هناك تفاعلاتٌ كثيرةٌ يستمرُّ حدوثها نتيجةَ شيءٍ معيّنٍ يحدث داخلها، أحد أنواع هذه التفاعلات المعروفة هو التفاعل المتسلسِل.
والأكثر شهرةً من كلّ التفاعلات الأخرى هو التفاعل المتسلسِل الذرّي، الذي تقومُ فيه النيوترونات بكسرِ ("شَطرِ") ذرّات اليورانيوم أو البلوتونيوم، ما يؤدّي، بالتالي، إلى تحرّرَ النيتورونات الإضافيّة، وهكذا دواليك.
لم يكن فالتر نيرنست، عالِم الكيمياء الألمانيّ الشهير، يُدركُ، في بداية طريقه، شيئاً، بالطبع، عن النوى التي لم يتمّ اكتشافها فعليّاً، ولكنّه كان العالِم الذي اكتشف مبدأ التفاعل المتسلسِل. في ذلك الوقت، كان معروفاً أنّ الخليط الغازيّ الذي يضمّ الهيدروجين والكلور ينفجر إذا تعرّض للضوء، ولكنّ كيفيّة حدوث ذلك لم تكن مفهومة.
يتألّف غازا الهيدروجين والكلور، بشكلٍ عامّ، من جزيئات مركّبة من ذرّتيْن، تكون هذه الجزيئات ثابةً إلى حدٍّ ما، وغير نشِطة، يستطيع الضوء "تفكيك" جزيء الكلور إلى ذرّتيْن (جذور حُرّة).
تُعتبر الذرّات المنفصلة نَشِطة وعدائيّة جدّاً، "تركضُ" كلّ واحدةٍ منها إلى أن تلتقي بجزيء هيدروجين، ثمّ تهاجمه وتخطف إحدى ذرّاته لتشكّل معها جزيئاً ثابتاً من كلوريد الهيدروجين.
ذرّة الهيدروجين الباقية صارت الآن نشِطة جدّاً، وصارت تُهاجمُ أيضاً، ولكن الجزيء الذي تتم مُهاجمته هذه المرّة هو جزيء الكلور. خُطِفَت ذرّةُ كلور واحدة من الجزيء لتشكيل جزيءٍ إضافيٍّ من كلوريد الهيدروجين، وتستمرّ العمليّة نفسها بهذه الطريقة، تُدعى التفاعلات التي من هذا النوع، والتي يتعلّق انطلاقُها بالضوء، تفاعلاتٍ كيميائيّة ضوئيّة، وتُعتبر شائعةً جدّاً في عالَم الكيمياء.
بشكلٍ عامّ، تُصدر هذه التفاعلات حرارةً عالية (مُنتِجة عالية للحرارة)، بل إنها تتطوّر بسرعةٍ كبيرة بسبب عدوانيّة الذرّات المنفصلة (الجذور الحرّة) التي فيها. باعتبار أنها تحدث داخل الخليط الغازيّ هذا، فإنها تسخنُ وتتمدّد بسرعةٍ كبيرة. في ظروفٍ كهذه يكون هناك احتمالٌ عالٍ لحدوث انفجار.
الكيمياء في خدمة البشرية في الزمن القديم
حسب الميثولوجيا اليونانيّة، جاءت النار إلى العالَم عندما سرقها بروميثيوس من السماء..
وبالفعل، يمكن أن ننسبَ اكتشاف النار إلى "السماء"، فمن المعقول أن نفترضَ بأنّ الإنسان القديم أدركَ، للمرّة الأولى، الفائدةَ المخفيّة في النار، عندما أشعلَ البرقُ النارَ في غابةٍ او في أجمةٍ متشابكة وأعشاب.
كانت الخطوةُ الأولى باتجاه فهم الطبيعة الحقيقيّة للنار هي الاعتقاد بأنّ النارَ عبارة عن تفاعلٍ كيميائيٍّ بين الكربون، الخشب أو الفحم مع الأكسجين الذي في الهواء، أثناء عمليّة التفاعل، تتحرّر طاقةٌ كبيرةٌ بهيئة حرارة، تظهرُ، صُدفةً، على شكل نار.
هذا التفاعل عبارة عن عمليّة احتراق، ولكن لماذا لا تحدث هذه العمليّة بشكلٍ عفويّ؟
لماذا لا تبدأ قطعة الخشب بالاشتعال من تلقاء نفسها عندما تنمو وتكون مُحاطةً بالهواء؟
لأنّه حتّى نجعل ذرّات الأكسجين والكربون تتفاعل مع بعضها البعض، فإننا بحاجةٍ إلى قطع الروابط الكيميائيّة داخل جزيئات الكربون وداخل مواد الاشتعال التي في الفحم والخشب. سيتطلّبُ هذا القطع طاقةً تملكُها النار.
بكلماتٍ أخرى، ليست النار مجرّد ناتجٍ عن تفاعلِ الاشتعال، وإنما هي أيضاً السبب المسؤول عن استمراره.
إنّ عمليّة الاشتعال ليست، جزءاً من "التفاعلات المتسلسِلة"، عِلماً أنها تُناسب تعريفَ "التفاعل الذي يتعلّق استمراره بشيءٍ ما يتشكّل فيه"، إلا أنّ الـ"شيء ما" هذا هو حرارة وليس مادّة.
