یؤكد على أن عامة الشعب طبقة وضیعة بالفطرة وأنه یجب إبقاؤهم مذعنین كالحیوانات. في الحقیقة كان ما یعرف عن العامة قلیل، ولم یكن ثمة ما یدعو لمعرفة المزید عنهم. فما داموا یعملون ویتكاثرون فتصرفاتهم الأخرى غیر ذات أهمیة، ولذلك فقد ترك لهم الحبل على الغالب كقطیع من الأبقار تُِرك طلیقاً على مراعي الأرجنتین، یعیشون نمطاً من الحیاة یتناسب مع طبائعهم. كانوا یولدون ویكبرون في الأزقة الفقیرة ثم یذهبون إلى العمل في سن الثانیة عشرة ویمرون مروراً عابراً في مرحلة تمثل ذروة الجمال والرغبة الجنسیة، وبعدئذ یتزوجون في العشرین ویبلغون أواسط العمر في الثلاثین، ویموت معظمهم في الستین. كل ما یشغل بالهم العمل الجسدي الشاق ورعایة الأطفال والعنایة بالمنزل والمشاجرات التافهة مع الجیران، ومشاهدة الأفلام ولعب الكرة واحتساء الجعة، وفوق كل ذلك كانت المقامرة تملأ أفق عقولهم.
ومن ثم لم تكن السیطرة علیهم أمراً عسیراً؛ إذ یكفي أن تندس قلة قلیلة من عملاء شرطة الفكر بینهم، ینشرون الإشاعات المغرضة، حتى یتعرفوا على القلة منهم التي یعتقد أنها مكمن الخطر فیستأصلون شأفتهم. ولم تسجل أیة محاولة لغرس أیدیولوجیة الحزب فیهم؛ إذ لم یكن من المرغوب فیه أن یكون لدى عامة الشعب وعي سیاسي قوي؛ فكل ما هو مطلوب منهم وطنیة بدائیة یمكن اللجوء إلیها حینما یستلزم الأمر،
إقناعهم بقبول ساعات عمل أطول أو حصص أقل من السلع التموینیة. بل وحتى عندما كان ینتابهم شعور بالسخط، كلما یحدث أحیاناً، فإن سخطهم لم یكن لیفضي إلى شيء كونهم یعیشون بلا مبادئ عامة، ولذلك كانوا یركزون غضبهم على تظلمات خاصة وقلیلة الأهمیة. فالأخطار الكبرى لا تسترعي انتباههم، ولیس لدى الغالبیة العظمى منهم شاشات رصد في بیوتهم، بل وحتى الشرطة المدنیة كانت قلیلاً ما تتدخل في شؤونهم. لقد كانت لندن تغص بالجرائم، فكان فیها عالم كامل من اللصوص وقطاع الطرق ومحترفي الدعارة وتجار المخدرات والمحتالین من كل صنف ولون، ولكن لیس لذلك أي اعتبار ما دام یجري بین عامة الشعب. وفي كافة المسائل الأخلاقیة كان یسمح لهم أن یتبعوا تقالید أسلافهم الموروثة.
والفحشاء كانت تمر دون عقاب والطلاق كان مسموحاً به. ولذلك كان یسمح لهم بممارسة الشعائر الدینیة وإذا ما أبدوا حاجة أو رغبة في ذلك فهم لیسوا موضع شك. وفي ذلك كان شعار الحزب یقول: (عامة الشعب والحیوانات أحرار).
انحنى ونستون وحك دوالیه بحذر بعدما شعر بأنها تؤلمه مرة ثانیة. والشيء الذي كان یتردد في رأسه هو أنه من المستحیل
معرفة الصورة الحقیقیة للحیاة قبل الثورة. وأخرج من الدرج نسخة من نصوص التاریخ الخاص بالأطفال والذي استعاره من
مسز بارصون، وأخذ ینسخ قطعة منه إلى مذكراته:
«في الأیام الغابرة قبل الثورة المباركة، لم تكن لندن جمیلة كما نعرفها الیوم. لقد كانت مكاناً مظلماً قذراً بائساً لا یوجد فیه المرء ما یسد رمقه، مئات بل ألوف من الفقراء یسیرون حفاة وبلا مأوى، وكان الأطفال الذین في مثل أعماركم یكرهون على العمل لاثنتي عشرة ساعة في الیوم لحساب سادة قساة یجلدونهم بالسیاط إذا أبطأوا في عملهم ولا یطعمونهم إلا فتات الخبز والماء. ووسط ذلك الفقر المدقع، كانت هناك بضعة بیوت كبیرة ورائعة یسكنها رجال أثریاء لدى كل منهم ثلاثون خادماً على الأقل یقومون على خدمتهم. وهؤلاء كانوا یسمون بالرأسمالیین. وهم رجال سمان ذوو وجوه قبیحة. وباستطاعتك عزیزي الطفل أن تراه وهو یرتدي معطفاً طویلاً أسود اللون وقبعة كریبة لامعة تشبه مدخنة الموقد وكانت تسمى «القبعة العالیة».
