لم يبق بأيدي البيزنطيين سوى حصن بابليون ، فكان هدف عمرو بن العاص ، التالي قبل أن يتوجه إلى الإسكندرية لفتحها ، إذ لم يشأ أن يشتت قواته ويضعفها ليذر قسمًا منها على حصار الحصن ، وليسير بالقسم الآخر إلى الشمال حتى يبلغ الإسكندرية ، مما يشكل خطرًا على إنجازاته التي حققها ، حتى ذلك الحين من واقع رد فعل البيزنطيين ، الذين سوف يستغلون هذه الفرصة ، ليقوموا بحركات ارتدادية يستعيدون بواسطتها ما فقدوه من أراض ، ويطردون المسلمون من مصر .
حصار حصن بابليون : لذلك ركز جهود العسكريين على فتح الحصن ، فسار إليه في شهر شوال 19 هـجريًا وحاصره ، أدرك سكان الحصن وأفراد حاميته أن الحصار سوف يطول لسببين ، السبب الأول : أنه بدأ في وقت فيضان النيل وارتفاع مياهه فيتعذر على المسلمين أن يجتازوه ، أو يهاجموا الحصن ، ولا بد لهم من الانتظار حتى هبوط الفيضان .
السبب الثاني: أن مناعة الحصن ومتانة أسواره ، وما يحيط به من الماء وضعف وسائل الحصار، سوف يشكل عائقًا أمام المحاصرين من الصعب أن يجتازوه بسرعة ، وما غنموه من بعض آلات القتال أثناء فتح الفيوم لم يكن لهم خبرة باستعمالها ، أو بطرق إصلاحها إذا تعطلت ، لذلك استعد الطرفان لحصار طويل ، والواقع أن الحصار لم يكن محكمًا .
التفاوض مع عمرو بن العاص : كان المقوقس داخل الحصن عندما بدأ الحصار، أما قيادة الجيش فكانت للاعيرج ، وهو قائد بيزنطي ، وتراشق الطرفان بالمجانيق من جانب البيزنطيين والسهام والحجارة من جانب المسلمين ، لمدة شهر حيث بدأ فيضان النيل بالانحسار، وأدرك المقوقس أن المسلمين صابرون على القتال وأنهم سوف يقتحمون الحصن ، بصبرهم وشجاعتهم كما يئس من وصول إمدادات من الخارج .
والحقيقة أن شدة بأس المسلمين في القتال ، وصبرهم أدى إلى هبوط معنويات المقوقس، فاضطر لعقد اجتماع مع أركان حربه للتشاور في الأمر، وتقرر بذل المال لهم ليرحلوا عنهم وأن يذهب المقوقس بنفسه للتفاوض مع عمرو بن العاص في هذا الشأن بشكل سري ، حتى لا يعلم أحد من المدافعين عن الحصن ، فتهن عزائمهم .
المفاوضات : فخرج من الحصن تحت جنح الظلام مع جماعة من أعوانه ، وركب سفينة إلى جزيرة الروضة ، فلما وصل إليها أرسل رسالة إلى عمر بن العاص مع وفد ترأسه أسقف بابليون يعرض عليه ، أن يرسل وفدًا لإجراء مفاوضات بشأن التفاهم على حل معين .
انتظار أعضاء الوفد : وأنتظر أن يعود أعضاء الوفد في اليوم نفسه برد عمرو بن العاص ، لكن هذا الأخير تعمد الإبطاء في الرد مدة يومين ، وأبقى الوفد عنده حتى خاف المقوقس ، وقال لأعوانه: أترون القوم يحبسون الرسل، أو يقتلونهم ويستحلون ذلك في دينهم ، وإنما أراد عمرو بن العاص بحبسهم أن يطلع المقوقس وأهل مصر ، على بأس المسلمين وحالهم .
رد عمرو بن العاص على المقوقس : ومهما يكن من أمر فقد عاد أعضاء الوفد بعد يومين يحملون ، رد عمرو بن العاص ، يخير المقوقس إحدى ثلاث خصال : إما الدخول في الإسلام أو الجزية أو القتال .
عقد الصلح : كان من الصعب على المقوقس وجماعته وأهل مصر ، التخلي عن دينهم واعتناق الإسلام ، ذلك الدين الذي لا يعرفون عنه شيئًا ، وبذلك رفضوا الشرط الأول ، وخشوا إن هم قبلوا بدفع الجزية أن يستضعفهم المسلمون ويذلوهم ، في الوقت الذي استبعدوا فيه فكرة الحرب خشية الهزيمة ، وبخاصة بعد أن وصف أعضاء الوفد وضع المسلمين الجيد ، وتضامنهم وجهوزيتهم القتالية ، ومع ذلك فقد قبل المقوقس الدخول في الصلح .
وطلب من عمرو بن العاص أن يرسل إليه جماعة من ذوي الرأي للتباحث بشروطه ، فأرسل إليه وفدًا برئاسة عبادة بن الصامت فطمأنه بأنهم سيكونوا آمنين على أنفسهم ، وأموالهم وكنائسهم وذراريهم إن هم قبلوا دفع الجزية ، مما شجعه على المضي في طريق الإذعان .
طلب مدة للمشاورة في أمر الصلح : ويبدو أن القبول بقرار الاستسلام لم يكن عامًا ، فقد وجدت فئة من الجند رفضت الصلح مع المسلمين ، وكانت بقيادة الأعيرج وأصرت على المقاومة المسلحة ، عند ذلك طلب المقوقس من عمرو بن العاص المهادنة مدة شهر للتفكير في الأمر فمنحه ثلاثة أيام .
استئناف القتال وانتصارات المسلمين : ولم تلبث أنباء المفاوضات أن انتشرت بين عامة الجند ، فثارت ثائرتهم ضد المقوقس ولما انتهت أيام الهدنة ، استعد الطرفان لاستئناف القتال ، وأحرز المسلمون بعض الانتصارات ، مما دفع المقوقس إلى تجديد الدعوة لأركان حربه للاستسلام ، فقبلوا مكرهين واختار المقوقس خصلة دفع الجزية ، واشترط : موافقة الإمبراطور ، تجميد العملية العسكرية حتى يأتي الرد من القسطنطينية وتبقى الجيوش في أماكنها خلال ذلك ، وتعهد أن يبعث بعهد الصلح إلى القسطنطينية لأخذ موافقة الإمبراطور .
استدعاء المقوقس إلى القسطنطينية : غادر المقوقس حصن بابليون وتوجه للإسكندرية ، حيث أرسل عهد الصلح إلى القسطنطينية وطلب موافقة هرقل عليه ، ويبدو أن بنود الصلح التبست على الإمبراطور ، أهي عامة تطبق على البلاد كلها ، أم خاصة بحصن بابليون ، وهل يبقى المسلمون في البلاد بعد أخذ الجزية أو يرحلون عنها، وهل معنى ذلك التنازل عن مصر للمسلمين ، واحتاج بعض الإيضاحات ، لذلك استدعى المقوقس إلى القسطنطينية .
رفض هرقل عرض الصلح مع المسلمين : والواقع أن المقوقس فشل في إقناع هرقل بوجهة نظره ، بشأن الصلح مع المسلمين ، ورأى الإمبراطور أن العوامل القومية والجغرافية التي ساعدت هؤلاء على فتح بلاد الشام غير متوفرة في مصر، وأن بحوزته المقوقس قوة عسكرية كبيرة تفوق عدد قوة المسلمين ، وأن الحصن كان محصنًا ومتينًا يصعب عليهم اقتحامه ، فلا يعقل والحالة هذه أن ينتصر المسلمين ، ولابد من وجود سر أدى إلى هذه النكبة ، وأتهمه بالتقصير والخيانة والتخلي للمسلمين عن مصر، ونفاه بعد أن شهر به ، ورفض عرض الصلح مع المسلمين .
اضطراب التفكير : إلا أنه وقف عند هذا الحد فلم يرسل مددًا إلى مصر، ولم يفعل شيئًا من تنظيم الدفاع عن هذا البلد ، لرفع معنويات جنوده القتالية ، ولعل مرد ذلك يعود إلى شعوره بالاضطراب في التفكير .
الدفاع عن الحصن ضد المسلمون : علم المسلمون برفض هرقل لعهد الصلح في شهر ذي الحجة 19 هجريًا ، فانتهت بذلك الهدنة وأستأنف الطرفان القتال ، كان المدافعون عن الحصن قد قل عددهم بسبب فرار كثير منهم إلى الإسكندرية ، ولم تأتهم نجدة من الخارج ، وبدا المرض ينتشر بينهم وانتهى فيضان النيل ، وغاض الماء عن الخندق حول الحصن ، فأضحى بمقدور المسلمين الآن أن يهاجموه غير أن المدافعين صمدوا بضعة أشهر ، أقتصر الأمر أثناءها على التراشق بالمجانيق والسهام ، وألقوا حسك الحديد في الخندق بدل الماء ، مما أعاق عمليات المسلمين العسكرية .
موت هرقل وفتح حصن بابليون : وجاءهم وهم على هذا الحال نبأ وفاة الإمبراطور هرقل ، في شهر ربيع الأول 20 هـجريًا ، ففت ذلك في عضدهم واضطربوا لموته ، وتراجعت قدرتهم القتالية مما أعطى الفرصة للمسلمين ، لتشديد الحصار قبل أن يقتحموا الحصن في 21 ربيع الآخر 20 هـجريًا ، وقد أعتلى الزبير بن العوام مع نفر من المسلمين السور ، وكبروا فظن أهل الحصن أن المسلمين اقتحموه فهربوا تاركين مواقعهم .
فنزل الزبير وفتح باب الحصن لأفراد الجيش الإسلامي ، فدخلوه وفي رواية أن الزبير ارتقى السور فشعرت حامية الحصن بذلك ففتحوا الباب لعمرو بن العاص ، وخرجوا إليه مصالحين قبل منهم .
الصلح : ونزل الزبير عليهم عنوة حتى خرج على عمرو بن العاص من الباب معهم ، فاعتقدا بعدما أشرفوا على الهلكة ، فأجروا ما أخذ عنوة مجرى ما صالح عليه فصاروا زمة ، وكان صلحهم: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم ، وبرهم وبحرهم ، لا يدخل عليهم شيء ، من ذلك ولا ينتقص ولا يساكنهم النوب ، وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح ، وانتهت زيادة نهرهم ، خمسين ألف ، وعليهم ما جنى لصوتهم لصوصهم .
فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزاء بقدرهم ، وذمتنا ممن أبى بريئة وأن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع عنهم بقدر بذلك ، ومن دخل في صلحهم من الروم والنوب فله مثل ما لهم ، وعليه مثل ما عليهم ، ومن أبى وأختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه ، أو يخرج من سلطاننًا عليهم ما عليهم أثلاثًا في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم ، على ما في هذا الكتب عهد الله وذمته وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين وعلى النوبة الذين استجابوه أن يعينوا بكذا وكذا رأسًا وكذا وكذا فرسًا ، على ألا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة ، شهد الزبير وعبدالله ومحمد ابناه وكتب وردان وحضر .
تعقيب على صلح بابليون : يتوافق مضمون هذا الصلح مع التوجهات الإسلامية العامة من واقع معاملة أهل البلاد المفتوحة ، مثل منح السكان الأمان وحرية العبادة مقابل دفع الجزية ، كما أن حدد الصلح نوعين من الضرائب ، النوع الأول: الجزية ، إلا أنه لم يحدد مقدارها ولا توزيعها بين السكان ، وقد حددتها مصادر أخرى بدينارين على الرجال القادرين دون سواهم فلا جزية على الأطفال ، والنساء والشيوخ الفانين والعجزة والرقيق .
النوع الثاني: الخراج على الأرض وقد حدد مقداره لكن جعله متحركًا يتغير بتغير الوضع الاقتصادي ، الناتج عن نقصان ماء النيل ، وهذا من عدل المسلمين في معاملة أبناء البلاد المفتوحة ، كما أنه يدفع على ثلاثة أقساط في السنة .
الجزية : روى البلاذري أن عمر وضع على كل حالم دينارين جزية ، إلا أن يكون فقيرًا وألزم كل ذي أرض مع الدينارين ثلاثة أرادب حنطة ، وقسطي زيت وقسطي عسل وقسطي خل ، رزقًا للمسلمين تجمع في دار الرزق وتقسم فيهم .
مقدار الخراج : وكان رؤساء القري يجتمعون لينظروا في الوضع الزراعي ، ويحددون مقدار الخراج ، وكانت كل قرية تخصص قطعة من الأرض يعود ريعها لإصلاح الأبنية العامة ، مثل الكنائس والحمامات ، وكانوا كذلك يقدرون ما يفرض على الناس من المال لضيافة المسلمين ، وكان هذا حقًا من حقوق المسلمين عليهم ، وكذلك ما كان يفرض من المال لضيافة الحاكم ، وإكرامه إذا وفد عليهم .
تنوع السكان العنصري : الملفت في هذا الصلح تنوع السكان العنصري وهم: أهل مصر الوطنين من الأقباط وقد اختص الصلح بهم ، الروم من رعايا وجنود الإمبراطورية البيزنطية الحاكمة ، وكان وضعهم معلقاً على موافقة الإمبراطور، ولذلك لهم حرية الاختيار بين المغادرة والدخول في الصلح ، فإذا اختاروا الدخول في الصلح يصبح لهم ما للأقباط من حقوق وواجبات .
أهل النوبة : النوب من رعايا بلاد النوبة الواقعة في جنوب مصر، والمعروف أن هذه البلاد شكلت آنذاك مملكة قوية ، وكان رعاياها يتاجرون مع الشمال وقد اختلف وضعهم عن وضع البيزنطيين بوصفهم تجارًا ، ففرض عليهم أن يعطوا المسلمين عددًا من رؤوس الماشية ، والخيل مقابل السماح لهم بالتجارة وإذا اختاروا الدخول في الصلح يصبح لهم ما للأقباط من حقوق وواجبات ، وقد حمل الصلح أهل الحصن مسؤولية تضامنية ، عما يقوم به لصوصهم من تعديات .