ليس سهلاً أن تكونَ امرأةً وعالِمة.. خلال القرن التاسع عشر ومطلعَ القرن العشرين، كان ذلك، تقريباً، أمراً غير مُمكن. لكنّ هنريينا ليفيت كانت كذلك، حتّى إنّها أصبحت عالِمةً مشهورةً قدّمَت مساهمةً كبيرةً لعِلم الفلَك! مع أنّها كانت صمّاء، أيضاً.
يبدو الإسم "ليفيت" يهوديّاً، ولكنّ هنرييتا لم تكن يهوديّة وإنما واحدةً من سبعةِ أبناءٍ لكاهن بروتستانتيّ معروف من عائلةٍ عريقةٍ في الولايات المتّحدة.
حرصَ والداها جدّاً على التواضع والالتزام، وقد ساعدتها هذه الصفات بشكلٍ كبير بعد ذلك عندما اتّخذت العِلمَ مهنةً لها. إنّ قسماً من بنات الطبقة العُليا في الولايات المتّحدة قد حظينَ بفُرصة التعليم العالي.
تعلّمت هنرييتا ليفيت في إحدى الكليّات الأولى التي فتحت أبوابها أمام النساء والرجال على حدٍّ سواء، وانتقلت، بعد ذلك، إلى كليّة البنات الفخمة التابعة لجامعة هارفارد.
في السنة التعليميّة الأخيرة "اشتعلت" حبّاً بعِلم الفلك.
حتّى اليوم، لا تزال حياة مَن يعانون من صعوبةٍ في السمع غير سهلة، ولكن، في ذلك الوقت، كان الصمم يَحُدّ جدّاً من إمكانيّات الاختيار لدى هنرييتا ليفيت.
إنّ حقيقة أنّ امرأة صمّاء قد نجحت، في تلك الفترة، بإنهاء تعليمها بنجاحٍ، هو أمرٌ مُفاجئ.
كانت تستطيع الزواج، على أي حال، بشخصٍ أصمّ من طبقتها الاجتماعيّة، أو ربما بشخصٍ سمعُه سليم من طبقتها الاجتماعيّة؛ كانت تستطيع أن تصبح زوجةَ رجلٍ، وأن تتبرّع بوقتها للكنيسة وللمؤسّسات الخيريّة الجماهيريّة. كانت تستطيع أن تختار العزوبيّة وأن تحترف مهنة ما. كانت هناك مهنتان مقبولتان على بنات طبقتها: معلّمة مدرسة، أو ممرّضة رحيمة. ولكنّ هاتين المهنتين لم تكونا ملائمتيْن لامرأةٍ صمّاء.
وقعت هنرييتا ليفيت في حبّ ما تريد منذ أيّام دراستها، واختارت العِلم والفلك. لحُسن حظّها، كان مدير مرصَد الكواكب التابع لجامعة هارفارد، البروفيسور فيكرينغ، يميل إلى تشغيل النساء (العازبات!) في وظيفةِ مُساعدات بحث.
تحكي الأسطورة أنّه كان يدّعي بأنّ الرجال غير مُفيدين كالنساء. رغم ذلك، هناك مجالٌ للتساؤل عمّا إذا كان البروفيسور بهذه الطريقة يوفّر على نفسه المال الذي كان سيدفعه للموظّفين لو كانوا رجالاً.
تمّ توظيف عالمتي فضاء على الأقلّ في المرصَد، اسمُهما: ويليانيما فليمينغ Willianima Flemming وآني كانون Annie Cannon
عالمة فلك في مرصد الكواكب.
عام 1895، بدأت هنرييتا بالعمل متطوّعةً في مرصَد الكواكب التابع لجامعة هارفارد. كانت المهمّة الكبيرة التي أخذها مرصَد الكواكب هذا على عاتقهِ هي تحديد درجة السطوع لأكبر عددٍ ممكن من الكواكب. تم تجنيد ليفيت لأداء هذه المهمّة، وعام 1902 نالت وظيفة بدوامٍ كامل في المرصَد.
تمّ توظيف ليفيت، أوّل الأمر، للعمل على مهمات صغيرة روتينيّة. فعلى سبيل المثال، كانت تقيس سطوع الكواكب المتغيّرة على سطح ألواحِ تصوير. الكواكب المتغيّرة هي كواكب تكون درجة السطوع فيها غير ثابتة، ذلك أنّها تتغيّر مع الوقت. قارنَت ليفيت درجات سطوع الكواكب الظاهرة في الصوَر المختلفة لكوكبٍ واحد. وبسرعة، حصلت على ترقيةٍ لتصبح بذلك رئيسة قسم تحليل قوى الضوء المنبعث من الكواكب كما تظهر في الصوَر.
كان قياسُ قوى الضوء المنبعثة من الكواكبِ دقيقاً بشكلٍ خاصّ حسب هذه الطريقة. تميل العين المجرّدة إلى الارتباك، نظراً لأنّ الكواكب المختلفة تُصدر ضوءاً بألوان مختلفة، ولكنّ هذه الألوان لا تُرى أبداً على سطح لوحات التصوير.
أثناء عملها، كان لليفيت العديد من الإنجازات الهامّة. حيث اخترعت طرقاً جديدة لتحليل صوَر الكواكب، فنجحت بفضلها ببناء سُلّم موحَّد لتقييم قوى الضوء المنبعثة من الكواكب المختلفة على مساحةٍ واسعةٍ من السماء، من ضمنها كواكب ساطعةٌ بشكلٍ خاصّ.
والآن، صار في إمكان ليفيت، وفي إمكان كلّ عالِم فلك آخر، أن يقارن بين الكواكب المختلفة بدقّة. تم اعتماد أساليبها لسنواتٍ كثيرةٍ بعد وفاتها (لدينا اليومَ أجهزة دقيقة لقياس قوى الضوء المنبعثة من الكواكب).
بفضل سُلّمِها المُوحَّد لتقييم قوى الضوء المنبعثة من الكواكب، اكتشفت ليفيت نحو 2.400 كوكب متغيّر (نحو نصف عدد الكواكب المتغيّرة التي كانت معروفةً آنذاك). بات اكتشافُها الأكبر، منذ عام 1912، مُمكناً هو أيضاً، بفضل هذا السُلّم الموحَّد.
كواكب ليفيت النباضة
ركّزت ليفيت على مجموعة واحدةٍ من الكواكب المتغيّرة، تُدعى الكواكب المُلتهبة Cepheid variables إنها كواكب نبّاضة pulsating stars – الغلاف الجويّ في كلّ واحدٍ من تلك الكواكب يتمدّد ويتقلّص بين الحين والآخر، وبذلك يبدو سطوعها قويّاً تارةً وضعيفاً تارةً آخرى كالنبض.
وجدَت ليفيت أنّ دورةَ النبض الخاصّة بكلّ كوكبٍ ثابتة، وأنّ هناك علاقة طرديّة بينها وبين قوّة الضوء المنبعثة من الكوكب.
بفضل هذا الاكتشاف، استطاع علماء الفلك استغلال قوّة الضوء المنبعثة من الكوكب لتحديد المسافات بين عددٍ كبيرٍ من الكواكب النبّاضة هذه وبين الكرة الأرضيّة. نتيجةً لذلك، استطاع العلماء، أيضاً، تحديد مسافة مجموعات الكواكب والمجرّات التي فيها كواكب نبّاضة كهذه.
تمّ إجراء التقدير الأوليّ لحجم مجرّتنا وشكلها، أوّل الأمر، بالاعتماد على هذا الاكتشاف الذي توصّلت ليفيت إليه.
الصبر، الانضباط الشخصي، التواضع
عام 1912 نشر مرصد الكواكب في هارفارد بيانا أوضح فيه المهمة التي أدتها ليفيت ببطولة كبيرة (بترجمة حرة):
"إن قياس هذه الكواكب و بحثها يعتبران مشكلة صعبة للغاية، ذلك أن الحديث يدور عن مناطق واسعة من السماء، تزدحم فيها الكواكب.
الكواكب المتغيرة أكثر سطوعا، ودورة (النبض) أقصر. تعتبر هذه الكواكب ساطعة لدرجة أنها تحتاج إلى رصد متواصل عبر عدسة التصوير وعدد من الصور الصغيرة"
ظهرَ الانضباط والتواضع اللذان نشأت ليفيت عليهما في عملها العِلميّ: كانت تنظر كلّ الوقت إلى لوحات التصوير، فقارنت بصبرٍ لا حدود له، بُقَعاً ساطعة وبُقعاً ساطعةً أكثر.
وصل قسمٌ من الصوَر من أركويبا في بيرو، حيث قام مرصَد الكواكب التابع لجامعة هارفارد بنصب تليسكوب هناك. لم تتجوّل ليفيت حول العالم مع ميزانيّة ضخمة من النفقات. لقد جلسَت في المرصَد وراقبت ألواح التصوير: الواحد تلوَ الآخر، في ظلّ الاحترام والتقدير الذي حصلت عليه صديقتاها في المرصَد، فليمينغ وكانون، اللتان بحثتا مجال التواصل أكثر من مجال تركيبة الضوء المنبعث من الكواكب، وفي ظلّ التقدّم المهنيّ والفخامة التي حصل عليها عُلماء فلك من الرجال.
و في جيلنا..
حصلَت الشابة منى عبد الرحمان إغباريّة على جائزة المركز الثاني في مسابقة "العالِم الصغير" جائزة المرتبة الثانية في مسابقة "العالِم الصغير" عن ورقة بحثها "بحث الكواكب التي قد تكون كواكب متغيّرة"، بإشراف د. سعيد محاجنة (تمت كتابة ورقة البحث عندما كانت منى لا تزل تتعلّم في مدرسة "خديجة" في أمّ الفحم).
رغم أنّ منى كان لديها تقنيّات حديثةٌ لم تكن متوافرة لليفيت في وقتها، فقد كان على مُنى، أيضاً، العمل بصبرٍ وانضباط لبحثِ الكواكب المتغيّرة، بل كان عليها العمل حتّى بقدر من الشجاعة.
اكتشفت منى أنّ الكوكب الذي لا يُعتبر متغيّراً، هو، عمليّاً، كوكبٌ من الممكن أن يكون متغيّراً، وبالتالي، قدّمت مساهمةً ملموسةً لعِلم الفلك. مع ذلك، لم ينتهِ بحثُ الكواكب المتغيّرة، فمنذ أيام ليفيت والموضوع لا يجذب علماء الفلك الكبار فقط! حتّى أن الكواكب الملتهبة ودوراتُها النبّاضة لا تزال تحظى باهتمام العلماء.
بفضل تليسكوب الفضاء "هابل"، وبالاعتماد على بحث دورات الكواكب الملتهبة، اكتشف العلماء أنّ المسافة بيننا وبين مجرّة M56 هي 100 مليون سنة ضوئيّة! وهي أكبر مسافةٍ بين المجرّات التي استطاع علماء الفلك.