ماري سليست (Mary Celeste) هي سفينة شراعية ضخمة تبلغ حمولتها 282 طن، تم بنائها عام 1861 على سواحل كندا وسجلت كسفينة تجارية هناك، كانت سفينة شراعية جميلة وحديثة في زمانها، لكنها كانت منحوسة! فخلال رحلتها البحرية الأولى، لفظ قبطانها الكابتن "روبرت ماكلاي"، وهو ابن مالك السفينة، أنفاسه الأخيرة على سطحها نتيجة إصابته بمرض ذات الرئة، وقد لازمها النحس في رحلتها اللاحقة، إذ اصطدمت بقارب صيد، وفي أول رحلة لها عبر الأطلسي اصطدمت بسفينة داخل القناة الانكليزية، ثم أبحرت لعدة سنوات كسفينة لنقل البضائع من وإلى أمريكا الجنوبية، وفي إحدى رحلاتها تلك تعرضت إلى عاصفة قوية فجنحت عن مسارها وأصيبت بأضرار.
وفي عام 1868 بيعت إلى شخص أمريكي سجلها في نيويورك تحت اسم "ماري سليست" ثم ما لبث أن باعها بدوره إلى مجموعة من الشركاء كان أحدهم هو "بنيامين بريدج" الذي أصبح قبطانها وأبحر بها في عدة رحلات تجارية عبر الأطلسي.
في 5 تشرين الثاني
نونبر 1872 أبحرت ماري سليست من نيويورك. كانت حمولتها تتكون من 1701 برميل من الكحول الخام المرسل إلى إيطاليا، وكان طاقمها يتألف من عشرة أشخاص هم القبطان "بنيامين بريدج" وزوجته "سارة" التي طالما رافقته في رحلاته البحرية، وابنتهما" صوفيا" ذات العامين، أما البحارة فكانوا أربعة ألمان ودنماركي وأمريكيان: هم الطباخ ومساعد القبطان وجميعهم من البحارة ذوي الخبرة والمشهود لهم بحسن السلوك.
بعد شهر كامل على إبحار "ماري سليست"، أي في 5 كانون الأول
دجنبر، كانت سفينة أمريكية أخرى اسمها "ديا كراتيا" تمخر عباب المحيط باتجاه أوربا تحت إمرة القبطان "ديفيد مورهاوس"، وهو صديق قديم ل"بنيامين بريدج"، ولم يكن يتوقع أبدا أن يلتقي بالسفينة "ماري سليست" في عرض المحيط لأنها كانت قد انطلقت في رحلتها قبل ثمانية أيام على إبحاره.
لكن بينما كان القبطان "مورهاوس" يبحر بسفينته في المحيط على بعد 600 ميل إلى الغرب من البرتغال، لمح بحارته سفينة مجهولة على مسافة حوالي الخمسة كيلومترات من سفينتهم، وعندما نظر القبطان "مورهاوس" إليها بواسطة منظاره المقرب شعر بشيء غير طبيعي في طريقة إبحارها..
كان شراعها في وضعية غير صحيحة وكانت تتأرجح في حركتها ولم يظهر أي شخص على سطحها، لذلك أمر القبطان "مورهاوس" بحارته بالتوجه نحو السفينة المجهولة، وعندما اقتربوا منها بدرجة كافية اكتشف القبطان "مورهاوس" أن السفينة المجهولة لم تكن سوى "ماري سليست"، سفينة صديقه القبطان "بينيامين بريدج" التي كان من المفروض أنها تبحر الآن قرب مضيق جبل طارق.
أدرك القبطان "مورهاوس" أن السفينة "ماري سليست" قد تعرضت لمشكلة ما لذلك قرر إرسال أحد بحارته ليصعد على متنها ويعرف ماذا حل بها، وكان هذا البحار هو "أوليفر ديفيو" الذي توجه نحو "ماري سليست" بالقارب ثم تسلق إلى سطحها. كان أول عمل قام به هو التحقق من مضخات السفينة فوجد أن أحدها مازال يعمل أما الاثنان الآخران فكانا مفقودين، وخلال تفتيشه للسفينة لم يعثر على أي شخص، كان الجميع قد اختفوا، كما أن قارب الإنقاذ الوحيد في السفينة كان قد اختفى أيضاً.
