كان جلجامش (گلگامش) - حاكم أوروك - طاغية في الأرض ،
سعيداً بقامته الممتدة العملاقة ، وجسمه الضخم ، وجماله الباهر الذي يفتن الناس ..
وكان ثلثاه إلها وثلثه الآخر آدمياً . فهو من نسل شمس نيشتين ،
المخلوق الخالد الوحيد الذي نجا من الطوفان . ولم يكن أحد يشبهه بصورته ، وإطلاعه على أسرار الغيب ، ورؤيته جميع الأشياء ولو كانت في أطراف العالم المجهول ..
وكان في قلبه شوق ظامئ إلى الحب . وبسبب مغامراته لإطفاء ظمأه الدؤوب ، راح الآباء والأزواج يشكون كل يوم لربة الحب والجمال "عشتار" ، محاولة جلجامش التعرض للزوجات والعذارى ، ويطلبون منها حمايتهم وحماية زوجاتهم وعذاراهم ..
واستجابت عشتار لتوسلات الخلق . وذهبت إلى الآلهة أرورو - عرابة جلجامش - ترجوها أن تخلق ابنا آخر في قوة جلجامش وجبروته ، يكون قادراً على أن يشغله في نزاع طويل ، حتى يستريح بال الأزواج والآباء في كل أنحاء أوروك ..
وقبلت أرورو رجاء عشتار ، فعجنت قطعاً من الطين نفخت فيها ثم صورت "أنكيدو" ..
فجاء رجلاً له قوة الخنزير ، ولبدة الأسد ، وبأس الطير ، يغطي جسده شعر كثيف وفوق كتفيه شعر طويل كامرأة .. ذهبي كشعر إله القمح ..
ولم يكن أنكيدو منذ خلق ليعبأ بصحبة أبناء البشر ،
بل اعتزلهم وابتعد عنهم .. ثم عاش مع حيوانات الغاب ، يرعى العشب مع الظباء ، ويلعب مع مخلوقات البحر ، ويروي ظمأه مع وحوش الحقول ..
وذات يوم أراد صياد يدعى تسايدو اقتناصه بالشباك ، غير أنه عجز عن ذلك ، وكرر الصياد محاولته يوماً آخر ، ولكن أنكيدو كان بارعاً دائماً في الإفلات منه . وملأ الغيظ قلب الصياد . وانطلق إلى الحاكم جلجامش يشرح له الأمر ويقول له: إن أنكيدو لم يقع في الشباك المصنوعة قط ولكن شباكاً أخرى تستطيع وحدها أن تقتنصه .. هي شباك النساء .
وأجاب جلجامش :
- وما الذي تريد مني ؟ المرأة أم الشباك ؟ ..
قال له الصياد :
- ان أنكيدو يدعي أنه أعظم منك قوة ، وأنا أريد أن أحضره هنا أمامك لتثبت له أن قوته هي الضعف نفسه بجوار قوتك .. ولهذا فأنا أتوسل اليك أن تعيرني كاهنة حسناء تستطيع إيقاع انكيدو في شباك غرامها .. لتقوده إليك
وقال جلجامش :
- إذهب اذن أيها الصياد وخذ معك الكاهنة "أخوتى". وعندما تحضر الوحوش ومعها أنكيدو إلى مورد الماء تستقي فاجعلها تكشف عن وجهها وساقيها .. واختفي أنت وسيتم بعد ذلك كل ما تريد ..
وانطلق الصياد والكاهنة "أخوتى" إلى حيث يستقي أنكيدو مع صحبه من الوحوش .
وعندما جاء الوحش الآدمي ، مدت الكاهنة الحلوة يدها وراحت تخلع أرديتها واحداً بعد آخر . ثم وقفت أمامه عارية ، في جسدها رعشات ظامئات ..
وأدار أنكيدو رأسه ناحية الحسناء وتوقف .. ثم بدأ يختلس إليها النظر في شوق ولهفة واشتعل في أعماقه لهيب النار ..
وحث الصياد من مخبئه الكاهنة أخوتى على أن تقترب من أنكيدو وتمنحه كل ما ينسيه نفسه وأصدقاءه وغابته ..
