قصة هنري كافنديش

منذ #قصص عالمية

لو كان هناك في يوم من الأيّام مخترعٌ مجنون – فذاكَ هو هنري كافنديش!

لا شكّ أنّ كافنديش كان عالِماً بارزاً، ولكن يمكن التساؤل حول ما إذا كان التقدير الذي حصل عليه في إنجلترا غير نابعٍ، جزئيّاً على الأقل، من محبّة الإنجليزِ للجنون!

وُلِدَ كافنديش لعائلةٍ نبيلةٍ وغنيّة، وبذلك لم تكن لديه مشكلة ماديّة في صرف المال على نزواته المختلفة التيجرفته إليها.

كرّسَ كافنديش نفسه للعِلم، لدرجة أنّه لم يعِش حياةً عاديّة. لم يكن جيّداً في بناء الأجهزة، وعندما أرادَ قياس تيّارٍ كهربائيٍّ، مثلاً، كان يُمرّر التيّار عبر جسمه، حيث قدّرَ قوّة التيّار حسب درجة الألم الذي كان ينشأ له من جرّاء ذلك.

قضى كلّ ساعات يقظته في مهنة العِلم والتهرّب من الناس – خصوصاً النساء. في "الحالات الطارئة" كان يستطيع تبادل بضع كلماتٍ مع شخصٍ ما، ولكن ليس مع امرأة.

بنى لنفسه مدخلاً منفصلا إلى البيت وسلالمَ خاصة به يستطيع من خلالها الخروج والدخول دون أن يقابل أيّ شخصٍ كان، ولا حتّى الخادمات اللواتي كان يتواصل معهنّ في البيت من خلال البطاقات.

حياة من العزلة، موت من العزلة.

عاشَ كافنديش وحيداً وأصرّ على الموت وحيداً. عندما شعر باقتراب أجله، أوصى خادمه بالخروج من الغرفة، وأمره أن يعود في وقتٍ لاحقٍ لفحص حالته. إذا وجده ميتاً، هكذا أمر، عليه أن يُبلغ العائلة بذلك.

كانت محبّته للعِلم مسألةً تنطوي على إشباعٍ لفضوله العميق. لم يهتمّ أبداً بمسائل النشر والتقدير وما إلى ذلك. كان كلّ ما أراده هو المعرفة والفهم.

زعَم أحد كتّاب سيرته الذاتيّة أنّ التجارب العلميّة التي أجراها كافنديش باستخدام الكهرباء قد "سبقَت، تقريباً، كلّ ما تمّ اكتشافُه خلال السنوات الخمسين التالية".

لكن، يبدو أنّه لم يكن يهتمّ أبداً بتطوير العِلم، حيث إنّ ما كان يُحفزّه على العمل هو الفضول فقط. لم تُبصر النور المقالات التي كتبها عن الكهرباءِ إلا بعد مرور مائة عامٍ على ذلك، وكان عندها الأمر بمثابة شأنٍ تاريخيٍّ لا غير.

يصنع "الماء"

عام 1766، قام كافنديش بعزْل غازٍ تسرّبَ نتيجةَ نشاطٍ للأكسجين على بعض المعادن. قام بوزن الغاز واكتشف أنّه خفيفٌ جدّاً، أخفّ من الهواء بكثير. أثبتَ أنّ الغاز غير قابل للاشتعال، وأنّ ناتج الاشتعالِ هو الماء. كان هذا الغاز القابل للاشتعال هو الهيدروجين (الذي يعنى اسمُه بالإنجليزيّة hydrogen" مُدنِّس الماء").

أثبتَت هذه التجربة أنّ الماء، في الحقيقة، مركّبٌ من غازات وليس من عناصر أساسيّة. كان ذلك بمثابة المسمار الأخير في نعشِ الاعتقاد اليونانيّ القديم الذي اعتبر أنّ كلّ مادّة تتألّف من أربعة عناصر أساسيّة: التراب، الهواء، النار والماء.

من بين إنجازاته الأخرى في مجال الكيمياء، تمكّنه من اكتشاف حِمض النتريك HNO3، وإثبات أنّ "الهواء الثابت"، الذي نعرفه اليوم باسم ثاني أكسيد الكربون CO2، أثقل من الهواء، ويمكنه أن يُطفئ اللهب.

أجرى كافنديش عمليات مراقبة قوّضت الاعتقاد الذي كان سائداً في تلك الأيام، والذي كان يرى أنّ الحرارة ليست سوى مادة تُدعى "فلوجسيتون" phlogiston أثبتَ كافنديش استنتاجه الجديد من خلال حقيقة أننا عندما نُكثِّفُ الغاز أو نُجمِّد السائل، يصدر عن ذلك حرارة ("حرارة خفية").

ولكنّه لم ينشر أيّاً من اكتشافاته هذه أبداً، حيث إنّ اكتشاف الحرارة الخفيّة مثلاً، نُسب إلى بلاك Black استخلص كافنديش حمض النتريك من خلال تمرير شرارات كهربائيّة في الهواء، وتذويب الأكسيد المتكوِّن في الماء. قام كافنديش بإطالة هذه العمليّة قدر الإمكان، وتوقّع "الإنهاء" على كلّ الهواء؛ ولكنّه اكتشف أنّ ما نسبته 1% من الهواء يبقى دائماً دون أن يشارك في التفاعل الكيميائيّ. من هنا، استنتج، وبحقّ، أنّ الهواء يحتوي على 1% من الغاز غير النشط (الخامل أو غير الفعّال) وليس في الإمكان معرفته. لقد كان مُحقّاً، ولكن تشخصيه لم يلفت الانتباه إلا بعد مائة سنة، عندما تمّ التعرّف على هذا الغاز، وعزلُه وتسميته: أرغون.

قياس وزن الأرض.

لعلّ أعظمَ تجربةٍ قام بها كافنديش كانت في مجال الفيزياء وليس الكيمياء. كانت أبعادُ الكرة الأرضيّةِ معروفةً جيّداً في ذلك الوقت، ولكن كتلتها (أي ناتج كثافتها أو كتلتها الدقيقة) كانت لا تزال في حُكم المجهول.

إذ كيف يُمكن قياس وزن الكرة الأرضيّة؟ إذ لا نستطيع أن نحملها ونضعها على ميزان!

في الحقيقة، تبدأ القصّة قبل مائة سنةٍ مع إسحق نيوتن. قام نيوتن بصياغة قانون الجاذبيّة الأساسيّ، الذي بحسبه تكون قوة الجاذبيّة المتبادلة بين جسميْن في تناسب عكسيّ مع تربيع المسافة الفاصلة بينهما. ولكن، لم تكن لديه أيّة طريقةٍ لوضع تعريف ثابت للتناسب في هذه المعادلة. كان يستطيع قياس كتلة جسمٍ معيّن وقوّة جاذبيّة الأرض المؤثّرة عليه، ولكن من غير "الثابت"، لم يكن يستطيع حساب كتلة الكرة الأرضيّة.

أخذ كافنديش على نفسه مهمّة تحديد هذا الرقم من خلال إجراء قياسٍ مُباشرٍ للقوّة المبذولة من كرةٍ ذات كُتلة معروفة على كُتلةٍ أخرى.

كانت المهمّة أصعب بكثير بسبب ضآلة تأثير هذه الكُتَل بعضها على بعضٍ ضمن ظروف المختبر. ولكنّ كافنديش نجح في التوصّل إلى الاستنتاج بأنّ الكرة الأرضيّة تُزنُ 6.600 مليار مليار طن (6.610x21 طنّ)، وبالتالي فإنّ كثافتها أكبر بـ5.5 مرّات من كثافة الماء. تتشابه هذه الأرقام، بشكلٍ مُذهلٍ، مع الأرقام المُعتمَدة اليوم.

يُذكر هِنري كافنديش في إنجلترا بمحبّة تشبّه محبّته هو للعلم. توجد في لندن، اليومَ، ساحةٌ على اسمه.

أمّا في جامعة كامبريدج – الجامعة التي لم يُنهِ تعليمه فيها أبداً لأنه لم يكن يستطيع تحمّل الأساتذةِ المُمتحِنين – فقد أطلقوا على مختبر الأبحاث بعد وفاته اسم "مختبر الفيزياء على اسم كافنديش".

تمّ إعداد المُختبر لتحقيق الاكتشافات الأكثر أهميّة في مطلع القرن العشرين في مجال الفيزياء النوويّة، تقديراً لهذا العالم ولذكراه.

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك