قصة كارل جوث جانسكي

منذ #قصص عالمية

هناك "حوادث" مُفرِحة! العِلمُ مليءٌ بالاكتشافات التي تحدث بالصدفة، ولكنّ الأهمّ بين تلك الاكتشافات، مثل اكتشاف البنسلين مثلاً، متعلّق، رغم ذلك، بعالِمٍ ما، على نفس درجة تعلّقه بالحظ، تقريباً. يجب أن يكون العالِم أو العالِمة مُهيّئيْن لتمييز الظواهر غير المتوقّعة التي تحدث خلال عملهما، ويجب أن يكون لديهما ما يكفي من الفضول وما يكفي من العَزم لتقصّي هذه الاكتشافات.

تُعتبر هذه الطريقة مُرهقةً بعض الأحيان، وفي أحيان كثيرة، تؤدّي، نهاية الأمر، إلى تفسيرٍ هامشيّ. لذا، فإنّ على العالِم أن يُظهر التزاماً بالهدف ومهارةً في الاختراع.

كان كارل جانسكي يتمتّع بكلّ هذه الصفات، وفي عام 1931، هُيِّئَت له الظروف المناسبة لهذا الاكتشاف..

كان يعمل في "مختبرات بيل" Bell Labs، وألُقيَت على عاتقه مهمّة بحث مصادر الضجيج التي تُشوش، أحياناً، استقبال ال "موجات القصيرة" أثناء المحادثات عبر الراديو- الهاتف العابرة للمحيط الأطلسيّ (تقنية اتصال هاتفية قديمة بين القارات).

يُراوحُ طول الموجة الواحدة في هذه الموجات القصيرة ما بين 10 و20 متراً، وتُعتبر مناسبةً، بشكلٍ خاصّ، لإجراء بثٍّ على مسافاتٍ بعيدة، باعتبار أنّ الطبقة الأيونيّة (طبقة عالية من طبقات الغلاف الجوي)، تردُّها. يتمّ ردّ الموجات ذهاباً وإياباً، بين الطبقة الأيونيّة والكرة الأرضيّة، وبالتالي، فإنها تتحرّك ضمنَ المسار الدائريّ للكرة الأرضيّة.

أمّا الموجات "الطويلة"، التي تمرّ عبر الطبقة الأيونيّة، فلا تتحرّك ضمنَ مسارِ الأرضِ الكرويّ، وإنكما تعبر مباشرةً إلى الفضاء، ولذا، فإنّها لا تصل إلى أجهزة الاستقبال البعيدة (عِلماً أنّها تستطيع الوصول إلى القمر!).

صنعَ جانكسي هوائيّاً كبيراً لالتقاط الإشارات الموجيّة، وركّبه على سطحٍ مُتحرّك باتّجاهٍ دائريّ، ووضعه على عجلات (تم جلب العجلات من سيّارات فورد من "النوع T".

كان الهدف هو بناء هوائيٍّ يمكن توجيهه إلى كلّ ناحية. حظيَ هذه الجهاز المُتحرّك باتّجاهٍ دائريّ بلقب "دوّامة جانسكي".

صافرة غير عادية

بمساعدة هذا الهوائيّ، اكتشف جانسكي أنّ الضجّة الـ"ثابتة" في راديو الموجات القصيرة، تنشأ، في الأساس، نتيجةَ عواصف رعديّة، قريبة وبعيدة. ولكن، تُسمع في الخلفية ضجّة أخرى، كأنها صافرةٌ مزعجة، لم ينجح جانسكي في تحديدها.

علينا أن نتصوّر أنّ معظم الباحثين كانوا سيفترضون في هذه الحالة أنّ الأمر عبارة عن ظاهرة مُرافِقة لعمل الأجهزة، وبذلك يرتاحون من المسألة. لكن ليس جانسكي من يفعل ذلك..

