وكانت الكلمات التي كتبها في مذكراته «إن كان هنالك من أمل فإنه یكمن في العامة» لا تني تتردد في ذهنه أثناء سیره وقد رأى فیها حقیقة خافیة وعبثاً. وكان آنذاك قد وصل إلى مكان ما وسط الأحیاء القذرة الداكنة اللون والواقعة شمال شرق ما كان یعرف ذات یوم بمحطة (القدیس بانیراس)، كان یسیر في شارع مرصوف بالأحجار، على جانبیه تصطف بیوت صغیرة من طابقین محطمة الأبواب تطل مباشرة على رصیف الشارع كأنها جحور جرذان. وكنت ترى بركاً من الماء القذر هنا وهناك بین الأحجار. وفي مداخل الأبواب المعتمة، وفي الأزقة الضیقة المتفرعة، كانت أعداد هائلة من الناس تتكوم، فتیات في میعة الصبا وقد طلین شفاههن بطریقة فجة، وشباب یلاحقون الفتیات، ونساء مترهلات یسرن متهادیات یمشین على مهل كنماذج لما ستكون علیه الفتیات الشابات بعد عشرة أعوام، ونساء عجزة یسرن على أقدام مفلطحة، وأطفال في ثیاب مهلهلة وأقدام حافیة یلعبون في برك الماء رغم سماعهم صیحات غضبى من أمهاتهم،
وربما كان ربع عدد نوافذ الشارع محطمة ومرقعة... ولم یعر معظم الناس اهتماماً بونستون عدا قلة منهم رمقته بشيء من
الاستغراب الحذر. وكانت تقف على مدخل أحد الأبواب امرأتان ضخمتان بسواعد حمراوات آجریة طویت فوق المئزر، تتجاذبان أطراف حدیث التقط ونستون مقاطع منه عندما اقترب منهما:
- نعم لقد قلت لها إن كل هذا حسن. ولكنك لو كنت في مكاني لفعلت الشيء نفسه الذي فعلته،
وقلت أیضاً إن من السهل أن تنتقدي الآخرین طالما لیس عندك من المشاكل ما عندي.
وقالت الأخرى: آه! ذلك هو الأمر تماماً، إنه صحیح تماماً.
وما إن مر بهما ونستون حتى لاذتا بالصمت فجأة وهما تتفحصانه بنظرات عدائیة صامتة. في الحقیقة لم یكن ذلك عداء بالمعنى المعروف للكلمة بل مجرد حذر وتخوف وقتي كالذي یحدث عند مرور حیوان غیر مألوف أمام المرء، إذ لم تكن رؤیة اللباس الأزرق أمراً مألوفاً في مثل هذا الشارع. ومن المؤكد أنه لم یكن من الحكمة في شيء أن تتواجد في مثل تلك الأماكن ما لم تكن مكلفاً بمهمة محددة هناك. وإذا حدث وصادفتك دوریة فقد یستوقفونك ویسألونك: «هل تسمح لنا برؤیة هویتك أیها الرفیق؟
ماذا تفعل هنا؟ متى تركت عملك؟ أهذا هو طریقك المعتاد في العودة لمنزلك؟ وهلم جراً... » ولیس ذلك بسبب قواعد تحظر العودة للمنزل من غیر الطریق المعتاد، وإنما لأن مثل هذا العمل یلفت انتباه شرطة الفكر.
فجأة امتلأ الشارع عویلاً وصراخاً، وانبعثت صیحات الإنذار من كل حدب وصوب وأخذ الناس یتقاطرون إلى مداخل الأبواب
كالأرانب. وهرعت امرأة صغیرة السن من مدخل باب قریب جداً من ونستون وأمسكت بطفل نحیل كان یلعب في بركة من الماء ثم لفته بمئزرها وقفزت به إلى الداخل. حصل كل ذلك في لمح البصر. وفي اللحظة نفسها اندفع رجل یرتدي حلة سوداء من زقاق جانبي وقفز نحو ونستون وهو یشیر بفزع إلى السماء ویصیح في وجهه:
«بارجة...! احذر أیها المسؤول! إنها تدوي فوق رأسك! انبطح أرضاً بسرعة!»
وكان العامة لسبب ما یستعملون كلمة «بارجة» للاشارة إلى القذائف الصاروخیة. وغالباً ما كانوا على صواب عندما یطلقون تحذیراً من هذا القبیل. وبالرغم من أنه یفترض أن القذیفة
الصاروخیة تفوق في سرعتها سرعة الصوت، فقد بدا أنهم كانوا یتمتعون بغریزة ما تنبئهم بها قبل سقوطها بثوان معدودة.
انبطح ونستون أرضاً وشبك ساعدیه حول رأسه، ثم سمع أزیزاً مدویاً بدا له كما لو أن الأرض قد ارتجت بقوة وتساقط وابل من أجسام خفیفة على ظهره، ثم تبین له عندما وقف على قدمیه أنها كانت شظایا من زجاج تطایر من النوافذ القریبة تحیط به من كل جانب. وبعدئذ تابع سیره، وكانت القنبلة قد دمرت مجموعة من البیوت بامتداد مئتي متر في الشارع وتصاعد عمود أسود من الدخان في السماء مع غیمة من الغبار الكثیف غطت الأنقاض الناجمة عن الدمار. تجمع جمهور من الناس أمامه على الرصیف حیث كانت تكوین من الجبس وفي وسطه یستطیع المرء أن یتبین خیطاً أحمر لامعاً. وعندما اقترب ونستون رأى یداً بشریة مبتورة من المعصم وقد ابیضت تماماً، عدا العقد الدامیة التي فیها مما جعلها تشبه الجبس.
لكز هذا الشيء بقدمه إلى البالوعة وأخذ شارعاً جانبیاً لیتحاشى الزحام، وفي غضون ثلاث أو أربع دقائق كان قد أضحى خارج
المنطقة المنكوبة حیث كانت الشوارع على حیاتها الحقیرة الصاخبة كأن شیئاً لم یحدث، وكانت الساعة قد بلغت الثامنة مساء تقریباً وقد غصت الحانات بروادها من عامة الشعب. ومن أبوابها المتجهمة، دائمة الاهتزاز بین فتح وغلق، انبعثت رائحة البول ونشارة الخشب والجعة الحامضة. في زاویة ناشئة عن نتوء واجهة أحد المنازل وقف ثلاثة رجال متقاربین جداً وقد أمسك أوسطهم بجریدة مفتوحة فیما كان الآخرآن یتطاولان لقراءتها من فوق كتفیه، وحتى قبل أن یصبح على مقربة تسمح له باستقراء تعابیر وجوههم رأى استغراقهم الشدید الذي شمل كل ذرة من أجسامهم، وكان واضحاً أنهم یقرأون نبأً على جانب من الخطورة.
وعندما أصبح على بعد خطوات منهم تفرقوا فجأة ودخل اثنان منهم في تلاسن عنیف حتى بدا أنهم على وشك البدء في توجیه اللكمات.- ألا یمكنك أن تصغي لما اقول أیها اللعین؟ لقد أخبرتك أنه منذ أربعة عشر شهراً لم یربح أي عدد ینتهي بالرقم 7.
- بلى... لقد حدث ذلك مرة.
- كلا لم یحدث. فمنذ سنین وأنا أحتفظ في منزلي بكل المجموعات وأدونها بانتظام على قصاصة ورق ولیس فیها أي عدد ینتهي بالرقم 7.
- بلى لقد ربح رقم 7.. دعني أتذكر الرقم الملعون.. إنه أربعة صفر سبعة، وكان ذلك في شهر فبرایر لا بل الأسبوع الثاني من
فبرایر.
- فبرایر... یا لك من أحمق... الأرقام جمیعها مدو ّنة لدي وأنا أقول لك إنه لا یوجد ذلك الرقم.
صاح بهما الرجل الثالث قائلاً: «كفى مهاترة...»
كانوا یتحدثون عن الیانصیب، وبعدما ابتعد عنهم مسافة ثلاثین
متراً نظر خلفه فوجدهم ما زالوا یتشاحنون ووجوهم منفعلة
ومتقدة. وكان سحب الیانصیب الأسبوعي على الجوائز النقدیة الهائلة، هو الحدث العام الوحید الذي یعیره العامة اهتماماً كبیراً جداً، ومن المرجح أن هناك بضعة ملایین من العامة الذین یعتبرون الیانصیب هو السبب الرئیسي إن لم یكن الوحید وراء تمسكهم بالحیاة، إذ كان لهم بمثابة المخدر ومبعث بهجتهم وحماقتهم ومحرك تفكیرهم. وحیثما كان الیانصیب هو الموضوع،
كنت تجد الناس الذین بالكاد یقرأون ولكتبون، یظهرون قدرة على إجراء الحسابات المعقدة والاحتمالات المدهشة التي تعتمد على الذاكرة. كان هناك عدد كبیر من الرجال یعتمدون في كسب قوتهم على بیع الأوراق والتنبؤات وتمائم الحظ. ولم یكن لونستون علاقة بإدارة الیانصیب، فقد أنیط بوزارة الوفرة دور الإشراف على إدارة هذه العملیة، ولكنه كان یدرك (وفي الواقع كان كل شخص في الحزب یدرك ذلك) أن الجوائز كانت وهمیة للغایة بحیث یجري دفع الجوائز ذات المبالغ الصغیرة فحسب، أما تلك ذات المبالغ الكبیرة فكان رابحوها أشخاصاً لا وجود لهم. وفي غیاب أي اتصال حقیقي بین طرفي أوقیانیا لم یكن من الصعب تمریر مثل ذلك التلاعب.
«لكن إن كان هنالك من أمل فإنه یكمن في العامة، ویجب علیك الإیمان بذلك». عندما تصوغ ذلك في كلمات فإنه یبدو معقولاً، وعندما ترى الرجال یمرون على الرصیف فإنه یصبح قضیة تؤمن بها. ما إن استدار إلى شارع متفرع حتى انتابه شعور بأنه جاء إلى هذا المكان من قبل وأن هناك طریقاً رئیسیاً غیر بعید. من مكان ما تعالت أصوات بالصیاح، ثم انعطف الطریق انعطافة شدیدة وانتهى بدرج یفضي إلى زقاق حیث كان الباعة یعرضون خضروات ذابلة. في تلك اللحظة تذكر ونستون المكان. لقد كان الزقاق یؤدي إلى الشارع الرئیسي، وعند المنعطف الثاني، وبما لا یبعد خمس دقائق، كان یوجد حانوت بیع الأشیاء القدیمة الذي سبق ان اشترى منه مفكرته. ومن قرطاسیة صغیرة وقریبة كان قد اشترى ماسكة الریشة والحبر.
توقف لحظة عند أعلى الدرج، فقد كان في الجانب المواجه للزقاق حانة قذرة اكتست نوافذها بالغبار كأنما غطاها الصقیع. اندفع من الباب دائم الاهتزاز رجل حناه الكبر دون أن یفقد نشاطه. وكان ذا شارب أبیض أشعث مدبباً إلى الأمام كشارب برغوث البحر.
يتبع....