سماء ثابتة
كانَ الفهمُ السائدُ للكوْنِ في الفِكر الغربيّ، وعلى امتداد أجيال متعاقبة منذ القرن الرابع قبل الميلاد وحّتى القرن السابع عشر، مختلفاً جداً عن فهمنا الحاليّ.
كانت الكرةُ الأرضيّة مركزَ الكون، تُحيطها كُراتٌ داخل كُراتٍ شفافّة (أفلاك)، يقوم في كلّ واحدٍ منها كوكبٌ سيّار.
كانت الكواكب السيّارة تتحرّك في مساراتٍ دائريّة حول الكرة الأرضيّة، في حين كانت الكواكب الثابتة تقعضمنَ الفلَكِ الأعلى.
كانت السماء تُعتبر ثابتةً، حيث اعتُبرَت كلّ الأجسام التي فوق دائرة القمر، أي التي فوق الفلك الذي يضمُّ القمر، ثابتةً إلى الأبد.
لم تكن النيازك (ميتوريت)، مثلاً، تُعتبر كواكبَ بشكل عامّ، وإنما ظواهر (كلمة "ميتوريت" تُذكّرنا بكلمة "ميتورولوجيا" – عِلم النيازك!)، ذلك أنّها لم تكن أبديّة، بل كانت تظهر وكأنّها من العدم وتختفي مثلما تظهر (في حقيقة الأمر، إنّ الكواكب التي تثور وتشتعل فجأةً، تلك التي نعرفها اليوم باسم "سوبرنوفا"، كانت تُشاهَد بين الحين والآخر منذ القِدَم، ولكن كان من الصعب إيجادُ تفسيرٍ لها).
على مدار الأجيال، اتّخذ تصوّر الكون هذا أهميّة دينيّة، ففكرة الكواكب الثابتة غير المتغيّرة للأبد، كانت بمثابة إيمانِ لا يجوز نقضه.
في النصف الثاني من القرن السادس عشر، وبعد إعلان نظريّات كوبيرنيكوس Copernicus الفلكيّة، بدأ الفهمُ القديم للعالَم بالانهيار شيئاً فشيئاً، وبدأ مفهوم الكون الذي نعرفه اليوم بالتشكّل: فقدت الكرة الأرضيّة مكانتها كمركزٍ للكون – الاعتقاد بأنّها كوكبٌ سيّارٌ يدور حول الشمس. اختفت الأفلاك، والسماءُ بأجرامها فقدت مكانتَها كشيءٍ ثابتٍ غير متغيّر.
انهارَ مفهوم الكون لأنّ مفهوم العالم الهامّ بدأ بالانهيار.
بدأ الناسُ يفكّرون بطريقةٍ مختلفةٍ بشأن الظواهر الفيزيائيّة، وبدأوا، أيضاً، يوجّهون أنظارهم إلى السماء.
عام 1596، مثلاً، لاحظَ ديفيد فابريتشيوس Fabricius أنّ سُطوعَ كوكبٍ يُدعى ميرا Mira، والذي يُعرَف باسم "ألفا تشيتوس" Alpha Cetus يتغيّر بين حين وآخر. كان ذلك واحداً من خصائص تلك الفترة – اكتشاف التغييرات في الكواكب التي من المُفترَض أن تكون غير متغيّرة.
مع ذلك، وفي وقتٍ لاحقٍ، في القرن العشرين، أصبحت الكواكب المتغيّرة هي الأجسام الفلكيّة الأكثر أهميّة.
كوكب الشيطان
في مطلع القرن السابع عشر، بدأ استخدام التليسكوب، وتبلورَ العِلم الفلكيّ حول أداة البحث هذه. لكنّ بحث الكواكب المتغيّرة لم يشهد تقدّماً بوتيرة مذهلة.
عام 1670، بعد نحو سبعين سنةً على اكتشاف فابريتشيوس، اكتشف جيمينيانو مونتاناري Geminiano Montanari كوكباً ثانياً سطوعُه متغيّر، كوكباً أطلق عليه العلماء العرب اسمَ "الغول"، أي "كوكب الشيطان". يمكن أن يدلّ هذا الاسم على أنّ العلماء العرب القدماء لاحظوا تغيّراً في درجة سطوع الكواكب، ولكن لا توجد أدلّة موضوعيّة على ذلك.
مرّ ما يزيد عن مائة عامٍ قبل حدوث أي تقدم آخر في بحث الكواكب المتغيّرة.