وبقي أنكيدو مع الكاهنة ستة أيام وسبع ليال .. يعب فيها السعادة . حتى إذا جاءه الملل وانتبه إلى نفسه ، أطل فإذا كل حيوانات الغابة من أصدقائه قد انفضوا من حوله وتركوه .. وملأ الحزن قلب أنكيدو . غير أن الكاهنة راحت تهزه وتقول:
- أنت يا من بلغت عظمة الآلهة . كيف يطيب لك العيش بين وحوش الغابة ونسائها . تعال معي ننطلق إلى مملكة أوروك حيث يعيش جلجامش الذي لا يدانيه أحد في جبروته . تعال معي أقودك إلى القصر الرائع الذي يعيش فيه الإله أونو والإلهة عشتار يمنحانك سر القوة وسر العنفوان .
ووجد أنكيدو العرض مغرياً وبدأ يتوق إلى لقاء جلجامش فأعلن موافقته على اتباع المرأة إلى مدينة أوروك وقال لها:
- تعالي بنا إلى حيث أرى المكان الذي يعيش فيه جلجامش . أقاتله وأهزمه وأظهر له قوتي وعنفواني ..
وسار الثلاثة في طريقهم إلى أوروك . أخوتى وأنكيدو والصياد ..
في ذلك الوقت كانت أوروك تحتفل بعيد "عشتار" والناس يصخبون ويضجون ويشربون عندما بلغهم نبأ وصول أنكيدو ، منافس جلجامش ..
وزاد رقص الناس وابتهاج الآلهة . فقد سرهم أن ينهزم جلجامش . سارق الزوجات والعذارى ، وأن يهبط عن العرش الذي دنسه ..
والحق يقال: كان لأنكيدو من القوة ما يستطيع أن يهزم بها جلجامش . غير أن شيئاً آخر كان قد جد في الأمر . فقد كانت عشتار قد رأت جلجامش فأعجبها وقررت أن تمنع الصراع الوحشي الذي كان عليه أن يخوضه . وبدت لأنكيدو في الحلم تهمس في أذنه أن جلجامش أكثر منه قوة ، وأن خيراً له أن يركن إلى الحكمة وأن يبتعد عن الصراع ..
ومع جلجامش حدث الشيء نفسه . بدا له كأن أمه قد جاءته في الحلم تحذره من منازلة أنكيدو وتطلب منه أن يكونا أصدقاء ..
وهذا ما كان .. والتقى من أريد لهما أن يكونا عدوين ، فإذا بهما يصبحان صديقين وفيين . وإذا بهما يسيران كل يوم جنبا إلى جنب يحميان أوروك من هجمات "عيلام" ويعودان معاً ظافرين بعد أن يقوما بأحسن الأعمال ..
غير أن أنكيدو لم يطق حياة المدينة طويلاً . وبدأ يضيق بها ويتمنى الرجوع إلى الغابة حيث كان يعيش . وظهر له في الحلم طيف شمس نيشتين ، وراح يحبب إليه البقاء في الأرض ويهديه إلى الأرباح التي تعود عليه من الحياة فيها . وقال له شمس:
- إن جلجامش صديقك وأخوك .. وسيمنحك فراشاً ضخماً تنام فيه ومقعداً كالعرش إلى جانبه الأيسر ، وسيجعل كل ملوك الأرض يركعون تحت قدميك إعجاباً وتقديراً ..
وهز الإغراء رأسه واقتنع بالبقاء إلى جوار جلجامش . ولم يعد يشكو بعد وجوده في مملكة أوروك ..
وحتى جلجامش سره وجود أنكيدو إلى جواره وأعلن أن السلام قد حل وخلع عدة الحرب ولبس الثياب القدسية البيضاء ، وزين نفسه بالشارة الملكية ، ولبس التاج ..
وفي تلك اللحظة أطلت "عشتار" فراعها جماله وجبروته . وراحت ترنو إليه بعينيها الكبيرتين وتقول له:
- تعال يا جلجامش وكن لي زوجاً . تعال نتبادل كؤوس الهوى والحب ، أضعك في عربة من لازورد وذهب ذات جوانب مطعمة بالعقيق تجرها سباع سبعة ، وتدخل بيتنا وحولك البخور المنطلق من خشب السدر . تعال أمنحك السلطان .. وأجعل قدميك تحتضنان كل الأراضي المجاورة للبحر ، وأحني رؤوس الملوك لهم سجداً لك يأتونك بثمرات الجبال والسهول جزية يؤدونها صاغرين ..
