمكنه، إذا ما أسرع الخطى، اللحاق بها ثم

اقتفاء أثرها حتى یصلا إلى مكان منعزل هادى فیحطم رأسها بحجر أو ربما تفي قطعة الزجاج التي في جیبه بهذا الغرض. لكنه تخلى عن الفكرة بعد لحظات، فقد كان خائر القوى ولیس بمقدوره أن یوجه ضربة لأحد، وفوق ذلك كانت الفتاة قویة وفي سن الشباب، وقد تدافع عن نفسها. ثم خطر له أیضاً أن یهرع إلى المركز الاجتماعي ویبقى فیه حتى یغلق أبوابه كدلیل یثبت مكان تواجده في هذا المساء. لكن ذلك كان أیضاً مستحیلاً. لقد انتابته حالة من الإعیاء الشدید وكان كل ما یریده هو أن یعود إلى المنزل بسرعة ویستلقي بهدوء.
كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة مساء حینما عاد إلى شقته

وكانت الأنوار تطفأ في الحادیة عشرة والنصف في المدخل الرئیسي. دلف إلى المطبخ حیث ازدَرَد ملء فنجان شاي من

خمرة النصر ثم توجه إلى الطاولة في الزاویة وأخرج دفتر مذكراته من الدرج، لكنه لم یفتحه في الحال إذ كان ینبعث من

شاشة الرصد صوت أنثوي نحاسي یزعق بأغنیة وطنیة، فراح یحدق في غلاف الدفتر ذي اللون المرمري محاولاً دون جدوى أن یخرج ذلك الصوت من رأسه.
«لقد كانوا دائماً یأتونك لیلاً، والأفضل لك أن تقتل نفسك قبل أن یقبضوا علیك ومن المؤكد أن كثیراً سبقوك لذلك، فأكثر حالات الاختفاء كانت عملیات انتحار حقیقیة. لكن الأمر یستلزم شجاعة الیأس حتى تقتل نفسك في عالم یتعذر فیه الحصول على سلاح ناري أو على سم سریع المفعول وأكید الأثر.»

وفكر بشيء من الدهشة في عدم جدوى الألم والخوف وفي ما یلاقیه الإنسان من خذلان من جسمه الذي تخور قواه في اللحظات الحاسمة، فقد كان بامكانه أن یخرس الفتاة ذات الشعر الأسود لو أنه قد تصرف بالسرعة الكافیة، ولكن الخطر الداهم الذي كان محدقاً به سلبه القدرة على التصرف. وأدرك أن مواجهة الإنسان ضد جسده أصعب من مواجهة العدو الخارجي. وحتى في هذه اللحظات ورغم ما شربه من خمر، فإن الألم الذي في جوفه أفقده القدرة على التفكیر المنطقي. وأدرك أیضاً أن هذا هو ما یعتري الإنسان في كل المواقف البطولیة والمأساویة. ففي میدان القتال أو في غرفة التعذیب أو على متن سفینة تغرق، تغدو القضایا التي تحارب من أجلها طي النسیان دائماً، ذلك لأن جسدك یظل یتضخم

حتى یملأ علیك العالم فلا ترى سواه. وحتى إذا لم یشل الرعب حركتك أو لم یجعلك الألم تصرخ، فإن الحیاة تظل صراعاً

موصولاً ضد الجوع والبرد والقلق أو ضد حموضة وحرقة المعدة أو ألم الأسنان.
شعر ونستون بضرورة أن یكتب شیئاً ففتح المفكرة، لكن ذاك الصوت الأنثوي كان قد بدأ أغنیة جدیدة وكان كأنه یرتطم بمخه

كشظایا من الزجاج. ثم حاول أن یفكر في أوبراین الذي من أجله، أو إلیه، كانت المذكرات، لكنه وبدلاً من التفكیر في أوبراین راح یفكر في ما سیحدث له بعدما تقبض علیه شرطة الفكر. لن یهم إذا ما قتلوك في الحال فذلك ما كنت تنتظره. ولكن المهم هو ما یسبق الموت (لا أحد یتحدث في مثل هذه الأمور رغم أن الجمیع یعرفها)، هناك خطوات الاعتراف التي علیك أن تمر بها، من الزحف على الأرض والصراخ طلباً للرحمة وطقطقة العظام المتكسرة والأسنان المهشمة وخصلات الشعر التي تُنتزع من رأسك حتى تدمیه. لماذا یتعین علیك أن تتجشم كل هذا ما دامت النهایة واحدة؟ ولماذا لیس بالإمكان أن تقتطع من حیاتك بضعة أیام أو أسابیع؟ فلم یحدث أن أفلت أحد من الملاحقة أو صَمَد على الاعتراف. وحالما تقر بجریمة فكر فإنه من المؤكد أن موتك یصبح مسألة وقت معلوم. لماذا إذن ذلك الرعب من المستقبل الذي لم یكن لیغیر شیئاً؟
ونجح قلیلاً في استحضار صورة أوبراین. فقد قال له أوبراین في الحلم «سنلتقي في مكان لا ظلمة فیه ». كان یعرف ما عناه

أوبراین أو خیل إلیه ذلك. فالمكان الذي لا ظلمة فیه هو المستقبل المتخیَل الذي لن یراه وإن كان یمكن استشرافه والمشاركة فیه. إلا أنه لم یستطع متابعة تسلسل أفكاره أبعد من ذلك بسبب الصوت الصادر عن شاشة الرصد والذي كان یصفر في أذنیه. وما إن وضع ونستون سیجارة بین شفتیه حتى تناثر نصف ما فیها من تبغ كالغبار اللادع على لسانه، وكان من الصعب أن یخرجه من فمه مرة أخرى. وسرعان ما غمر مخیلته وجه الأخ الكبیر طارداً صورة أوبراین. وكما فعل منذ أیام خلت،

أخرج قطعة عملة معدنیة من جیبه ونظر إلیها فحدبه الوجه بنظرة فیها هدوء ورزانة من یذود عن الحمى: ولكن أي ابتسامة تلك التي كان یخفیها تحت شاربه الأسود؟ وكدقات أجراس نعي الموتى ترددت أصداء الكلمات في ذهنه:
الحرب هي السلام
الحریة هي العبودیة
الجهل هو القوة

يتبع....

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك