كان أرسطو يؤمن بأن الأجرام السماويّة خُلقت من مواد مختلفة عن تلك التي نجدها على سطح الأرض، في نهاية المطاف.. ما الذي يبقيهم هناك في الأعلى؟!
خلال حوالي 1.800 سنة، أعتُبر أرسطو المرجعية العليا (الإلوهية، تقريباً)، ولم يشكك أحد في معظم معتقداته.
في عصر النهضة بأروربا وبعده بدأت تظهر شكوك في أفكار أرسطو، على المستويين اللاهوتي والفلسفي، لكن، فقط في القرن التاسع عشر توافرت في العالم الوسائل اللازمة لفحص المواد التي تكوّن الشمس والنجوم.
كان روبرت بنسن مع غوستاف كيرشهوف هما من وجدا المفتاح لهذا الفحص فقاما بتطبيقه.
تبدأ القصة في عام 1802، عندما لاحظ الكيميائي الإنجليزي ويليام والستون Wollaston أنه عندما تمر أشعة الشمس من خلال موشور (منشور)، يمكن رؤية خطوط دقيقة وداكنة اللون، هنا وهناك، في قوس من الألوان (الطيف).
قبل ذلك بحوالي مائة وخمسين عاماً لاحظ نيوتن أنه عندما يمر ضوء الشمس الأبيض من خلال منشور، ينكسر الضوء إلى قوس من الألوان، لكن من الغريب أنه لم ير تلك الخطوط الداكنة اللون – لم يرها أو لم ينتبه لها؛ لربما تكون الوسائل البصرية التي توافرت غير جيدة بما فيه الكفاية، وكانت الرؤية مشوّشة.
اعتقد والستون أن هذه الخطوط هي "الحدود الطبيعية" بين الألوان، ولم يتعمق في دراسة الموضوع أكثر، الأمر الذي اتضح أنه كان إضاعة لفرصة كبيرة.
عام 1814 نجح الألماني جوزيف فون فراونهوفر (J. Von Frauohfer)، مستعيناً ببصريات أكثر تطوراً، في إحصاء 574 خطاً كهذا، كما نجح في رؤية خطوط مشابهة، وإن لم تكن مماثلة تماماً، في ضوء النجوم. لكن، هو أيضاً غابت عنه أهمية هذا التمييز في الخطوط.
بصمة العناصر
في السنوات التالية اكتشف الكيميائيون أن هناك عناصر مختلفة تنتج ألواناً مختلفة عندما تحترق.
عام 1859 خطرت لغوستاف كيرشهوف فكرة عبقرية: أن يمرر هذا الضوء من خلال منشور. اكتشف هو وبنسن على الفور أن الطيف الناتج من هذه العملية له خطوط فاتحة اللون على خلفية متواصلة، وأن بنية هذه الخطوط تختلف من عنصر كيماوي لآخر، وأن بعض هذه الخطوط تتوافق مع الخطوط الداكنة اللون في الطيف الشمسي.
أدرك بنسن وكيرشهوف فوراً الأبعاد الهائلة لهذه الاكتشافات، وبدآ باستغلالها.
بنية الخطوط الفاتحة اللون شكلت "بصمة أصابع" مميزة لكل عنصر وعنصر، حيث كان من الممكن التعرف بسرعة، عند فحص مادة غير معروفة في الطيف (من أجل ذلك كانت هناك حاجة لكميات قليلة جداً فقط)، على العناصر الأساسية التي تركبها.
منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا يشكل المحلل الطيفي الخاص ببنسن وكيرشهوف جهازاً أساسيّاً في الكيمياء التحليلية.
مشعل بنسن
واجه بنسن مشكلة تقنية: لهب الغاز العادي لم يكن ساخناً بما فيه الكفاية، والأسوأ من ذلك – كان اللهب ساطعاً جدّاً، ولذلك كان من الصعب تمييز الخطوط الفاتحة اللون للمادة المحترقة على هذه الخلفية الفاتحة.
انتبه بنسن إلى أن خليط الهواء والغاز يشتعل بدرجة حرارة أعلى وبضوء أقل من لهب الغاز النقي. كانت هذه فكرته، على الرغم من أن التصميم والبناء الأصليين ينسبان إلى تقني باسم بيتر ديساغا P. Desaga هذا التصميم يعرفه كل طالب ثانوية باسم "مشعل بنسن".
هذا المصباح هو أهم جزء في المحلل الطيفي. كانت الأجزاء الأخرى للمحلل الطيفي الأول: منشور، علبة سيجار، وطرفا تلسكوبين قديمين، لم يكن لهما أي استعمال آخر.
بدأ بنسن وكيرشهوف باستعمال هذا الجهاز، وسرعان ما اكتشفا عنصرين جديدين: معدنان قلويان قاما نتسميتهما بـ"السيزيوم" و "الروبيديوم"، أليس هذان هما الإسمين اللاتينيين للونين المركزيين للطيف: الأزرق والأحمر على التوالي.
تحليل النجوم
القسم الثاني في اكتشافهما – التشابه بين الخطوط الفاتحة اللون في طيف اللهب وبين الخطوط الداكنة اللون الطيف الشمسي – الذي كان لربما الاكتشاف الأهم.
فهم بنسن وكيرشهوف أن العناصر بالتأكيد تستطيع أن تمتصّ، بشكل انتقائي، الضوء في تلك الألوان التي تصدرها عندما تكون ساخنة، (لقد فهماسبب ذلك بشكل كامل في وقت لاحق، فقط).
قارنا بين الخطوط الفاتحة اللون لدى فراونهوفر وبين الخطوط الفاتحة اللون التي صدرت من اللهب، ووجدا بعض "البصمات" المتطابقة! وبذلك أثبتا بشكل قاطع ونهائي أن أرسطو كان على خطأ وأن الخطوط الداكنة في الطيف الشمسي، مصدرها هو استيعاب ضوء الشمس في العناصر الموجودة على سطح الشمس، وهي نفس العناصر الموجودة كذلك على سطح الأرض.
في المقابل، مكّن اكتشافهم هذا من تحديد مركبات الشمس والنجوم. هذه الخطوط سوف "تعود إلى السماء بصورة مدهشة أكثر مما فعل المحلل الطيفي"، هكذا صاغ الأمور مؤرخ العلوم آيزاك أسيموف I. Asimov
كان متزوجا لعمله
كانت لبنسن مساهمات كثيرة في مختلف المجالات، بدءاً من الجيولوجيا وحتى التصوير الفوتوغرافي.
بعد رحلة قام بها إلى آيسلندا، حاول أن يفهم كيفية عمل السخانات، حتى أنه بنى نموذجاً منها. فقد نقّى المغنيسيوم المعدنيّ، ووجد أن حرق المغنيسيوم النقي ينتج ضوءاً ساطعاً جداً.
على مدى أكثر من مائة عام استُخدم إشعال المغنيسيوم للتصوير مع استخدام الفلاش. (أتذكرون أضواء الفلاش التي استعملها الممثل كاري غرانت لكي يدافع عن نفسه مع أنه لم ينجح في ذلك في فيلم "النافذة الخلفية" لهتشكوك؟
قال بنسن عن نفسه إنه كان غارقاً في عمله العلمي، "لدرجة أنه لم يكن لديه وقت للزواج". وإذا عدنا إلى اقتباس آخر لأسيموف، "هذا القول لم يكن مزاحاً بشكل تام، لأن عمل بنسن كان يتطلب منه بما لا يقل عما تتطلبه العائلة، ولم يكن العمل سخيّاً في تعامله معه دائماً".