وفي قمرة القيادة كانت الساعة متوقفة والبوصلة محطمة وكانت معظم الأدوات الملاحية الصغيرة التي تستعمل لتحديد موقع السفينة قد اختفت، كما أن جميع أوراق السفينة كانت مفقودة باستثناء دفتر القبطان الذي يسجل فيه ملاحظات الرحلة وآخر ملاحظة كتبت فيه كانت تعود إلى يوم 25 تشرين الثاني
نونبر، أي قبل عشرة أيام.
بقية غرف وقمرات السفينة كانت بحالة جيدة كما كانت أغراض الطاقم الشخصية متروكة في مكانها وملابسهم مرتبة وجافة، كذلك كانت مؤونة السفينة من الطعام والمياه سليمة وفي حالة جيدة، مما يدل على أن طاقم السفينة كانوا قد تركوها على عجل دون أن يتاح لهم أخذ أي شيء منها معهم.
وفي المخزن الرئيسي للسفينة كانت الحمولة من براميل الكحول سليمة أيضاً ولم تمس، ولدى معاينته للجزء الخلفي من السفينة اكتشف "أوليفر" حبلا قويا وطويلا كان قد تم ربطه بإحكام إلى مؤخرة السفينة، أما طرفه الأخر فكان يتدلى خلفها سابحاً في مياه المحيط لمسافة طويلة، وبصورة عامة لم تكن السفينة "ماري سليست" تواجه خطر الغرق رغم أنها كانت مبللة ورطبة و يغطي الماء قاعها بارتفاع متر تقريباً.
عندما عاد البحار "أوليفر ديفيو" إلى سفينة "ديا كراتيا" وقدم تقريره للقبطان "مورهاوس" لم يصدق هذا الأخير أن صديقه القبطان "بنيامين بريدج" ذو الخبرة البحرية الطويلة يمكن أن يترك سفينته في عرض المحيط بهذه الحالة، لذلك أرسل بحارة آخرين ليتأكدوا مما رواه "أوليفر ديفيو"، وقد عاد هؤلاء بعد قرابة الساعتين ليؤكدوا نفس الكلام، كما أخبروا القبطان بأنهم لم يجدوا أي آثار للعنف على سطح السفينة، وكانت جميع محتوياتها سليمة، وهو الأمر الذي يلغي تماما أي فرضية في تعرضها للقرصنة.
في الأيام التالية قام عدد من بحارة "ديا كراتيا" بقيادة السفينة "ماري سليست" حتى أوصلوها إلى مستعمرة جبل طارق الإنجليزية.
وفور وصولها إلى الميناء قامت وزارة أعالي البحار البريطانية بتشكيل لجنة تحقيق لكشف ملابسات اختفاء طاقمها، وقد خلصت هذه اللجنة بعد الفحص والتمحيص والمعاينة الدقيقة إلى أنه لا توجد هناك أي آثار للعنف تدل على تعرض السفينة للقرصنة كما أن حمولتها وأغراض طاقمها كانت سليمة لم تمس، أما اختفاء الركاب فلم تجد اللجنة أي تفسير له.
وقد قام السفير الأمريكي بزيارة السفينة بنفسه لأنها كانت تحمل رعايا أمريكيين وأخبر حكومته بالحادث، فقامت وزارة الخارجية الأمريكية ببعث برقيات إلى جميع سفاراتها حول العالم لأجل الحصول على أي معلومات تدل على مصير طاقم السفينة، لكن بدون جدوى.. فركاب "ماري سليست" كانوا قد اختفوا إلى الأبد.
بالتدريج جذبت حادثة "ماري سليست" انتباه الصحافة، وبما أن القصص الغريبة وحكايات الأشباح كانت تستهوي القراء في ذلك الزمان، فقد تم فبركة العديد من الأكاذيب وإضافتها إلى الأحداث الحقيقية، وربما تكون كتابات السير "آرثر كونان دولي"، مؤلف قصص "شارلوك هولمز" هي الأكثر مساهمة في إضفاء صبغة من الوهم والخيال على الوقائع الحقيقية، فقد ذكر في إحدى قصصه التي تناولت الحادثة بأن بحارة السفينة "ديا كراتيا" الذين صعدوا إلى سطح "ماري سليست" لأول مرة وجدوا الطعام موضوعاً على المائدة وكان لا يزال طازجاً كأنه أخرج من القدر للتو كما كانت القهوة المسكوبة في الأكواب لا تزال حارة يتصاعد منها البخار.
