مع حلول أعياد الميلاد لعام 1925 ولدت كاندي جونز (Candy Jones) في عائلة فقيرة تقطن إحدى مدن ولاية بنسلفانيا الأمريكية، كان اسمها الحقيقي هو "جيسيكا ويلكوكس"، وقد عاشت طفولة معذبة مع والد مدمن على الكحول وأم متسلطة ذات مشاعر متبلدة وباردة تجاه ابنتها الوحيدة.
كانت جيسيكا تتعرض للضرب والعقاب على أبسط الأشياء، وازدادت معاناتها بعد أن هجر والدها العائلة عندما كانت في الرابعة من العمر تاركا إياها مع أم مريضة ومأزمة نفسياً غالباً ما كانت تتركها وحدها في البيت محبوسة لفترات طويلة في غرفة مظلمة وباردة.
ولأنها كانت وحيدة وخائفة ولا تجد أحداً تلعب معه، اخترعت الطفلة جيسيكا العديد من الأصدقاء الخياليين لتمضي معهم وقتها. كانت تكلمهم كأشخاص حقيقيين، أما هم فكانوا يجيبون بصوتها ولسانها لكن بنبرة مختلفة، ومن بين هؤلاء الأصدقاء الوهميين كانت شخصية "إرلين" التي نمت تدريجياً لتطغى على الآخرين.
ورغم أنه ليس بالشيء الغريب على الأطفال أن يتحدثوا إلى أنفسهم ويخترعوا الشخصيات الخيالية ليلعبوا معها ثم ينسوها بمرور الزمن وتتلاشى ذكراها من عقولهم، خاصة عندما يتعلمون تدريجياً أن محادثة الشخص لنفسه أمام الآخرين أمر مخجل وغير مستحب، لكن مع جيسيكا كان الأمر مختلفا، ربما بسبب طفولتها التعيسة التي تركت في نفسها شرخاً وجرحاً عميقاً رافقها طوال حياتها، لذلك صارت جيسيكا وإرلين تعيشان كشخصيتين مختلفتين في جسد واحد، جيسيكا هي الفتاة المتفتحة الرقيقة المتفهمة، أما إرلين فكانت نسخة طبق الأصل عن والدة جيسيكا، متسلطة وناقمة تسخر دائماً من جيسيكا وتزدريها..
ورغم أن جيسيكا استطاعت دوماً كبح جماح إرلين ولجمها إلا أنها لم تستطع أبداً التخلص منها.
بسبب إهمال والدتها وغيابها دوماً عن المنزل، أخذت جيسيكا تتنقل بين بيوت أقربائها الذين كانوا غالباً ما يعاملونها بقسوة ومهانة، وفي تلك الفترة تعرضت إلى التحرش الجنسي عدة مرات من أشخاص كبار السن كان من المفروض أن يقدموا لها الرعاية والحماية.
لكن رغم كل تلك المآسي فقد تجاوزت جيسيكا محنتها، ظاهرياً على الأقل، وكبرت لتصبح شابة ذكية وحسناء فارعة الطول سرعان ما وجدت لها عملاً في مجال عروض الأزياء، وحصلت أيضاً على وظيفة في مسابقة ملكة جمال أمريكا.
ونظراً لجمالها الأخاذ وقامتها الطويلة الرشيقة فقد جذبت جيسيكا الأنظار والأفئدة، وسرعان ما تحولت إلى نجمة إغراء تتصدر صورها صفحات العديد من المجلات الأمريكية في أربعينيات القرن المنصرم، وفي تلك الفترة أيضاً بدلت اسمها إلى كاندي جونز وأخذت تشارك في تقديم بعض البرامج الإذاعية.
في عام 1945 سافرت كاندي إلى الفلبين مع منظمة الخدمة المتحدة التي تعرف اختصاراً باسم (USO)، وهي منظمة تهدف إلى رفع معنويات القوات الأمريكية المحاربة في الخارج عبر تقديم حفلات غنائية يرافقها الرقص وغيره من الوسائل الترفيهية.
وأثناء تلك السفرة تعرضت كاندي إلى وعكة صحية مفاجئة خضعت بسببها للعلاج تحت إشراف طبيب أمريكي تم ذكره في الكتابات التي تناولت قصة كاندي جونز تحت اسم مستعار هو "غلبرت هانزن"، وقد تماثلت كاندي للشفاء خلال فترة قصيرة وعادت إلى الولايات المتحدة.
في عام 1946 تزوجت كاندي من عارض أزياء اسمه "هاري كونوفير"، وعاشت معه حياة هادئة أنجبت خلالها ثلاثة أطفال، لكن بعد عدة سنوات اكتشفت كاندي عن طريق الصدفة بأن زوجها لديه ميول جنسية مزدوجة، أي أنه يميل لممارسة الجنس مع الرجال والنساء، ولأنها عانت من عقدة التحرش الجنسي أثناء طفولتها المعذبة، لم تتحمل التعايش مع علاقة جنسية شاذة فطلبت الطلاق، وحصلت عليه عام 1959.
ولأن أمورها المالية تدهورت بشكل كبير بعد الطلاق، قامت بافتتاح مدرسة للأزياء والرشاقة حققت نجاحاً لا بأس به كما عادت لتقديم البرامج الإذاعية عبر الراديو.
في أحد الأيام من عام 1960 دخل رجل متقدم في السن إلى مدرسة كاندي للرشاقة وطلب مقابلتها، وقد تعرفت كاندي عليه ما إن رأته إذ كان أحد العسكريين الذين ربطتها بهم معرفة وصداقة قديمة عندما كانت تعمل مع منظمات الخدمات المتحدة (USO)، وقد زعم الرجل أنه يعمل حالياً مع مكتب التحقيقات الفيدرالية (FBI)، وطلب منها مساعدة المكتب عن طريق السماح باستعمال مدرستها كمحطة سرية لتلقي ونقل الرسائل. وقد وافقت كاندي على ذلك الطلب بدافع من الوطنية.
في عام 1972 التقت كاندي بمالك إحدى محطات الإذاعة الشهيرة، ويدعى "جون نبيل"، كانت قد عرفته أيام شبابها في الأربعينات عندما كانت تعمل كعارضة أزياء فيما كان هو يعمل مصوراً فوتوغرافياً آنذاك، وسرعان ما ارتبط الإثنان بعلاقة حب حميمة انتهت بزواجهما بعد أقل من شهر على لقائهما الأول.
كانت محطة جون نبيل تقدم برنامجا إذاعياً ناجحاً يتناول الأمور غير الطبيعية مثل الصحون الطائرة و الأشباح.. وأخذت كاندي تساعد زوجها في محطته نظراً لخبرتها السابقة في تقديم البرامج الإذاعية.
ورغم أن علاقة الزوجين بدت رائعة ومثالية، إلا أن جون لاحظ بعد فترة قصيرة من الزواج عدة أمور غريبة بدأت تطرأ على تصرفات زوجته.. فأحياناً كان يحدث تغير عجيب في شخصيتها، فتتحول فجأة إلى إنسانة عصبية وشرسة وحتى نبرة صوتها تتبدل بشكل مخيف، وقد أطلق جون على هذه الحالة اسم "الصوت"، ومع أن هذا التغير في شخصية كاندي كان سرعان ما يختفي خلال لحظات إلا أنه أثار حيرة وفضول زوجها.
ثم حدث أمر غريب آخر، ففي أحد الأيام أخبرت كاندي زوجها فجأة أنها تعمل مع مكتب التحقيقات الفيدرالية وأنهم يرسلوها أحياناً في مهمات لنقل رسائل معينة إلى مدن أخرى داخل الولايات المتحدة، ولذلك طلبت منه أن لا يقلق إذا تركت المنزل. واختفت فجأة لعدة أيام دون أن تخبره أو تتصل به.
كما لاحظ جون أن زوجته غالباً ما كانت تعاني من الأرق، وأنها غالباً ما تهذي بكلمات غير مفهومة أثناء نومها القصير والمتقطع.
نظرا لاهتمامه بأمور ما وراء الطبيعة التي كان يقدم عنها برنامجاً إذاعياً في محطته، فقد تمتع جون بخبرة بسيطة في مجال التنويم المغناطيسي ومع أنه لم يسبق له أن قام بتنويم أي شخص في السابق، إلا أنه اقترح على زوجته أن يخضعها لجلسة تنويم على أمل أن يساعدها ذلك في تجاوز مشاكلها النفسية ويخلصها من الأرق والنوم المتقطع.
في البداية لم تأخذ كاندي الأمر بجدية إلا أنها وافقت في النهاية، وقد نجح جون في تنويم زوجته بسهولة لم يصدقها هو نفسه، وفي تلك الليلة تمتعت كاندي بنوم مريح لم تنعم بمثله منذ سنوات طويلة لذلك ألحت على زوجها في أن يخضعها للمزيد من جلسات التنويم المغناطيسي.
وسرعان ما بدء جون من خلال هذه الجلسات باكتشاف أمور لم يكن يعرفها عن زوجته خاصة عن طفولتها وشبابها، كما كانت هناك تغيرات عجيبة تطرأ عليها أثناء التنويم، أحيانا كانت تتحول إلى طفلة وتتكلم بصوت طفولي، وأحيانا أخرى كانت تتحول إلى شخصية غامضة تدعى "إرلين" تختلف سماتها كليا عن شخصية كاندي الرقيقة المحببة.
خلال جلسات التنويم المغناطيسي الطويلة التي استمرت على مدى عدة أشهر اكتشف جون بعض الحقائق الصادمة عن زوجته، ربما كان أكثرها وقعاً عليه هو كونها تعمل مع وكالة المخابرات المركزية (CIA) وأنهم يرسلونها بين الحين والآخر في مهمات خارج الولايات المتحدة إلى بلدان بعيدة مثل تايوان وكوريا وفيتنام.
لكن الغريب أن كاندي لم تكن تعلم أي شيء عن عملها هذا ولا عن المهمات التي تقوم بها، والسبب في ذلك أنها كانت تذهب بجسد كاندي ولكن عقلها وذاكرتها كانا يعملان تحت تأثير شخصية إرلين التي استطاع عملاء وكالة المخابرات المركزية إخراجها إلى الوجود والتحكم بها عن طريق برنامج التحكم بالعقل.
لقد عرف جون من خلال جلسات التنويم المغناطيسي كيف تم تجنيد زوجته، ففي أحد الأيام دخل إلى مدرستها رجل ادعى أنه يعمل في مكتب التحقيقات الفيدرالية وطلب منها أن تقوم بنقل رسالة إلى أحد المنازل في مدينة أوكلاند الأمريكية، وبما أنها كانت متعاونة مع مكتب التحقيقات منذ سنوات، أو بالأحرى هكذا كانت تظن، وافقت على القيام بهذه المهمة وسافرت بالفعل إلى مدينة أوكلاند وتوجهت مباشرة إلى المنزل المعنونة إليه الرسالة لتجد في انتظارها مفاجأة لم تخطر على بالها أبداً..
فالرجل الذي استقبلها في منزل أوكلاند كان هو نفسه الطبيب "غلبرت هانزن" الذي عالجها في الفلبين عام 1945، وكان هناك معه طبيب آخر يدعى "مارشال برغر"، وقد أخبر الرجلان كاندي بأنهما يقومان بأبحاث علمية في مجال التنويم المغناطيسي وعرضا عليها أن ينوماها مغناطيسياً بحجة إجراء تجارب مقابل مبلغ كبير من المال.
وبما أن كاندي كانت مطلقة في ذلك الحين وكانت بحاجة ماسة إلى المال من أجل دفع أقساط أولادها الدراسية، وافقت على أن يقوم الرجلان بتنويمها مغناطيسياً، ولأن الدكتور هانزن كان على دراية بحالة كاندي النفسية منذ عام 1945 حين عالجها في الفلبين، فقد أخرج شخصية "إرلين" المختبئة داخل عقلها ثم قام بصقلها وتقويتها حتى كون لها شخصية وذاكرة منفصلة..
وهكذا فأن شخصية "إرلين" هي التي جندت من قبل المخابرات وأرسلت إلى معسكرات التدريب السرية حيث تم تعليمها على فنون القتال وكتابة الشفرات وفكها وغير ذلك من الأمور المتعلقة بالجاسوسية، أما كاندي فلم تكن تعلم أي شيء مما يجري لها إذ كانت ذاكرتها تتلاشى عندما تظهر شخصية "إرلين" فيتغير كل شيء فيها، طريقة كلامها ومشيتها وماكياجها وملابسها.. كان كل شيء مبرمجا حسب أساليب مشروع التحكم بالعقل والذي كان من أول أهدافه هو خلق جواسيس يعملون بذاكرة مؤقتة ومنفصلة عن ذاكرتهم الحقيقية بحيث يمكن مسحها أو دفنها في مكان ما من العقل ما إن تنتهي المهمة.
في عام 1974 صدر كتاب للمؤلف "دونالد بين" بعنوان "السيطرة على كاندي جونز" تناول بالتفصيل ملابسات قضيتها، وقد واجه الكتاب عند نزوله إلى الأسواق العديد من الانتقادات، فبالإضافة إلى إنكار وكالة المخابرات المركزية لأي علاقة لها بكاندي جونز فإن العديد من الناس ظنوا أن الكتاب برمته هو من اختراع "جون نبيل" زوج كاندي والذي كانت إذاعته مشهورة ببث أخبار مبالغ فيها عن مواضيع ما وراء الطبيعية من أجل التشويق والإثارة وجذب المستمعين.
كما أن أحداً لم يصدق أن تقوم كاندي جونز بجميع المهمات المذكورة في الكتاب وتمضي أياماً طويلة في التدريب والسفر إلى دول أخرى تبعد آلاف الأميال دون أن يعلق في ذاكرتها شيء مما قامت به.
لكن في أواخر عام 1974 حدث شيء جعل الناس يغيرون نظرتهم لقصة كاندي جونز، فقد نشرت صحيفة النيويورك تايمز مقالاً فضحت فيه
المشروع السري الذي تديره وكالة المخابرات المركزية تحت اسم "إم كي الترا"، والمتعلق بالتحكم والسيطرة على العقل.
وسرعان ما بدأت الحقائق والفضائح تتوالى الواحدة تلو الأخرى حتى أن الكونغرس الأمريكي قام بتشكيل لجنة تحقيق انتهت إلى أن مشروع التحكم بالعقل هو مشروع حقيقي صرفت عليه ملايين الدولارات من أموال دافعي الضرائب، وأن آلاف الأمريكان خضعوا بدون علمهم لتجاربه واختباراته على مدى ثلاثة عقود.
وبالإضافة إلى جلسات التنويم المغناطيسي التي كان جون قد سجلها برمتها للاحتفاظ بها كدليل، فقد قدمت كاندي جونز أدلة أخرى على صدق قصتها، منها شهادة أشخاص مقربين منها أكدوا أنها ومنذ فترة الخمسينات كانت تختفي أحياناً لعدة أيام دون أن تخبر أحدا بوجهتها، وحين كانت تعود لم تكن تتحدث مطلقا عن أين ذهبت وماذا فعلت في فترة غيابها.
كما أن كاندي قدمت دليلاً آخر تمثل في جواز سفر يحمل اسم "إرلين غلبرت"، ويحمل صورة لها لكن بماكياج وتسريحة شعر وملابس مختلفة عن تلك التي اعتادت ودرجت عليها.
كما أن "دونالد بين" مؤلف كتاب "السيطرة على كاندي جونز" ذكر أن هاتف منزل كاندي سجل رسالة صوتية غريبة عام 1973 كانت مرسلة من القاعدة الجوية الأمريكية في اليابان إلى سيدة تدعى "سنثيا" وتحمل في طياتها رموزاً وأوامر غير مفهومة، وقد اعتقد دونالد بشدة في أن سنيثيا هو الإسم الحركي لشخصية "أرلين" وأن الرموز التي في الرسالة هي شفرة للقيام بمهمة ما.
في عام 1980 كادت كاندي جونز تفقد حياتها في انفجار غامض، ورغم إحساسها المستمر بالخطر إلا أنها لم تتراجع أبداً عن قصتها وظلت تصر على أنها حقيقية في جميع المقابلات الصحفية والإذاعية التي أجريت معها حتى وافاها الأجل عام 1990.