غير أن جلجامش كان يعرف عشتار ، وكان يعرف لها قصصاً عنيفة مخيفة . فهز رأسه وهو يقول:
- أنت خائنة يا عشتار . ولن يطمئن رأسي فوق كتفي إذا أنا آمنت بحبك واستسلمت لفنون عشقك ..
قالت عشتار :
- وما الذي تعرف عن خياناتي يا فتى ؟.
أجاب جلجامش :
- ان الجميع هنا يتحدثون عما فعله عشقك الخائن بكل من وقع في شباك غرامك . أحببت النسر ثم قصصت أجنحته . وعشقت الحصان حتى نفق . وملأت كؤوس الحب للأسد حتى فقد لبدته ..
وقاطعته عشتار :
- ولكن هل سمعت عن تضحياتي في سبيل من أعشق وأحب .. هل سمعت عن قصتي مع حبيبي تموز ؟ ..
وهز جلجامش كتفيه . وراحت آلهة الحب والجمال تحكي له القصة ..
كان تموز الفتى الراعي المملوء بالعنفوان من نسل الإله العظيم آى . ولقد شاهدته عشتار ربة الحب والجمال وهو يرعى غنمه تحت شجرة "أربد" المقدسة التي تغطي بظلها الأرض ، فشغفت به حباً واختارته زوجاً لها وهي بعد في إبان الشباب ..
وعاش الحبيبان أمداً طويلاً في قصة حب ندية رائعة ، لم تشهد مثلها السماء قط . حتى كان يوم خرج فيه تموز يرعى غنمه وإذا بخنزير بري يهاجمه ويطعنه في مقتل .. فهوى تموز كما يهوي الموتى إلى "أرالو" الجحيم المظلم في العالم السفلي ..
وكانت الإلهة "أرشكيجال" أخت عشتار هي التي تحكم مملكة أرالو الممتدة في أعماق الأرض . إلا أنها كانت تغار من أختها وتمتلىء منها حسداً . فما كاد الفتى يهبط إلى مملكتها حتى أحكمت غلق الأبواب وأقسمت ألا يعود إلى الأرض حيا قط ..
والحق أن عشتار كانت قد قررت أن تهبط إلى آرالو في محاولة يائسة لاسترداد زوجها الحبيب ..
وانطلقت عشتار في رحلة طويلة قاسية ، مرت خلالها بألوان مخيفة من الأخطار . حتى بلغت أبواب آرالو وطلبت الإذن لها بالدخول ..
وسعت أرشكيجال في طلب أختها عشتار فأمرت خازن النار ألا يفتح لها الأبواب أبداً ..
وصرخت عشتار غاضبة . وراحت تدق أبواب أرالو تهدد وتتوعد وتقسم أن تحطمها وتسحق أقفالها وقضبانها إذا لم يسمح لها ..
وامتلأ حارس الأبواب رعباً وفزعاً . وأسرع إلى أرشكيجال يتوسل إليها أن تنقذه بالسماح لأختها بالدخول ..
وبرغم المرارة والحقد اللذين تكنهما أرشكيجال لأختها . فقد اضطرها الأمر أن تخفي ما يعتمل في أعماقها أمام الحارس وسمحت له بفتح الأبواب . غير أنها عندما أذنت له قالت أن هذا الاذن لا يمنع أن تعامل أختها بما يقضي به قانون الآلهة الذي يحرم دخول أرالو إلا للعراة ..
وسمح حارس النار لعشتار بالدخول وراح يخلع عنها جزءا من ثيابها وحليها عند كل باب تجتازه من أبواب مملكة الظلمات ..
ولم تغضب عشتار فقد كان حسبها الوصول إلى حيث وضع تموز ، ولا شيء بعد ذلك ..
وعند الباب الأول خلع الحارس عن عشتار تاجها ، وعند الباب الثاني خلع قرطيها . ثم عقدها ، ثم حلية صدرها ، ثم منطقتها ذات الجواهر القدسية ، ثم رداءها المزركش البراق الذي يغطي يديها وقدميها ..
وبرغم كل ذلك فما اكتفى الحارس . بل طلب منها قبل اجتياز الباب الأخير أن تخلع آخر الأثواب . وتمنعت عشتار أول الأمر في رقة ، ثم خضعت له واستسلمت ..
وهبطت عشتار عارية إلى أعماق أرالو ..
وفتحت أرشكيجال عينيها في غيظ وحقد . لقد كانت أختها فاتنة خلابة رائعة . أما هي فدميمة قبيحة عرجاء . من حقها أن تنزل بأختها غضبها ونقمتها ..
وانتفضت أرشكيجال وهي تصدر أمراً جديداً لرسولها "نمتار":
- إذهب يا نمتار واسجنها في قصري . وسلط عليها ستين مرضاً . مرض العيون على عينيها ، ومرض الجنب على جنبيها ، ومرض الأقدام على قدميها ، ومرض القلوب على قلبها ، ومرض الرؤوس على رأسها . سلط كل ما تعرف من الأمراض على كل جزء من أجزاء جسمها البغيض ..
ونفذ نمتار أمر مولاته .
ووجدت عشتار نفسها داخل سجن أختها ، وفي كل أعضائها مرض خبيث ..
وأطلت الأرض حولها . فما وجدت فوق ظهرها أثراً لعشتار ربة الحب والجمال والربيع ، و شعرت أنها فقدت كل ما كان يوحيه وجود عشتار . فنسيت جميع الفنون وطرق الحب ، ولم تشعر الحيوانات بحرارة الرغبة قط . حتى سكان الأرض من رجال ونساء ، انفصل كل منهم عن الآخر ، وما عاد هناك من سبيل لإنجاب جيل جديد ..
وأخذ البشر يتناقصون ، وروع الآلهة حين رأوا نقص ما يرسله لهم البشر من قرابين . واستولى عليهم الذعر حين شهدوا عدداً كبيراً من الناس قد انصرفوا عن عبادتهم منذ اختفت عشتار بين قضبان السجن المقيت ..
وكان إله الشمس هو أكثر آلهة السماء حزناً على أهل الأرض ، فذهب إلى إله الأرض آى يبكي ، وهو يحمل إليه قصة الخراب والدمار التي حلت على كل المخلوقات . كما يشهدها كل يوم بين الشروق والغروب ..
وحزن آى للمصائب التي حلت بأرضه . فخلق رسولاً سماه أشوشونامبر انطلق يحمل رسالته إلى ارالو ويطلب من أرشكيجال بإسم كل الآلهة إطلاق سراح عشتار ..
وغضبت أرشكيجال عندما وصلها الأمر المقدس بإسم الآلهة على لسان أشوشونامبر ، فراحت تسبه وتلعنه . ثم أمرت به فألقي في جب مظلم في أعماق أرالو حتى يموت ..
ومع ذلك فكانت أرشكيجال لا تستطيع الوقوف في وجه كل الآلهة .. فلم يمض وقت حتى أمرت رسولها نمتار بأن يطلق سراح أختها الإلهة عشتار ..
وانطلق نمتار صاعداً بأمر مولاته ، غير أنه فوجئ بعشتار ترفض الخروج من السجن . وتقسم ألا تغادره وتعود إلى الأرض إلا إذا سمح لها بأن تأخذ معها زوجها تموز ..
ورفضت أرشكيجال ، واستمرت الأرض قاحلة تبكي ..
وغضب الآلهة ، وأرسلوا أمراً آخر إلى أرشكيجال بالإفراج عن تموز ، إجابة لطلب عشتار وبالرغم منها أرسلت ربة الجحيم رسولها نمتار ليصب ماء الحياة على جسد تموز ، ويطلقه خارج أسوار أرالو ومعه عشتار ..
وهكذا انطلقت عشتار تجتاز وهي ظافرة ومعها زوجها أبواب أرالو السبعة . وتتسلم عند كل باب ما خلعته من قبل . ملابس ما فوق الساقين . والمنطقة ، وحلي الصدر . والقرطين . والتاج ..
وأطلت الأرض فإذا عشتار وتموز يعودان . فعاد معهما النبات ينمو والحيوانات تكاثرت ، وانطلق كل امرئ يبغي الإكثار من نسله . وجلست عشتار من جديد على عرش الحب والجمال والربيع ..
كان جلجامش يستمع بذهول إلى قصة عشتار وتموز . غير أنه عندما انتهت من سرد قصتها ، هز كتفيه وهو يذكر النهاية القاسية التي انتهى إليها تموز نفسه . فقد سمع أنه ظل يفقد كل يوم بعض أعصابه حتى انتهى الأمر به إلى الجنون ومات ..
وأقسم جلجامش أنه لن يستسلم قط لغرام إيشتار ، وقال لها وهو يمضي عنها:
- إنك تحبينني الآن . ولكنك ستقضين علي مثلما قضيت على كل هؤلاء ..
وصرخت عشتار وهي تضرب الأرض وتندفع نحو السماء . وانطلقت في غضبها الصاخب إلى أونو الإله الأعظم تطلب منه أن يخلق من الوحوش ثوراً مارداً يقتل جلجامش . غير أن أونو رفض طلبها وهو يقول:
- ألا تستحين يا عشتار وقد ذكرك جلجامش بكل مخازيك وفضائحك وألوان غدرك ؟ ..
وعادت عشتار تصرخ وأنذرت بتعطيل كل ما في الكون من غرائز الحب والنسل حتى يهلك كل شيء ..
وكانت ذكرى خراب الأرض لا تزال ماثلة في رأس أونو ، فاضطر إلى الخضوع لإرادة إيشتار ، وأرسل ثوراً ضخماً اسمه "آلو" لينازل جلجامش ..
والتقى آلو بجلجامش ..
جراء الصراع العنيف الذي نشب بينهما ، كاد جلجامش يسقط ميتاً ، إلا أن صديقه أنكيدو سعى إليه وأنقذه من براثن الثور الوحشي واشترك الاثنان معاً في القضاء عليه ..
وأطلت عشتار من عليائها في غضب مجنون . فرأت الثور يحتضر وجلجامش يقف من فوق جسده يضرب بالرمح كل أطرافه .. وهتفت عشتار:
- ملعون أنت يا جلجامش . أثرت غضبي أنا التي لا أغضب . ويا من قتلت ثوري الذي أرسلته من السماء
وسمع أنكيدو لعنات عشتار . فانقض على الوحش ومزق أحد أطرافه ثم ألقى به على وجه ربة الحب والجمال وهو يهتف:
- أغلقي فمك يا ماكرة ، وإلا هاجمتك وحطمتك وفعلت بك مثل ما فعلنا برسولك ..
وملأ العار رأس عشتار ، وأقسمت أن تنتقم ..
ولم تمض أيام حتى كان أنكيدو قد سقط وهو في عنفوان مجده ، ضحية داء عضال . صرعه بعد اثني عشر يوماً مقيتاً .
وكانت عشتار هي التي أرسلت إليه داء الموت ..
ملأ الحزن قلب جلجامش ، وبدت له صورة الموت بشعة مخيفة . وراح يفكر في وسيلة للفرار من المصير المحتوم ..
وبلغ به التفكير إلى شخص واحد عزيز ، لا يستطيع الموت أن يقرب منه . إنه جده الأكبر شمس نيشتين الخالد الذي يعرف سر الخلود .
وقرر جلجامش أن ينطلق للبحث عن المكان الذي يقيم فيه شمس نيشتين . ولو اضطره البحث إلى التطواف حول الأرض ..
وانطلق جلجامش في طريقه للوصول إلى أول الأرض حيث تغرب الشمس . وبعد أن قطع في الجبال والسهول مسيرة أيام ، بلغ جبلاً ضخماً تقف دونه حيوانات ووحوش ، لم تأذن له بالمرور إلا بعد أن سلط عليها الإله سن رب القمر قدرته فاستسلمت للنوم . واجتاز جلجامش الجبل المهول ليقف عند جبل آخر أكثر منه هولاً وارتفاعاً ، هو جبل الغروب حيث ينتهي الأفق الغربي بين الأرض والعالم السفلي ..
وكان يحرس الباب ماردان مهولان يلمس رأساهما قبة السماء ، ويصل ثدياهما إلى أعماق الأرض ..
واقترب منهما جلجامش ، وعلى وجهه تتمثل كل ألوان الرعب والخوف وأوقفه الماردان يسألانه عما يريد باقترابه من بداية العالم السفلي . وأجابهما جلجامش بأنه يريد الوصول الى حيث جده الأكبر ، شمس نيشتين ..
ونصحه الماردان بالعودة . فقد كانا يعلمان أن سر الخلود لا يمكن أن يصل إليه واحد من البشر . ولكن جلجامش راح يتوسل إليهما وهو يبكي ، ورق له قلباهما ، وسمحا له بالمرور .
وسار جلجامش إثني عشر ميلا داخل نفق غارق في الظلمة . وعندما وصل إلى نهايته كان النور قد بدأ يشرق ، ووجد نفسه أمام شاطئ بحر عظيم ، ينهض فوق مائه عرش سبتو العذراء ، ربة البحار .
وناداها جلجامش وهو يطلب منها أن تعينه على عبور الماء ، فرفضت ربة البحر . وراح يبكي ويتوعد ، وينذر الربة بأنه إذا لم يفلح في الوصول إلى جده شمس نيشتين فسيلقي بنفسه من فوق قمة الجبل ليموت . وأشفقت عليه سبتو ، وسمحت له باجتياز البحر في قارب يقوده واحد من خدامها الأمناء ..
وبدأ جلجامش رحلة طويلة مرعبة ، استغرقت من الأيام والليالي أربعين ، وجد نفسه في نهايتها يقف أمام جزيرة صغيرة ، هي التي يقيم فيها شمس نيشتين ، المخلد أبد الدهر ..
عجب شمس نيشتين عندما رأى جلجاميش يقترب من الجزيرة وكان البطل في ذلك الوقت قد سقط في القارب فريسة داء عضال . فراح يتوسل وهو في رقدته إلى جده الأكبر أن يمنحه سر الخلود الذي اجتاز من أجله كل هذه المخاطر والأهوال .
وهز شمس نيشتين رأسه ، وراح يقول له:
- إن الموت هو نهاية كل بشري . وإنه لمحرم على إنسان أن يعرف سر الساعة التي تنتهي عندها حياته . ففي السماء تجلس آلهات القدر تغزل خيوط الحياة لكل إنسان وترسم نهايته . ولكن متى ينتهي الغزل الخاص بحياته ؟ . وفي أي ساعة ؟ هذا ما لا يدريه أحد قط . حتى الغازلات أنفسهن ..
وأجاب جلجامش :
- أنا لا أريد تعديا على سلطان الآلهة . ولكني أعجب لماذا تخلد أنت وأموت أنا . على حين أن مظهري لا يختلف عن مظهرك ؟ . إنني اشبهك تماما . ولست أكثر مني حكمة ولا أرجح عقلاً . ولي قلب مثل قلبك جريء قوي . فكيف تدخل أنت مجمع الآلهة ولا أدخله أنا .. كيف تجد سر الخلود ولا أجده أنا ؟ ..
ولم يجد شمس نيشتين لكي يقنعه سوى أن يقص عليه قصة الخلق والطوفان والخلود .
وعندما انتهى شمس من قصته . كان جلجامش قد سقط من اليأس والإعياء في أعماق قاربه .
وتألم شمس نيشتين وأشفق على حفيده ، ووعد أن يعيد إليه صحته ويشفيه .
ونام جلجامش ستة أيام وسبع ليال . وخلال نومه العميق كانت زوجة شمس نيشتين تمتلئ عطفا عليه ورحمة ، وتطلب في النهاية من زوجها أن يرده سالماً إلى ابنته ..
واستجاب شمس نيشتين لرجاء زوجته . وطلب منها أن تحضر له مادة سحرية تحتوي على سبعة عناصر مقدسة ، قطرها بين شفتي جلجامش النائم في أعماق قاربه ..
ومرت أيام ستة وفي اليوم السابع ، عندما استيقظ جلجامش عاد يطلب من جده الأكبر سر الخلود .
وأذن له شمس بالنزول إلى الشاطئ ثم أرسله إلى ينبوع ماء ليزيل عن نفسه مفاسد حياته الماضية . وتطهر جلجامش بالماء المقدس ، ثم عاد مرة أخرى إلى جده وقد أيقن أنه سيمنحه سر الخلود ..
وهذا ما حدث . فإن شمس نيشتين أخذ بيد البطل إلى حيث يجد نبتة الخلود .
وكانت هذه النبتة القدسية التي تعيد الشباب وتمنح الخلود لمن يأكلها نوعاً من حشائش زاحفة ، ذات أشواك تدمي من يحاول جمعها .
وحصل جلجامش على النبتة ، وطلب من جده أن يسمح له بالعودة إلى أوروك ..
ادرك جلجامش في النهاية ان لا مفر من الموت وان الخلود الحقيقي هو ما يتركه المرء ورائه من منجزات واعمال وهكذا بدأت رحلة العودة ، في القارب القدسي ، الذي يقوده ملاح سبتو المخلص ، ويحميه طوال الطريق .
وقطع جلجاميش من الطريق الأول ما مقداره ثلاثون قسمة . وعندما بلغ ذلك المكان وجد جزيرة صغيرة في وسطها بئر ، قال له الملاح أن به ماء عذبا يغري بالاستحمام .
وخلع جلجامش ملابسه .. وهبط في البئر يستحم ..
ولم يكن جلجاميش يدري أن ثمة حية رقطاء كانت ترقد إلى جوار المكان الذي خلع فيه ملابسه ، شمت رائحة النبتة القدسية فتقدمت منها ، وانقضت عليها في لحظة ، ثم اختفت .
وصرخ جلجامش إذ وجد نبتة الخلود تضيع ، وعاد يبكي كطفل ، وجرت الدموع على خديه شقية مدرارة ، ولكنه لم يكن يستطيع أن يفعل شيئا ..
واستأنف جلجامش رحلته حزيناً نحو الأرض . وعندما بلغ أوروك راح يطوف بالهياكل ، ويدعو الآلهة أن ترد الحياة لأنكيدو ولو للحظة واحدة يكلمه فيها .
وبرغم القرابين التي راح يقدمها للآلهة سن ومردوك .. إلا أن أحداً منهم لم يستجب له .
وذهب جلجامش آخر الأمر إلى الإله آى . فعطف عليه وأمر رسوله نرجيل أن يحضر له روح أنكيدو العزيز .
وانشقت حفرة في الأرض . وانطلقت من خلالها روح أنكيدو كنفحة الطيب . وراح جلجامش يحدث صديقه:
- أخبرني يا صديقي عما رأيته . فما عدت أستطيع الخلود على ظهر الأرض ، وسأنطلق عاجلاً أو آجلاً حيث تقيم . فما الذي تراه هناك حتى أستعد له .؟
وأجاب أنكيدو :
- لا أستطيع أن أخبرك بسر العالم السفلي .
وبكى جلجامش .. وراح يلح على صديقه أن يجلس إليه ويحدثه . ورق له روح أنكيدو . فراح يحكي له قصة الأهوال في أرالو . وكيف تجري الأمور في العالم السفلي ..
قص أنكيدو كيف ينام الشهيد الذي يقتل في المعركة . إنه يرقد على السرير ، ويشرب الماء النقي ، تحيط به أمه وأبوه وأبناؤه وزوجته . أما الرجل الذي يموت وجثته ملقاة في الحقول لا تجد من يقيم على جسده مراسيم الدفن بعد الوفاة .. فليس له إلا اختيار طعامه من النفاية والأقذار التي يلقيها الآخرون .
وختم أنكيدو حديثه وهو يقول:
- لقد مت شهيداً .. فسعدت في العالم السفلي . أمامك الآن الخيار
وفي لحظة انشقت الأرض من تحت أنكيدو فتلاشى . أما جلجامش ، فقد راح يطل حوله ذاهلاً ، ثم خر على الأرض وقد ملأته الحيرة بين الرغبة في الموت والرغبة في الحياة ..