كان أوّل شخصٍ يقيسُ التقلّبات الدوريّة لكوكب الغول – الوقت الذي يستغرقه هذا الكوكب لإنهاء دورةِ سُطوعٍ واحدة – هو جون غودريك، الذي أرسل إلى الشركة الملكيّة البريطانيّة للعلوم، وهو في سنّ 19 عاماً، نتائج مشاهداته، نتائج قياس دورة التغيّر (68 ساعة و50 دقيقة)، واقتراحاتٍ لنموذجيْن يمكن أن يفسّرا سبب هذا التغيّر.
طرحَ غودريك اقتراحيْن:
- الأوّل هو أنّ سبب التغيّر في درجة سطوع الكوكب هو جسمٌ مُظلِم يمرّ أمام الكوكب (ويدورُ في فلكه، بالطبع
- والثاني هو كوكبٌ سيّار جنبهُ الأوّل أكثر ظُلمةً من جنبه الثاني.
كان اقتراحُه الأوّل صحيحاً بالنسبة لكوكب الغول: نعرفُ اليومَ أنّ هذا الكوكب هو ثاني الكواكب التي تدور في هذا الفلك وحوله، حيث أنّ الكوكب الأكثر ظُلمةً يُلقي بعتمته جزئيُّا على الأكثر سطوعاً؛ يحصل هذا الكسوف في كلّ دورةٍ ودورة.
مع ذلك، فإنّ النموذج الثاني الذي اقترحَه غودريك، ورغم أنّه لا ينطبق على كوكب الغول، نراهُ ينطبق، فعلاً، على كوكبٍ كان غودريك قد اكتشفه بنفسه، كوكب اسمه شيلياك Sheliak، يُعرَف اليومَ باسم Beta Lyrae. يتّضح بأنّ هذا الكوكب يتألّف، فعلاً، من كوكبيْن ضخميْن، قريبيْن جدّاً من بعضهما البعض لدرجة أنهما يجذبان بعضهما البعض (بقوّة الجاذبيّة)، ويُسطِّحُ كلّ منهما صورةَ الآخر. لذلك، يبدو كلّ كوكبٍ أصغر حجماً، وبالتالي أقلّ سطوعاً عندما ننظر إليه من جانب واحد، وأكثر سطوعاً عندما ننظر إلى داخله، أي عندما يكون "مكشوف الوجه". يدور زوج الكواكب في فلكه بحيث يظهر "الجانب" و"الوجه" بهيئةٍ تبادليّة، ولذا فإننا نرى الكوكب الذي تتغيّر درجة سطوعه بشكلٍ دوريّ.
الكواكب النبّاضة
في الحقيقة لم يفكّر غودريك بالنموذج المُحتمَل الأبسط الذي يُعتبر التفسير الخاصّ بالتغيّرات الدوريّة في درجة السطوع لواحدٍ من الكواكب الأخرى التي اكتشفها.
الغلاف الجويّ لهذا الكوكب، الذي يُدعى اليوم "دِلتا الملتهب" (Delta Cephei)، يتمدّد ويتقلّص بوتيرةٍ ثابتةٍ في الواقع، تماماً مثل القلب النابض. أُطلِقَ عليه اسم "الكوكب النبّاض المتغيّر" أو "الملتهب المتغيّر".
نعرفُ اليومَ الكثيرَ من هذه الكواكب، ولها وظيفةً هامّةً جدّاً: إنها تُساعدنا على تحديد حجم الكون وعُمره.
كيف يفعلون ذلك؟
معادلة هابل Hubble's Equation
قبل سبعين سنة اكتشف رائد الفضاء إدوين هابل Hubble أنّ الكون يتمدد وأنّ المجرّات البعيدة تزدادُ بُعداً عنا، وتزدادُ بُعداً عن بعضها البعض، في وتيرةٍ تزيدُ مع البُعد.
طرحَ هابل تقديراً بأنّ سُرعة المجرّة V تتناسب بشكل مُباشر مع بُعدها عنّا D، وذلك باعتبار أنّ النسبة ثابتة H، وتُدعى اليوم باسم "ثابتة هابل" Hubble's Constant انّ كلّ المشاهدات التي تمّ جمعها منذ وضع هذه المعادلة، وعلى أقلِّ بدرجة تقريبية جيّدة (ثارت مؤخّراً شكوكٌ بأنّ المعادلة غير دقيقة، ولكن لم يتم التحقّق من صحَّتها بعد).
تتوافق المعادلةُ، أيضاً، مع نموذج "الانفجار الكبير". حسب هذا النموذج، فإنّ المجرّات الأبعد تستمرّ في الابتعاد عنّا وتحليقها تماماً بوتيرةٍ قريبةٍ من سرعة الضوء ("حدّ السرعة" الذي وضعه أينشتاين)، وكما يبدو فإنّها على هذا النحو منذ بدء الزمن وقتَ الانفجار الكبير. وبالتالي، إذا كنا نعرف كم تبعد المجرّات عنا، فإننا نعرف حجمَ الكون وعمره أيضاً.
