"مثل السلاحف: إذا كنتَ لا تدفعُ رقبتك إلى الأمام ولا تُخرجُ رأسك من الدرع، لا يمكنك أن تتقدم"..
يشتهر فريد هويل بقدرته على "إخراج رأسه إلى الأمام"، يعتقد معظم العلماء أنّه أخطأ تماماً في أكثر نموذجيْن معروفيْن له، أحدهما في مجال عِلم الكونيّات والثاني في مجال البيولوجيا، ولكنّ تحديّاته الفكريّة كانت بمثابة دعامة مُريحة استند إليها تطوّر علميّ كبيرٌ في كِلا المجاليْن.
ظهرَ نفور هويل من المسؤوليّة في مراحل مُبكرة من حياته، عندما كان طفلاً كان يتغيب عن المدرسة بشكلٍ ثابت، وليس "لأسبابٍ مُبرَّرة"، ووفق هذا النهج المتمرِّد الذي اتبعه، واصل هويل حياته.
كون أبدي
يشتهر هويل، بشكل خاصّ، بفضل الاقتراح الذي عرضه عام 1948: نظريّة الوضع الثابت للكون (وضعها بالتعاون مع رائد الفضاء توماس جولد وعالِم الرياضيّات هيرمان بوندي)، وفق هذه النظريّة فإنّ الكونَ لم يتغيّر "بشكل عامّ"، ودائماً كان وسيبقى على حاله.
يمكن أن نطلق على هذا الاعتقاد اسمَ "مبدأ الزمن الكوبرنيكيّ": تماماً مثلما توصّل كوبيرنيكوس من خلال الكرة الأرضيّة إلى موقعها الفضائيّ المميّز في الكوْن، كذلك، توصّلت نظريّة الوضع الثابت إلى الموقع المميّز للزمن حسب ما يتم فهمه من خلال دراستنا للعمليات التي نعرفها.
بالطبع، تشهدُ الكرة الأرضيّة والمجموعة الشمسيّة نشاطاتٍ، تبدأ وتتطوّر ثم تنتهي على نطاق "صغير"؛ ولكن على مستوى النطاق الكبير للمجرّات، تبدو الأمور تماماً وكأنها لا تتغيّر. هكذا صيغَت هذه النظريّة.
النشوء المتواصل
كيف تتلاءم نظريّة هويل مع تمدّد الكون؛ تمدّدٌ تظهر علاماته في المُشاهدات؟
ذا كانت كلّ المجرّات تبتعد عن بعضها البعض، فإنّ مُعدّل كثافة المادّة في الكون، ينبغي أن يتقلّص مع الوقت. ولكنّ نظريّة هويل تزعم أنّ كثافة المادّة في الكون ثابتة لا تتقلّص. كيف نحلّ هذا اللغز العجيب؟
يقترح هويل فكرة "النشوء المتواصل": يزعمُ هويل أنّ المادّة الجديدة لا بدّ لها أن تنشأ "بشكلٍ تلقائيّ" في كلّ الحيز الفضائيّ، وبوتيرةٍ ملائمةٍ بشكلٍ دقيق، حتّى تعوّض عن الانخفاض في الكثافة، وأن تكون نتيجة لتمدّد الكون. أي: الكونُ يتمدّد، الكثافة تتقلّص، والمادة الجديدة تنشأ بالوتيرة نفسها. ليست هناك أيّة دليل يشهد على نشوء متواصل كهذا للمادّة، وترسّخ المُشاهَدات التي أُجريَت في السنوات الأخيرة بشكلٍ متزايدٍ على وجه الخصوص، السيناريو البديل، سيناريو "الانفجار الكبير". حتّى هويل نفسه أدخل تعديلاتٍ على نظريّته، لأنها لا تتلاءم مع الاستنتاجات.
الفيروسات الفضائية
كان هويل قد نشرَ فكرةً أخرى على نحو أوسع، اعتقدَ هويل أنّ الحياة على الكرة الأرضيّة "زُرِعَت" بواسطة مادّة عضويّة جاءت إلى هنا من الفضاء، وأنّ فيروسات نزلت علينا من هناك مثل هطول المطر الذي لا ينقطع.
حسب هويل، حتّى الجراثيم، بل حتّى الخلايا الأعقد تركيباً، موجودة في الفضاء ويمكن أن تصل إلينا من هناك. صحيح أنّ هناك جزيئات عضويّة معيّنة، جزيئات بسيطةٌ جدّاً مثل الميثان (methan "غاز المستنقعات")، موجودة فعلاً في الفضاء الخارجيّ، لكن ليس هناك دليل على أنها ساهمت في نشوء الحياة على الكرة الأرضيّة.
"العجيب الحقيقي"
رغم غرابة أفكار هويل وتطرّفها، فإنها أدّت إلى إجراء اختباراتٍ وأبحاثٍ كثيرة. حتّى خياله العلميّ وفّرَ مادّةً كثيرةً للتفكير.
قبل سنواتٍ كثيرة، كان هويل قد ألّف كتاباً عنوانه "السحاب الأسود"، وحكى فيه عن سحاب من الغاز المؤيَّن ionozed يهبطُ من الفضاء، ويُحلق فوق الكرة الأرضيّة، ليتبين في النهاية أنّه "كيانٌ" عاقل. ثمّ يتمكّن أحد العلماء من التواصل مع هذا السحاب، ويُقنعه بتعليمه كلّ ما يعرف. يفعل السحاب ذلك، ويُصرّح العالِم قائلاً: "الآن لديّ أجوبة!"، فيسقطُ من فوره ويموت نتيجةَ الجهد الزائد الذي بذله الدماغ.
السحاب الذكي
فكرة السحاب الذكيّ هي فكرةٌ فريدةٌ من نوعها، فكرةٌ مثيرة للفضول والتحدّي.
يدور الحديث عن سحاب له "أعضاء" يعمل مع بعضه البعض، وفيه "تقسيمُ أدوار"، تماماً مثل الجسم. جذبتني هذه الفكرة بشكلٍ شخصيّ وجعلتني أفكّر، على مدى وقتٍ طويل، في تعريف "الفرد"، في مقابل "المجتمع" (هل مستعمرة النمل، مثلاً، هي فردٌ أم مجتمع؟) وفي إمكانيّة النشوء والارتقاء عن طريق الاختيار بين مركّبات مستقلّة جزئيّاً عن الكامل.
حتّى إذا افترضنا أنّ أفكار هويل كانت خاطئة، إلا أنه سيبقى مع ذلك في الذاكرة كأحد العلماء البارزين، حتى بعد مرورِ وقتٍ طويلٍ على نسيان أفكاره.