كانت قبرص ولاية بيزينطية ، عاصمتها قسطنطينية
سلاميس القديمة
، ويدين سكانها ، بالعقيدة النصرانية الأرثوذكسية منذ عام 431م ، وقد صهرت الكنيسة شعب الجزيرة ، وجعلت منه وحدة اجتماعية ودينية وثقافية ، كما أن الروابط القديمة القوية بين رجال الدين ، والسكان خلقت نوعًا من الشعور بالتضامن الاجتماعي ، في ظل سمة قائمة على مدار العصور المتتالية ، التي خضعت فيها الجزيرة للسيادة الأجنبية .
الجيش الإسلامي وبناء الأسطول البحري : وعندما فتح المسلمون الثغور البحرية ، أضحت هذه عرضة لهجمات البيزنطيين المنطلقين من الجزر القريبة ، ونظرًا لأن الصراع العسكري بين المسلمين والبيزنطيين كان بأحد وجهيه بحريًا ، أدرك معاوية أهمية بناء أسطول إسلامي .
أهداف معاوية من بناء أسطول إسلامي بحري : وقد أدرك معاوية أهمية بناء أسطول إسلامي ، ويرجع ذلك لعدة أهداف وهي : أولا بهدف الدفاع عن السواحل ، ثانيا بهدف غزو الجزر البحرية المواجهة لساحل بلاد الشام ، وثالثًا الدفاع عن المناطق الداخلية المفتوحة ، ورابعا بهدف استمرار العلاقات التجارية الخارجية مع دول البحر المتوسط ، وبخاصة أن هذا البحر كان لا يزال تحت قبضة البيزنطيين.
رفض عمر بن الخطاب طلب معاوية : وتنفيذًا لهذا المخطط كتب إلى عمر بن الخطاب ، يطلب منه السماح بركوب البحر ، وغزو الجزر القريبة من ساحل بلاد الشام ، لكن الخليفة لم يأذن له إذ
كان يكره أن يحمل المسلمين غزاة فيه
، وكتب إليه بترميم حصون الثغور البحرية ، وترتيب المقاتلة فيها ، وإقامة الحرس على مناظرها واتخاذ المواقد لها ، لحمايتها من غارات البيزنطيين .
إصرار وإدراك معاوية على إنشاء الأسطول البحري الإسلامي : وحدث في أواخر أيام عمر بن الخطاب ، وأوائل عهد عثمان بن عفان أن استعداد البيزنطيون بعض المدن الساحلية ، كما استردوا مدينة الإسكندرية ، فأدرك معاوية أنه لابد من إنشاء أسطول إسلامي للتصدي للخطر البيزنطي ، وفتح الجزر البحرية التي ينطلق منها العدو ، واتخاذها قواعد انطلاق لغزو القسطنطينية ، وهو الهدف الأسمى للمسلمين .
نجاح معاوية في اقناع عثمان بن عفان ببناء الأسطول البحري : ونجح معاوية في إقناع عثمان بن عفان ، بركوب البحر وسمح له بغزو قبرص على أن يحمل معه ، امرأته فاخته بنت قرظة وولده ، حتى يعلم أن البحر هين كما صوره له ، وأمره بعدم إجبار الناس على الركوب معه إلا من اختار الغزو طائعًا .
إصلاح معاوية لسفن الغنائم : وفور الحصول على موافقة الخليفة ، قرر معاوية إصلاح المراكب التي استولى عليها المسلمون من البيزنطيين وتقريبها إلى ساحل حصن عكا الذي أمر بترميمه ، كما رمم ثغر صور ، وكتب إلى أهل السواحل بالاستعداد لغزو قبرص ، التي اختارها هدفًا عسكريًا ، لنشاط الأسطول الإسلامي ، بفضل وضعها الجغرافي المتميز آنذاك ، كقاعدة لغزو القسطنطينية .
الاتجاه لفتح جزيرة قبرص : وخرج معاوية على رأس حملته الأولى على الجزيرة في عام 28هجريًا ، الموافق عام 649م ، وتألف الأسطول الإسلامي من مائة وعشرين مركبًا بقيادة عبدالله بن قيس ، وخرج معه جمع من الصحابة منهم أبوذر الغفاري ، وعبادة بن الصامت وزوجته أم حرام والمقداد بن الأسود وغيرهم .
طلب الصلح مع المسلمين : وصادف الأسطول الإسلامي ، وهو في الطريق إلى قبرص ، بعض المراكب البيزنطية المحملة بالهدايا ، وقد بعث بها ملك قبرص إلى الإمبراطور قنسطانز الثاني ، فاستولى المسلمون عليها ، وعندما وصل الأسطول الإسلامي إلى قبرص رسا على ساحلها ، وأغار الجنود المسلمون على نواحيها ، وغنموا الكثير من أهلها ، واضطر ملك قبرص في ظل عجزه عن المقاومة إلى طلب الصلح .
شروط الصلح : فصالحه معاوية على عدة شروط ، وهي : أن يؤدي أهل الجزيرة جزية سنوية مقدارها سبعة آلاف دينار ، كما يؤدون للبيزنطيين مثلها ، وليس للمسلمين أن يحولوا بينهم وبين ذلك ، ثانيًا أن يمتنع المسلمون عن غزو الجزيرة ، ولا يقاتلون عن أهلها من أرداهم من ورائهم ، ثالثًا أن يعلم أهل الجزيرة أن المسلمين بتحركات البيزنطيين المعادية لهم ، رابعًا أن يعين المسلمين على أهل الجزيرة بطريقًا منهم .
نقض شروط الصلح من قبل البيزنطيين : والواقع أن هذه الشروط ، التي فرضها معاوية على ملك قبرص ، متواضعة ويبدو أنه رأى أن الظروف الضرورية للاستقرار في الجزيرة لم تتوفر بعد ، وأن الحملة لم تكن أكثر من حملة استكشافية ، واختبار قوة البحرية الإسلامية ، لكن الدواعي العسكرية دفعته إلى تغيير تفكيره ، وذلك في عام 32هجريًا ، الموافق 653م ، حين ساعد أهل الجزيرة البيزنطيين ، في حربهم ضد المسلمين ، وأعطوهم بعض المراكب من أجل ذلك ، فنقضوا الصلح المبرم بينهم وبين المسلمين .
فتح جزيرة قبرص : وتسبب نقض الصلح ، إلى دفع معاوية على غزو الجزيرة للمرة الثانية ، في عام 33هجريًا ، الموافق 654م ، ففتحها عنوة ، وأخذ السبي منها ، وأقرّ أهلها على صلحهم ، وعمد إلى تمصيرها واستقرار المسلمين فيها ، فبعث إليها اثني عشر ألفًا من أهل الديوان المكتتبين ، فبنوا بها المساجد ، كما نقل إليها جماعة من أهل بعلبك ، وبني منها مدينة ، وأقاموا يعطون الأعطيات إلى أن توفى .