لا نستطيع أن نرى هذه المجرّات، ولكن إذا كانت معادلة هابل صحيحة، وإذا كنا نعرف ثابت هابل، فإننا نستطيع، ببساطة، أن نعتبر أنّ V= سرعة الضوء في المعادلة، وأن نحسب بعدها لنتوصّل إلى معرفة حجم الكون. وبما أنّ السرعة هي النتيجة التي نحصل عليها عندما نُقسِّم المسافة على الزمن، فإننا نستطيع أن نعرف، أيضاً، مدّة تحليق المجرّات البعيدة، بالطبع، وعُمر الكون، الذي يبلغ، بالتحديد، 1 مُقسوماً على H.
حجم الكون وعُمره
ولكن كيف نستطيع تحديد H؟
إنّ نتائج المُشاهَدات الدقيقة التي أجرتها رائدة الفضاء هنرييتا ليفيت Leavitt مطلعَ القرن العشرين، تُشير إلى أنّ دوريّة النبض الخاصّ بكلّ كوكب تُعتبر ثابتة، وأنّ هناك علاقة مباشرة بينها وبين قوّة الضوء المنبعثة من الكوكب.
بما أنّ الضوء ينتشر في كلّ الاتجاهات بالتساوي، فإنّ السطوع النسبيّ (نسبةً إلى أعيننا) للكوكب يتضاءل كلما يقلّ تربيع البُعد عنا.
وهكذا نستطيع معرفة بُعد مسافة المُلتهب عنّا اعتماداً على معرفتنا حول تأثير دوبلر Doppler، نستطيع، أيضاً، معرفة سُرعة ابتعاده عنا.
تأثير دوبلر هو ما يُخفِضُ حدّة صوت صافرة القطار أو سيّارة الإسعاف بعد أن تكون قد مرّت بنا، وذلك مقارنةً بقوّة الصوت الذي نتنبه له عندما يقترب منا. يُؤدّي هذا التأثير، أيضاً، إلى تغيير لون (أي طول موجة) ضوء الكوكب. يُطلقُ روّاد الفضاء على هذه الظاهرة اسم "الانزياح الأحمر" red shift من خلال قياس "الانزياح الأحمر" الخاصّ بالكوكب، نستطيع معرفة السرعة التي يبتعد فيها عنّا.
عندما نضع بُعد وسرعة المُلتهب في معادلة هابل، نستطيع حساب ثابت هابل، وبالتالي، حساب حجم الكون وعمره:
- الحجم هو نصف قطر طوله 1023 كيلومتر بالتقريب (واحد يليه 23 صفراً
- والعمر هو 122 مليار سنة بالتقريب!
كلّ ذلك يبدو بسيطاً على الورق ولكنّ الحقيقة هي أنّ هناك حسابات ترتكزُ على حساباتٍ مختلفة لثابت هابل، وإنّ التحدّي الذي يواجهه العلماء اليوم هو العمل على التدقيق في حساب ثابت هابل بشكلٍ أكبر.
عُمر قصير
يصعبُ التصديق بأنّ جون غودريك كان قد اكتشف ما اكتشفه قبل أن يبلغ من العمر 21 عاماً، ورغم أنّه وُلِدَ أصمّ (الولد الأصمّ من الولادة لا يستطيع أن يسمع الأصوات التي يُصدرُها الآخرون)، ولذا، من الصعب جدّاً بالنسبة إليه أن يتعلّم أيّ شيء.
ولكنّ غودريك، من خلال العمل المتواصل والمثابرة، وبمساعدة أهله المخلصين، لم يتعلّم شيئاً واحداً فقط، وإنما حظيَ بتقديرٍ كبير، حيث اختيرَ، وهو في الـ21 من عمره، ليكون عضواً في الرابطة الملكيّة.
توفي غودريك (بالتهاب رئويّ) بعد مرور أربع سنوات على ذلك!
من المثير للاهتمام، أيضاً، أنّ هنرييتا ليفيت، العالِمة التي بحثت العلاقة بين دوريّات المُلتهبات ودرجة سطوعها، كانت صمّاء أيضاً.
لا يكفي أن نرتكز على شخصيْن لنفترض وجود علاقة بين الصمّ وبحث الكواكب، ولكن الحقيقة هي الحقيقة: الكواكب تُبحَث بالعينيْن، لا بالأذنيْن!