وقد تكون اهتمامات السير "كونان دولي" الروحانية التي آمن بها بشدة بعد تقدمه في السن ووفاة زوجته وابنه الشاب قد ساهمت بشكل كبير في طريقة تناوله لموضوع السفينة "ماري سليست".
لكن الحقيقة كانت شيئاً آخر، فبحارة "ديا كراتيا" أكدوا مراراً بأنهم لم يجدوا أي طعام مطبوخ على سطح السفينة ولم تكن هناك أي قهوة أو مادة سائلة أخرى مسكوبة في الأكواب، فمطبخ "ماري سليست" كانت تسوده الفوضى بسبب حركة السفينة المتأرجحة.
خلال ما يناهز القرن والنصف من الزمان لم يعثر على أي أثر لطاقم السفينة "ماري سليست"، ولم يسمع عنهم مجدداً حتى يومنا هذا.
إذن ماذا حل بهم؟ ولماذا اختفوا؟ هل حقاً اختطفتهم مخلوقات فضائية أم ابتلعتهم كائنات بحرية مجهولة خرجت من قاع المحيط أم دخلوا بعداً زمنياً آخر؟
كل هذه السيناريوهات طرحها عشاق قصص ما وراء الطبيعة، لكن مع الأسف لا يوجد أي إثبات لها، وفي المقابل هناك العديد من النظريات والفرضيات المنطقية التي حاولت تفسير ما حدث.
أول هذه النظريات كانت تعتقد ببساطة بأن السفينة تعرضت للقرصنة، لكن بقاء أغراض الطاقم وحمولة السفينة سليمة لم تمس تلغي نظرية القرصنة تماماً.
نظرية أخرى اتهمت طاقم سفينة "ديا كراتيا" بأنهم هم من دبروا الحادث لغرض الحصول على جائزة الإنقاذ التي كان القانون يمنحها على شكل نسبة من قيمة السفينة التي يتم إنقاذها، لكن هذه النظرية لا تصمد أمام التحليل المنطقي، فقبطاني السفينتين كانا صديقين قديمين وتربطهما علاقات عائلية وطيدة، كما أن "ماري سليست" كانت قد أبحرت قبل ثمانية أيام من إبحار "ديا كراتيا"، فكيف تمكنت هذه الأخيرة من اللحاق بها؟ ثم لماذا لم يعثر على أي آثار للعنف داخل "ماري سليست"؟ هل يعقل أن يكون أفراد طاقمها قد تعرضوا للقتل دون أن يبدي أي شخص منهم أي مقاومة؟
و هناك نظرية أخرى تعتقد أن الحادثة هي مسرحية تم تدبيرها من قبل القبطان "روبرت بريدج" من أجل الحصول على مبلغ التأمين على السفينة، لكن هذه النظرية لا تصمد أمام حقيقة أن مبلغ التأمين على السفينة وحمولتها كان ضئيلا، كما أن السفينة وحمولتها كانت سليمة لم تمس، أضف إلى هذا أن القبطان روبرت بريدج كان مجرد شريك يملك حصة في السفينة وليس مالكها الوحيد.
هناك نظرية أخرى لاقت رواجا، وهي أن "ماري سليست" تعرضت لعاصفة هوجاء فخاف القبطان "بينيامين بريدج" أن تغرق سفينته وأمر الطاقم بإنزال قارب النجاة ثم أبحر مبتعدا، ومما يدعم هذه النظرية هو أن السفينة كان مبللة ساعة اكتشافها وكان الماء يملئ جوفها بارتفاع متر تقريباً كما كانت اثنتان من مضخاتها قد اختفت، و لكن من ناحية أخرى فإن مستوى الماء في السفينة لم يكن يهدد السفينة بالغرق، صحيح أنه كان أكثر من المعدل الطبيعي، لكن قبطان ذو خبرة طويلة مثل "بينيامين بريدج" كان يعلم تماماً أن هذه الكمية لم تكن تهدد سلامة السفينة وأنها كانت لا تزال صالحة للإبحار، ثم إن تقارير الأرصاد لم تذكر حدوث أي عاصفة خلال الفترة التي أبحرت فيها "ماري سليست".
وبالإضافة إلى نظرية العاصفة هناك نظريات مشابهة تفترض تعرض السفينة لزلزال أو إعصار أو تسونامي بحري.