ذلك هو الزي الرسمي للرأسمالیین ولم یكن یسمح لأحد سواهم بلبسه. وكان هؤلاء یملكون كل شيء في العالم فیما كان الآخرون جمیعاً عبیداً لهم. أجل كانوا یملكون الأراضي والمنازل والمصانع والأموال. وإذا ما خرج أحد عن طاعتهم فقد كان بمقدورهم أن یلقوا به في السجن أو یجردوه من وظیفته لیهلك جوعاً. وإذا ما رغب أي شخص عادي في التحدث إلى رأسمالي كان علیه أن یجمع أطراف ثوبه وينحني ولخلع قبعته ویخاطبه بكلمة «سیدي». وكان رئیس كل هؤلاء الرأسمالیین
یسمى الملك، و....»
وكان ونستون یعرف بقیة ما یحتویه ذلك الكتاب. إذ فیه إشارة إلى الأساقفة في أردیتهم ذات الأكمام الواسعة، والقضاة في معاطفهم الفاخرة، وآلات التعذیب باختلاف أنواعها ومآدب السادة رؤساء البلدیات، وعادة تقبیل أقدام البابا. وكان هنالك أیضاً ما یجب عدم ذكره في كتب الأطفال. إنه القانون الذي كان یعطي الحق لكل رأسمالي أن ینام مع أیة امرأة تعمل في أحد مصانعه.
كیف كان یمكنك أن تعرف مقدار ما في ذلك من أكاذیب؟ فقد یكون الإنسان العادي حقاً أفضل حالاً الآن مما كان علیه قبل
الثورة. غیر أن البرهان الوحید على نقیض ذلك كان ذاك الاحتجاج الصامت الذي تشعر به في قرارة نفسك، فضلاً عن الشعور الغریزي بأن الأوضاع التي تعیشها لا تطاق وبأنها لا بد كانت في وقت سابق مغایرة لما هي علیه الآن. وفكر أن ما یمیز
حقاً الحیاة العصریة لم یكن قسوتها أو انعدام الطمأنینة، وإنما هو العري والانحطاط واللامبالاة.
ولو أمعنت النظر في ما حولك لتبین لك أن الحیاة لا تشبه في شيء تلك الأكاذیب المتدفقة من شاشات الرصد، ولا تلك المثل التي كان الحزب یسعى إلى إرسائها. وكانت هذه المثل في معظمها، حتى لدى عضو الحزب، غیر مؤثّرة ولا سیأسیة،
یشهد على ذلك الانخراط في أعمال حقیرة والتزاحم للحصول على موطئ قدم في قطار الأنفاق أو رتق جورب مهترئ أو تسول قطعة سكر أو ادخار عقب سیجارة. أما المثل التي كان یروج لها في الحزب فقد كانت شیئاً ضخماً مخیفاً وبراقاً، وتُشعرك بأنك وسط عالم من الفولاذ والقوة، والآلات الضخمة والأسلحة المخیفة،
وتوحي لك بأنك وسط أمة من المحاربین والمتعصبین الذین یمضون قدماً كبنیان مرصوص ویفكرون تفكیراً واحداً متماثلاً
ویهتفون بشعارات واحدة ویعملون بلا كلل ویقاتلون وینتصرون ویعتدون، ویبلغ تعدادهم ثلاثمائة ملیون من الأنفس ذوي الوجوه المتماثلة. أما الحقیقة فهي في المدن القذرة الكئیبة والآیلة للسقوط، یروح ویجيء فیها بشر جیاع، یعانون من سوء التغذیة، بأحذیة بالیة وثیاب مهلهلة، ویقطنون بیوتًا متداعیة تعود للقرن التاسع عشر تفوح منها رائحة الملفوف المسلوق ممزوجة بروائح قذرة.
كان یبدو له أن ما یراه هو صورة للندن، المدینة الكبیرة المتداعیة ذات الملیون سلة نفایات، تختلط بصورة السیدة بارصون ذات الوجه المغضن بالتجاعید والشعر المنفوش وهي تحاول عبثاً فتح بالوعة مسدودة.
انحنى صاحبنا وحك كاحله مرة أخرى. ثم سار مع أفكاره بین هذه الحیاة البائسة وما یدعیه الحزب من أكاذیب. فلیلاً نهاراً كانت شاشات الرصد تصم أذنیك بالإحصائیات التي تبرهن على أن الشعب الیوم لدیه طعام أكثر وثیاب أوفر وبیوت ووسائل راحة أفضل، وأنهم أصبحوا یعیشون أطول، ویعملون ساعات أقل، وأنهم أكبر وأصح وأقوى وأسعد وأذكى وأكثر ثقافة من أولئك الذین كانوا على قید الحیاة منذ خمسین سنة خلت. هذا ولم یكن من الممكن أبداً التدلیل على صدق أو كذب كلمة واحدة من ذلك. فمثلاً كان الحزب یزعم أن 45 في المائة بین البالغین من عامة الشعب متعلمون أما قبل الثورة فقد كانت النسبة 15 في المائة فقط.
ویزعم كذلك أن نسبة وفیات الأطفال بلغت 160 الف فقط، في حین كانت قبل الثورة 300 الف. وعلى هذا المنوال كانت
الإحصاءات تجري شبیهة بمعادلة بسیطة مجهولة. فمن الجائز جداً أن تكون كل كلمة في كتب التاریخ، بل حتى الأمور التي
یعتبرها المرء مسلّمات، هي محض خیال. وربما لم یكن هنالك أبداً ذلك القانون الذي یبیح للرأسمالي مجامعة أي امرأة تعمل في مصانعه، أو مخلوق مثل الرأسمالي أو قبعة مثل قبعته العالیة.
كل شيء كان یلفه الضباب، فالماضي امحى من الوجود وما تم محوه بات طي النسیان فصارت الكذبة حقیقة. مرة واحدة في حیاته عثر على دلیل مادي لا یرقى إلیه شك، على عملیة تزییف وأمسك به بین أصابعه لثلاثین ثانیة فقط. لابد أن ذلك كان في عام 1973. وعلى أیة حال كان ذلك في الفترة التي انفصل فیها عن كاترین. ولكن التاریخ الحقیقي لتلك الحادثة كان أبكر بسبع أو ثماني سنوات.
بدأت القصة فعلاً في منتصف الستینات إبان موجات التطهیر الكبرى التي جرى فیها تصفیة الزعماء الأصلیین للثورة دفعة
واحدة وإلى الأبد. وبحلول عام 1970 لم یكن قد تبقى منهم أحد، ما عدا الأخ الكبیر. أما الباقون فقد وصموا بالخیانة واعتبروا
مناوئین للثورة. وفر غولدشتاین إلى حیث لا یعرف أحد، فیما توزع الآخرون. قلة منهم اختفت، وأغلبیة تم إعدامها بعد
محاكمات علنیة صوریة اعترفوا خلالها بم نسب إلیهم من جرائم. وكان من ضمن من بقي على قید الحیاة ثلاثة رجال هم جونز وآرونسون وراذرفورد. وكان هؤلاء الثلاثة قد ألقي القبض علیهم عام 1965. وكما یحدث غالباً، فقد اختفوا لمدة سنة أو أكثر، لا یعرف إن كانوا أحیاء أم أموات، بعدئذ وعلى نحو مفاجى جيء بهم لیجرموا أنفسهم بالطریقة المعهودة، بحیث اعترفوا بالتجسس لصالح الأعداء (وفي ذلك الوقت كان العدو هو أوراسیا أیضاً)،
وباختلاس المال العام، وبقتل العدید من أعضاء الحزب الخلّص، كما بتدبیر الدسائس ضد زعامة الأخ الكبیر للثورة، وذلك حتى قبل قیام الثورة، كذلك اعترفوا بعملیات تخریبیة أفضت إلى مقتل مئات الألوف من الناس. لكن وبعد اعترافهم بهذه الجرائم صدر أمر بالعفو عنهم وأعیدوا إلى الحزب ومنحوا مناصب بألقاب رنانة لكنها خاویة من الصلاحیات. وكتب ثلاثتهم مقالات مطولة وخسیسة یشرحون فیها الأسباب التي دفعتهم للانشقاق عن الحزب سابقاً وقطعوا العهود على إصلاح أنفسهم.
وبعد فترة من إطلاق سراحهم رآهم ونستون بالفعل في مقهى شجرة الكستناء. وهو یذكر ذلك الشعور بالافتتان الممزوج
بالخوف الذي انتابه وهو یراقبهم بطرف عینیه. كانوا یكبرونه سناً. بقایا من العالم القدیم، وتقریباً آخر قادة الحزب العظماء
الباقین من الأیام المجیدة الأولى للحزب. كان عبق النضال السري والحرب الأهلیة ما زال عالقاً بهم على نحو خافت. انتابه شعور آنذاك، رغم أن التواریخ والحقائق في ذلك الوقت كانت عرضة للعبث بها، بأنه سمع بأسمائهم قبل سنوات من سماعه بالأخ الكبیر. لكنهم الآن خارجون على القانون وأعداء ومنبوذون ومحكوم علیهم بالزوال في غضون سنة أو سنتین. إذ لم یحدث أن سقط أحد في قبضة شرطة الفكر ثم كتبت له النجاة في النهایة، لقد كانوا جثثاً في انتظار من یعیدها إلى قبورها. لم یكن من الحكمة أن یرى أحد بجوار مثل هؤلاء الناس، لذلك خلت أقرب الموائد إلیهم من رواد المقهى. وكانوا یجلسون وقد خیم علیهم السكون وأمامهم كؤوس الخمر المعطرة بالقرنفل التي یشتهر بها هذا المقهى. ومن بین الثلاثة كان راذرفورد وحده هو الذي ترك أثراً خاصاً في ونستون.
يتبع....