كثيرًا ما نسمع عن قصص عقوق الوالدين ، ونرى عجب العجاب فهذا يرمي أمه من أجل إرضاء زوجته ، وهذا يقسو على أبيه المسن وهذا يتخذ من والديه خدمًا له ولأبنائه كي يوفر ثمن الخادمة ، فبدلًا من أن يرد لهما الجميل ويخدمهما في الكبر ، يتفنن في إذلالهما حتى يتركان منزله ويرتاح من عبئهما ، كثيرة هي القصص التي تسير على نفس المنوال ، ومنها تلك القصة .ففي يوم الأربعاء الموافق 2/20من هذا العام أثناء نزولي من سيارتي صباحًا عند بوابة المستشفي التخصصي الطبي ، برج رقم 1على طريق الملك فهد بالرياض لمحت رجلًا مسنًا لا يرى إلا بعين واحدة وبصحبته امرأة عجوز مقعدة على كرسي متحرك ، كان يبدو أنهما ينتظران أحدًا ما ، ولما أنهيت عملي بعد المغرب ، تفاجأت بأنهما لا يزالان في نفس المكان ، وتبدو على وجوهما أثار القلق والخوف فاقتربت منهما ، وعلمت أنهما في انتظار ابنهما محمد الذي ذهب ولم يعد .كان لسانهما لا يكف عن الدعاء له بالسلامة ، وأثناء وجودي بجوارهما لاحظت أن العجوز توجه للكافيتريا المجاورة ، فتقدمت لأرى ماذا يريد لعلني أساعده في جلبه ، وصعقت حينما علمت أن لا يمتلك سوى ريال واحد فقط ، ويريد أن يجلب المال له ولزوجته ، كانت علبة الماء بثلاثة ريالات وهو يحاول أن يقنع البائع أن يمنحه فقط كأس من الماء برياله الذي يملكه .فاستأذنته أن أشتري أنا الماء فوافق على استحياء ، فاشريت علبتين له ولزوجته القعيدة وللحق كانوا في عطشٍ مميت ، فيبدو أنهم لم يشربا منذ فترة طويلة وعند حديثي مع السائق الخاص بي ، اقتربت مني العجوز وأعطتني ورقة قالت أن فيها رقم ابنها ، وطلبت مني الاتصال به حتى تطمئن عليه وتعرف سبب تأخره .فأخذت منها الورقة وحين نظرت بها صعقت فالرقم المكتوب بها لم يكن أكثر من خمسة أرقام هم 01234 ، فقلت لها يا أمي للأسف هذا الرقم غير صحيح ، فانتفضت المرأة من مقعدها وقالت كيف هذا ، وتلعثم العجوز وهو يقول : لقد أعطاني ابني هذا الرقم وذلك الجوال كي أتصل عليه في حال غيابه ، فأخذت الجوال من يده فإذا به هاتف قديم لا يوجد به شريحة ولا حتى شحن .فقلت في نفسي : حسبي الله ونعم الوكيل فيك أيها الابن العاق ، وحاولت أن أمسك عبراتي حتى لا يلحظان شيئًا من تأثري ، وقلت لهما لقد هاتفته ولكنه جواله مغلق للأسف فزاد خوف المرأة القعيدة على فلذة كبدها ، وترقرقت الدموع في عيناها وهي تدعو الله ألا يكون شيئًا أصابه ، أما أبيه العجوز فقد كان ينتفض من شدة القلق والبرد ، فلم يكن يرتدي سوى ثوب أبيض خفيف لا يحميه برودة الطقس .ظلوا منتظرين ونظرات القلق والهم تعتلي وجوهم ، وأنا بجوارهم لا أستطيع المضي قدمًا حتى أطمئن عليهم ، وحينما كان الأب العجوز يرى أي عربية سوداء ، كان وجهه يتهلل كطفل صغير ويركض صوبها وهو يقول : لقد أتى ابني محمد ، ولكن للأسف لم يكن ابنه من ضمن القادمين ، وألهمني الله سبحانه وتعالى أن أسال رجل الأمن الواقف على بوابة المستشفى عن ابنهما ، لعله رآه أو حادثه .وبالفعل أخبرني أن ابنه وزوجته أنزلوهما من السيارة حوالي الساعة التاسعة ، وأخبر المسئولين عن تواجدهم وسوف تحضر سيارة دار العجزة بعد قليل ، لأخذهم فنزل الخبر على قلبي كالصاعقة ، أي عقوق هذا وأي قلب تمتلك يا محمد ، لتترك أمك وأبيك بتلك الطريقة دون مال أو ملبس طيلة النهار في شارع المملكة ، حتى تأتي لهم سيارة لا يعرفون وجهتها وتقلهم بعيدًا عنك للأبد .وبالفعل ما هي إلا خمسة دقائق حتى جاءت سيارة بيضاء لتحملهم ، وقبل أن تستقلها الأم أخذت تدفع كرسيها باتجاه حارس الأمن ، وقالت له : بالله عليك يا بني حينما يأتي ابني محمد أخبره أننا بخير وسبقناه على المنزل ، فيا لا قلب الأم الذي لا يظن السوء بأطفالها مهما حدث ، ويا لا قلب الابن الذي باع أهله من أجل زوجته ، ولكنها دائرة ولابد أن تدور ، فغدا في نفس المكان لابد أنه سيلاقي نفس المصير ، وحينها سيقول يا ليتني لم أفعل ما فعلت .