عام 1938، اكتشفت ليزه مايتنر وأوتو هان Hahn الانشطارَ النوويّ.
عام 1944، عندما كانت مايتنر تسكن وتعمل في السويد، منحت الأكاديميّة السويديّة جائزة نوبل للكيميّاء إلى أوتو هان وبيرتس شطراسمان Strassmann (الذي كان شريكاً في العمل، أيضاً). عاشَ هانَ وبيرتس وعمِلا في ألمانيا. لماذا لم تُمنَح الجائزة إلى ليزه مايتنر، أيضاً؟
لم تتضح ملامحُ الإجابة عن هذا السؤال حتّى يومنا هذا..
هناك، بالطبع، من يقول إنّ سبب ذلك يعود إلى كونها امرأة، ومن عائلة يهوديّة، عِلماً أنّها بدّلت دينها (عام 1908) وأصبحت مسيحيّة بروتستانتيّة.
في حين حاول آخرون، ومنهم هان نفسه، تفسير عدم اختيارها لنيل الجائزة بقولهم إنّ العمل التجريبيّ قد تمّ على يد هان (وشطراسمان)، وإنّ مايتنر ساهمت "فقط" في الفهم، في السياق النظري، وأيضاً في إطلاق الاسم "انشطار" على العمليّة. بالإضافة إلى ذلك: نشرَت مايتنر آراءَها واستنتاجاتها في هذا الشأن بعد شهرٍ من قيام هان وشطراسمان بنشر مقالِهِما.
سيبقى الجدل القائم حول مسألة مايتنر والجائزة، بالنسبة لنا، كما يبدو، مفتوحاً في المستقبل، أيضاً.
مع ذلك، حصلت مايتنر على تعويضٍ واعتراف، وإنْ متأخريْن، عندما مُنحَت جائزة فيرمي Fermi حصلت مايتنر على هذه الجائزة مع هان وشطراسمان عام 1966 في الولايات المتّحدة.
صدمة الانشطار
كانَ وجود إمكانيّةٍ لشَطرِ نواةِ الذرّة بمثابة مفاجأةٍ كبيرة.
قبل عدّة عقودٍ من ذلك، كانَ عِلمُ "الخيمياء": أي تحويل عنصرٍ معيّنٍ إلى آخر، إلى واقعٍ، عِلماً أنّ هذه التغييرات كانت، دائماً، تتعلّق بتحويل عنصرٍ معيّنٍ إلى عنصرٍ آخر مُجاوِر، بعيدٍ عن العنصر الأصليّ موقعاً أو اثنيْن، فقط، على القائمة الدوريّة.
كانت هذه التغييرات تحدث بشكلٍ طبيعيّ في العناصر الإشعاعيّة، عندما ينفلتُ إلكترونٌ أو جزيءٌ نوويٌّ صغيرٌ من النواة.
كان في الإمكان إجراءُ تغييراتٍ مُشابهة من خلال إطلاقِ جزيئات صغيرة إلى داخل النواة (رغمّ إمكانيّة تحويل الرصاص إلى ذهب، فإنّ التكلفة الباهظة للعمليّة نفسها والكميّات الصغيرة التي نتجَت عنها، جعلت رغبةَ عُلماء الخيمياء بمثابة حلمٍ لا يتحقّق!
حتّى عام 1932، لم يكن يتوافر سوى جزيئات ذات شُحنات موجبة، حتّى أنّ دفعَها إلى داخل النوى، التي تحملُ هي الأخرى شُحنةً موجبة، يستلزم استخدامَ طاقاتٍ عالية للتغلّب على عمليّة الدفع الإكتروستاتيكي.
ولكن، عام 1932، اكتشفَ تشادويك Chadwick جزيئاً جديداً غير مشحون، أطلق عليه اسم نيوترون. جعلَ هذا الاكتشافُ إنريكو فيرمي يتساءل عمّا يمكن أن يحدث للنوى إذا أدخلنا إليها نيوترونات. اعتقدَ أنّه يستطيع بهذه الطريقة تشكيلَ عناصر جديدة "فائقة الثِّقَل"، وبالتالي، إضافةَ عناصرٍ إلى العناصر الـ92 التي كانت معروفةً آنذاك. اعتقد فيرمي أنّه سينجح، ولكنّه لم يستطع إثبات ذلك.
وصلت الاستنتاجات المذهلة التي تراكمت على مدار سنواتٍ إلى ذروتها عندما فهِمَت مايتنر وهان (وأثبتا) أنّ نواتِجَ قصف اليورانيوم بالنيوترونات، هي في واقع الأمر، عناصرُ أخفُّ بكثيرٍ من عنصر اليورانيوم، ولذا، فإنّ العمليّة الوحيدة القادرة على تفسير هذه الظاهرة هي شَطرُ نواة اليورانيوم إلى قسميْن متساوييْن إلى حدٍّ ما، بكلماتٍ أخرى: الانشطار.
قنابل ومسؤولية
أدّت الحرب العالميّة الثانيّة إلى جعل الطريقَ التي بدأت من اكتشاف الانشطار من قبَل مايتنر وهان، ووصلت حدّ استغلاله لصُنع قنابل وطاقة، مُباشِرة جدّاً، مع أنها كانت تستلزمُ العمل الكثير.
من أجل تفسير عمليّة الانشطار، استعانت مايتنر بأفكار نيلز بور Bohr بشأن نواة الذرّة، بل إنّها كانت على تواصلٍ وثيقٍ معه. قبل نشرِ تقرير بور عن اكتشافه في مؤتمر عِلميٍّ عُقِدَ في الولايات المتّحدة، كان الأمر قد أثار جدلاً واسعاً.
أثبتَ العُلماءُ بسرعةٍ أنّ قسماً صغيراً من اليورانيوم، فقط، نظيره الكيميائيّ رقم 235، يمرّ بعمليّة الانشطار (كان بور قد قدّرَ ذلك بشكلٍ مسبق)، حيثُ تُحرِّر النواة، أثناء الانشطار نفسه، عدداً من النيوترونات.
بيّنت هذه الملاحظة أنّ في الإمكان، من حيث المبدأ، إطلاق "تفاعلٍ متسلسل" بمساعدة نيوترونٍ واحدٍ يشطُر نواة اليورانيوم ويُسبّب تحرّر عددٍ من النيوترونات. تستطيع هذه النيوترونات، بدورها، شطرَ عدّة نوى يورانيوم أخرى، وهكذا دواليك.
في هذه المرحلة، لم يكن الأمر يتطلّب خيالاً واسعاً لرؤية إمكانيّة القنبلة. لقد فهمَ الأمريكيّون ذلك فعلاً، وبدأوا في مشروع قنبلتهم الذريّة، الذي حقّق نجاحاً. ولكن، ماذا حدث مع مايتنر والألمان؟
في الحقيقة، طلب الأمريكيّون من مايتنر الانضمام إلى المشروع، ولكنّها رفضت لأسبابٍ أخلاقيّة، و"رجَت" أن يتّضح أنّ المهمّة غير قابلة للتطبيق.
لم يحاول الألمان، أبداً، أن يجرّبوا بشكلٍ جديٍّ تحديد ما إذا كان في الإمكان فعليّاً بناءُ قنبلةٍ ذريّة.
بعد الحرب، زعَمَ هان وهايزنبيرغ (Heisenberg)، عالِما الفيزياء الرائدان في ألمانيا، بأنّهما أجّلا المشروع عن قصدٍ أوّل الأمر، بل حتّى أفشلاه.. يُقال إنّه في عام 1945، عندما علم بإسقاط القنبلتيْن الذريّتيْن على اليابان، شعرَ بمسؤوليّةٍ شخصيّةٍ ثقيلةٍ جدّاً لدرجةِ أنّه فكّر بالانتحار.
على أيّ حال، وحتّى يومنا هذا، ليس واضحاً لماذا امتنع الألمان عن تجربة صنع قنبلةٍ ذريّةٍ بأنفسهم.
حياة من النضال المتواصل
اضطرّت ليزه مايتنر طوال حياتها إلى النضال. أولاً لكونها امرأة، ثمّ لكونها يهوديّة. لم يُسمَح لها بإنهاء دراستها في المدرسة الثانويّة بفيينا، ولم يتم قبولها في الجامعة إلا عام 1901، عندما خفّفوا من القيود التي كانت مفروضةً على النساء آنذاك.
عام 1907 انتقلت إلى برلين، حيثُ كان مسموحاً للنساء أن يستمعن إلى محاضراتٍ في الجامعة بعد موافقة المُحاضِر فقط! مع ذلك كلّه، ناضلَت وتقدّمت، إلى أنّ وصلت إلى درجة بروفيسور ثابت في الجامعة، لتتمّ ترقيتُها بعد ذلك إلى منصب مديرة قسمٍ في معهدٍ على اسم القيصر فيلهلم.
حتّى عام 1938، نجحت في الحفاظ على منصبها بفضل الحصانة التي حصلت عليها من هان وبفضل جنسيّتها النمساويّة (عِلماً أنّ تبديل دينها لم يُساعدها في شيء). في تلك السنة، هربت مايتنر إلى السويد، حيث بقيَت فيها 22 سنةً. أمّا سنواتها الأخيرة فقد قضتها في إنجلترا.
تمّ مؤخّراً نشرُ سيرة حياة مشهورةً جدّاً عنها (كتبتها روت ليفين سايم Sime Lewin)، رغم أنّ شخصيّة ليزه مايتنر لا تزال مُحاطةً بالغموض.
بدأت علاقة الصداقة والتعاون بينها وبين أوتو هان عام 1907، واستمرّت حتّى الحرب العالميّة الثانية. كانت النتيجة الهامّة الأولى لعملهما هي تقديم البروتكتينيوم (protactinium)، العنصر رقم 91، الذي يُعتبر نادراً وإشعاعيّاً جدّاً.
بعد الحرب، تجدّدت العلاقة بين العالِميْن، رغم السلوك المزدوج لهان. لم تكن مايتنر شخصاً سياسيّاً، وليس ذلك فحسب، بل إنها لم تكن مستعدّةً ولا قادرةً على إصدارِ أحكام على أشخاصٍ بسبب تصرّفاتهم. بالنسبة إليها، كان العِلمُ كلّ شيء في حياتها.