فيما ذهبت نظرية أخرى إلى الاعتقاد بأن بحارة "ماري سليست" تمردوا على القبطان، ربما تحت تأثير الخمر، فقتلوه هو وزوجته وطفلته وفروا إلى جهة مجهولة، لكن مشكلة هذه النظرية هي أن بحارة "ماري سليست" كانوا من الأشخاص المعروفين والمشهود لهم بحسن السلوك، كما أنه على فرض صحة هذه النظرية فلماذا تركوا السفينة وأغراضهم وحاجياتهم الشخصية في عرض المحيط؟
هناك نظرية أخرى هي الأكثر قبولا، وتزعم أن القبطان "بنيامين بريدج" لم يكن مرتاحاً لنقل حمولة كبيرة من الكحول بسبب خوفه من حدوث تسرب يؤدي إلى انفجار مدمر، وهو بالضبط ما تعتقد النظرية حدوثه، إذ عثر الحمالون على تسعة براميل فارغة عند إنزالهم لحمولة السفينة، وجميع البراميل الفارغة كانت مصنوعة من خشب البلوط الأحمر فيما كانت بقية البراميل مصنوعة من خشب البلوط الأبيض الأكثر قوة وتماسكا، وقد يكون انتشار رائحة الكحول المتسرب من البراميل قد أصاب القبطان بالذعر فشعر أن السفينة على وشك الانفجار لذلك قام على عجل بجمع بعض الأدوات والأوراق من قمرة القيادة ثم أمر البحارة بإنزال قارب النجاة وصعد الجميع إليه بسرعة. لكن القبطان المتمرس لم ينس ربط قارب النجاة الصغير إلى مؤخرة السفينة بواسطة حبل الشراع الطويل وذلك للعودة إليها في حالة زوال الخطر وعدم حدوث انفجار. لكن لسوء الحظ يبدو أن القبطان وبحارته ولسبب ما أفلتوا الحبل الذي يربطهم بالسفينة، فتاهوا في المحيط الواسع حتى ماتوا جوعاً وعطشاً أو ربما انقلب قاربهم الصغير وابتلعتهم الأمواج.
ورغم منطقية هذه النظرية إلا أنها لم تنج من الانتقادات، فعلى سبيل المثال لم يذكر أي شخص ممن صعدوا إلى "ماري سليست" بعد الحادث بأنه شم أي رائحة كحول داخل مخزن السفينة، وبالنسبة للبراميل التسعة الفارغة فهناك احتمال أن يكون شخص ما قد قام بسرقة محتوياتها أثناء توقف السفينة لعدة شهور في مستعمرة جبل طارق أو أثناء نقل الحمولة إلى إيطاليا فيما بعد تحت إمرة قبطان وبحارة جدد.
في الختام قد تسأل عزيزي القارئ عن مصير سفينة "ماري سليست" بعد الحادث وهل فارقها النحس الذي رافقها لسنوات طويلة؟
والجواب هو كلا، فالسفينة على ما يبدو ملعونة ومنحوسة منذ أول يوم طفت فيه فوق الماء، ففي رحلة العودة إلى أمريكا بعد الحادثة تعرضت السفينة إلى عاصفة مات على أثرها والد مالك السفينة (صاحب الحصة الأكبر في السفينة)، لذلك قرر بيعها والتخلص منها بأي ثمن، وقد باعها بالفعل وبأقل من سعرها الحقيقي بكثير.
وفي الثلاثة عشر سنة القادمة بيعت "ماري سليست" من شخص لأخر سبعة عشر مرة، ويبدو أن مالكها الأخير، القبطان "جي سي باركر"، كان قد اشتراها ليغرقها ويحصل على مال التأمين، وقد نفذ خطته في بحر الكاريبي بالقرب من سواحل هاييتي، إذ حاول إغراقها عن طريق تحميلها بأكثر من طاقتها، لكن المصيبة هي أن "ماري سليست" رفضت أن تغرق رغم كل محاولات السيد "باركر"، وفي النهاية، وبعد أن فقد أعصابه قرر حرقها، لكنها رفضت أن تغرق أيضاً!! فتركها السيد "باركر" ثم تقدم إلى شركة التأمين مطالباً بالتعويض ومدعياً غرق السفينة إلا أن الشركة اكتشفت خدعته فألقي به في السجن، ثم مات في زنزانته في ظروف غامضة قبل انعقاد محاكمته!!
وبعد الموت المأساوي لمالكها الأخير ظلت "ماري سليست" قابعة في مكانها لسنوات طويلة، إذ لم يعد أحد يرغب بها فتركت حتى تفسخت بالتدريج وابتلعتها الأمواج أخيراً.