إنفجارات "مقَيدة"
إنّ محرِّكَ "الاشتعال الداخلي"، الذي يُحرِّك، تقريباً، كلّ أدوات سيّاراتنا وشاحناتنا، اختُرِعَ نهاية القرن التاسع عشر.
ينفجرُ في هذا المحرّك خليطٌ غازيٌّ من الوقود والأكسجين، حيث تُسخِّنُ طاقة الانفجارِ الغازات الناتجة وتؤدّي إلى تمدُّدها. يُحرّك هذا التمدّدُ المكبسَ. هناك فائدةٌ للمحرّكات التي من هذا النوع.
بمعنى آخر، قسمٌ من الطاقة الحرارية، فقط، يُترجَم إلى حركةٍ ميكانيكيّة، إنّ هذا القسم النسبيّ - الاستفادة هذه - يكون بنسبة 20-30 في المائة.
قبل مجيء نيرنست لم يكن في الإمكان حسابُ الفائدة القصوى النظريّة لمحرّكٍ من هذا النوع، قام نيرنست بتطوير نظريّةٍ ترتكزُ على الروابط القائمة بين الذرّات. تُعتبر هذه النظريّة هامّة جدّاً حتّى أنّها حصلت على لقب "القانون الثالث للديناميكا الحراريّة"، وتُعتبر - حتى يومنا كذلك - ذات أهميّةٍ عِلميّةٍ وصناعيّةٍ كبيرة.
إشارات عصبية
قدّمَ نيرنست مساهمةً كبيرةً للكيمياء الفيزيائيّة – فهمَ المبادئ الكيميائيّة بمصطلحاتِ القوانين الفيزيائيّة الأساسيّة.
خُلِّدَت إحدى مساهماته باسم "معادلة نيرنست"، تُعتبر هذه المعادلة مهمّةً بشكلٍ خاصّ لفهمِ الطريقة التي تعمل بحسبها الأعصاب في جسمنا.
إنّ "خيوط الكهرباء" التي تحمل هذه النبضات، الألياف العصبيّة، ليست مصنوعةً من المعدن (أساساً، يبدو أنّ نظرية النشوء لم تكتشف أبداً كيفيّة نشوء الخيوط المعدنيّة)، بل هي بمثابة خيوطٍ مُحاطةٍ بأغلفة مليئة بمحلولٍ مائيٍّ من الأيونات (مجموعة ذرّات أو ذرّات ذات شحنة كهربائيّة).
يقوم هذا المحلول الذي يحمل الاسم "إلكتروليت" بتمرير الكهرباء: تتدفّق الأيونات عبر مسامات غشائيّة تُشكّل جدارَ الأغلفة، ويّعتبر هذا التدفّق بمثابة معبر النبضات الكهربائيّة. إنّه يختلف بذلك عن تدفّق الكهرباء في أجهزة الاتصال التكنولوجيّة، التي تمرّ الطاقة الكهربائيّة فيها من خلال تدفّق إلكتروناتٍ على طول أربطةٍ معدنيّة.
تصفُ معادلة نيرنست التوازن القائم بين الجانبيْن اللذيْن يُحدّدان تدفّق الأيونات عبر الغشاء: بين ميْل الأيونات إلى التدفق من جانب الغشاء الذي يحتوي على تركيزٍ أعلى نحو الجانب الذي يحتوي على تركيزٍ أقلّ (الضغط الناضح)، وبين الميْل النابع من فائض السِّعة الكهربائيّة بين جانبٍ واحدٍ باتجاه الجانب الآخر.
تُعتبر هذه المعادلة مركزيّة جدّاً في فهم نشاطات العصَب، التي كتب عنها عاِلم البيولوجيا العصبية غوردون شيبارد G.Shepherd في كتابه قائلاً: "إذا كنت مستعدّاً لتعلّم معادلةٍ واحدةٍ فقط في مجال البيولوجيا العصبيّة، فإنّ معادلة نيرنست هي المعادلة التي عليك تعلّمها، لأنّها حجرُ الأساس في فهم طبيعة السِّعات الكهربائيّة في كلّ الخلايا، وكذلك في النشاطات الكهربائيّة العصبيّة".
بطل قومي
حظيَ نيرنست باحترامٍ كبيرٍ في حياته، وحازَ، ضمن أشياء أخرى، جائزةَ نوبل لعام 1920.
لم يفشل إلا في مجالٍ واحد: لم يكن مُخترعاً بارزاً. لم يُثمرِ أيٌّ من اختراعاته، عِلماً أنّ واحداً منها، البيانو الكهربائيّ، كان سابقاً لأوانه، ببساطة: لقد حوّل موجّه الصوت في البيانو إلى مكبّرات صوت إذاعيّة، ولكنّ النتيجةَ لم تكن لطيفةً على أذنيْ الموسيقيّين..
فقدَ نيرنست ولديه في الحرب العالميّة الثانية، وأصبحَ، نوعاً ما، بطلاً قوميّاً. لكنّ توجّهاته السلميّة لم تعجب النازيين، فعندما تقلّدوا زِمام السُّلطة، عام 1933، هربَ نيرنست إلى عزبةٍ قرويّة، ولم يشارك مجدّداً في الحياة الأكاديميّة أو المدنيّة.
توفي نيرنست عام 1941.