في البداية، تحقّق جانسكي من أنّه سمع الإشارة الخارجيّة حقّاً، وبعد ذلك، تتبّع الإشارة إلى أن اكتشف أنّها تصل إلى أعلى درجاتها كلّ يوم، عندما تكون الشمس فوقَها مباشرةً. ولكنّ جانسكي كان باحثاً حذِراً، وفضّل تتبّع الإشارة على مدار عدّة أشهر. فاكتشف أنّ الإشارة تصل إلى أعلى درجاتها كلّ 23 ساعة و56 دقيقة، وليس كلّ 24 ساعة كما اعتقدَ في البداية!

إنّ الثبات لمدّة 24 ساعة يمكن أن يتعلّق بالدورة اليوميّة للشمس. بالإضافة إلى ذلك، اكتشف جانسكي أنّ المصدر الرئيسيّ للإشارة لا يصل من جهة الشمس.

تُشير الفترة الزميّة 23 ساعة و56 دقيقة، بشكلٍ مباشر، إلى أنّ مصدر الإشارة يقع في مجموعة الكواكب الثابتة، التي يختلف توقيتها عن توقيت دورة الـ24 ساعة، بسبب حركة الأرض في مسارها حول الشمس. تبيّن لجانسكي أنّ اتّجاه القوة الكبرى هو اتّجاه مركز مجرّتنا.

إشارات من الفضاء

إذاً، تبيّنَ أنّ جانسكي أنصَت، للمرّة الأولى في التاريخ، إلى إشارة راديو من الفضاء، ليُصبح بذلك مُؤسَّس عِلم الفلك الراديويّ، الذي تحوّل اليومَ إلى واحدٍ من الوسائل الهامّة في بحث الكون، والذي يتعلّق باكتشافاتٍ أخرى مثل النجوم الزائفة، الكواكب النبّاضة، الثقوب السوداء والكون الآخذ بالتمدّد.

في حقيقة الأمر، كان هناك عالِمان آخران من مختبرات "بيل" – روبرت ويلسون وآرنو بينزياس – Wilson; Penzias، اللذان، وبفضل رصد مشابه كانا قد أجريَاه – رصد عشوائي وليد الصدفة أُجريَ عام 1964 - اكتشفا موجات الراديو التي تُعتبر تردّداً لصدى الانفجار الكبير، والتي استُخدِمَت كأدلة أساسيّة في ترسيخ نموذج الانفجار الكبير.

حصلَ ويلسون وبينزياس مقابل عملهما على جائزة نوبل لعام 1978. مقابل ذلك، لم يكتمل الاعترافُ بأهميّة عمل جانسكي إلا بعد مرور سنواتٍ طويلةٍ على وفاته، وبذلك، لم يفز بجائزة.

عام 1931، لم تكن مختبرات "بيل" معنيّةً بعِلم الفلك الراديويّ، ورغم الموجات التي ضربت اكتشاف جانسكي، فقد تمّ نقلُه بعد فترةٍ معيّنة إلى وظيفةٌ أخرى في مختبرات "بيل"، ولم يرجع أبداً، بشكلٍ عمليّ، إلى مجال عِلم الفلك الراديويّ.

قبل سنوات معدودة فقط، قرّر ويلسون والباحث الآخر في "بيل"، اسمه طوني طايسون Tyson، أنّه كان من المناسب أن تُقيمَ مختبرات "بيل" نصباً تذكاريّاً مناسباً لتخليد ذكرى جانسكي. لقد أرادا نصبَ نموذجٍ للهوائيّ الذي بناه جانسكي في حينه، ونصبَه مكانَ النصب التذكاريّ الأصليّ الذي كان مبنيّاً على تلك البقعة في ذلك الوقت. لكن، تبيّن أنّ برنامج العمل صعب التنفيذ، حيث لم يتبقَّ أيّ أثرٍ أو ذكرى من الهوائيّ الأصليّ، وليس هناك من يذكر أين تمّ نصبه في ذلك الوقت. اضطرّ ويلسون وطايسون إلى إجراء تحرٍّ جديٍّ حتى نجحا في نهاية الأمر بتحديد الموقع الأصليّ، وارتاحا عندما اتّضح لهما أنّ الموقع المنشود موجودٌ في وسط حديقةٍ عشبيّة، وليس، مثلاً، في وسط شارعٍ صاخب.

تمّ تدشين النصب التذكاري على اسم جانسكي عام 1998.

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك