قصة المعلمة الطيبة و شبح الغراب


بالقرب من شاطئ جزيرة سانت سيمونز الأمريكية و بمحاذة الطريق السريع يقبع لوح من الرخام على الأرض تكسوه الحشائش و قد نُحت عليه عبارة "المعلمة المحبوبة" ، حيث يتداول سكان الجزيرة قصة معلمة تم إعدامها ظلماً بتهمة السحر و الشعوذة..

تعود القصة إلى ما قبل 200 عام و تحديداً في بداية القرن 19 ، عندما قرر ملّاك مزارع الأرز أن يستأجروا معلم لتعليم أطفالهم في المدرسة التي تم بناءها بالقرب من الغابة ، و بعد بحث طويل وجدوا ضالتهم في ولاية أوهايو عندما قبلت السيدة مارجريت عقد العمل و قررت السفر إلى تلك الجزيرة ، فهي تعشق السفر و قد سافرت في رحلات كثيرة بين أوروبا و أمريكا.

على الجزيرة أستعد الأهالي لاستقبال المعلمة الجديدة بتزيين المدرسة و تحضير الطعام و الشراب . و في المرفأ حضر العمدة و أعيان الجزيرة برفقة بعض الأهالي لاستقبال السيدة مارجريت و قام العبيد بنقل أغراضها و حقائبها إلى منزلها الملاصق للمدرسة و هناك شرح لها العمدة طبيعة عملها و أكد عليها أن التعليم حصراً على أولاد الأعيان و ملاّك المزارع دون أولاد العبيد الكادحين فهؤلاء ليس لهم الحق بشيء سوى العمل بالحقول و خدمة أسيادهم. اعترضت مارجريت على كلام العمدة و نشب بينهما خلاف شديد فتدخل أحد الحاضرين و قدم اقتراح أن تقوم المعلمة بتدريس أبناءهم بالصباح و تعليم أولاد العبيد بالمساء ، فوافقت مارجريت على هذا الاقتراح ، و قبل أن يغادر العمدة المدرسة أخبرها أنه لن يدفع لها المال مقابل تعليمها لأولاد العبيد.

أستمرت مارجريت بتعليم أطفال الأغنياء بالنهار و في المساء كانت تقوم بتعليم أطفال الفقراء و العبيد على ضوء الشموع و الفانوس الصغير المتدلي من سقف غرفة السقف ، لقد كانت السيدة مارجريت بالنسبة لهم ذلك المصباح الذي ينير الطريق وسط ظلمات العبودية و القهر ، وبالبرغم من عملها المتواصل ليلاً و نهاراً إلا أنها استمدت الإصرار و روح المثابرة من جوشوا ، الصبي الأسمر الذي رغم ظروفه الصعبة و حياة العبودية التي يعيشها إلا أنه لم يتغيب يوماً عن أي درس من دروسها المسائية ، و لشدة شغفة بالعلم كان يتسلل نهاراً خلسةً إلى نافذة الصف حيث يسترق السمع إلى القصص و القصائد التي كان مارجريت تلقيها على الطلاب ، لقد كانت مارجريت تلمحه أثناء تلصصه عليها و تتعمد رفع صوتها حتى يسمع ما تقول ، و في أحد الأيام نادته بعد انتهاء الدرس و قالت له : "أرى أنك تحب العلم و تعشق الشعر فما هو السر وراء هذا الشغف ؟ و كيف توفّق بين تعليمك و عملك في حقول الرز ؟".

فأجابها جوشوا : "كما ترين فأنا عبد و التعليم هو مفتاح تحرري من هذه العبودية ، أما عملي بالحقول فسيدي رجل طيب و يسمح لي بمغادرة الحقل باكراً " .. ثم أبتسم و أنطلق للعب مع الأطفال.

جلست مارجريت تفكر فيما قاله جوشوا ، و كيف أن الظروف الصعبة قد تشكل شخصية الإنسان و تجعله ينسى طفولته و يتحدث بحديث أكبر منه ، ثم ضحكت و قالت في نفسها : ربما يصبح لهذا الصبي الصغير شأن عظيم بالمستقبل فالعظماء و المخترعون كانوا فقراء معدمين .

بعدها تغيب جوشوا عن الدراسة لعدة أيام و افتقدته مارجريت و تسألت عن سبب تغيبه عن الدراسة و تفاجأت بخبر مقتل جوشوا أثر نزاع عنيف دارت أحداثه على الجزيرة ، فبعد مقتل أحد ملاك الحقول على يد أحد العبيد بحقل الأرز قام الرجال البيض بالقبض عليه و شنقه و لم يشفي ذلك غليلهم و تجمعوا بالمساء حاملين الفؤوس و المشاعل و هاجموا أكواخ العبيد و كانت ليلة مرعبة حيث قُتل عشرات العبيد و أُحرقت أكواخهم ، و من بيت تلك الأكواخ كوخ جوشوا الذي حطم المهاجمين بابه و اقتحموه و قاموا بالاعتداء على أسرته ، بينما كان جوشوا يراقب ما يحصل برعب من خلال شق بالستارة و شاهد منظر الدماء و لكنه أستجمع شجاعته و حاول الدفاع عن والدته التي حاول أحد المهاجمين الاعتداء عليها ، لكنه تعرض لضربة فأس مباغته على رأسه و قُتل على الفور فيما قام المعتدون بأحراق كوخه كما فعلوا بأكواخ العبيد الأخرين.

حزنت مارجريت عند سماعها بما حصل لجوشوا المسكين و أصيبت بالاكتئاب و لم تعد تكلم أحد إلا أثناء تعليمها للأطفال و صارت تذهب إلى الغابة و تقضي وقت طويل بالتأمل.

و في أحد الأيام و بينما كانت عائدة كالعادة من الغابة شعرت بمن يراقبها و سمعت صوت رفرفة فوقها و نظرت إلى السماء فرأت غراب ضخم يحلق فوقها ، و كأنه يتتبعها ، تكرر هذا المشهد عدة مرات و نشأت علاقة ودية بين مارجريت و ذلك الغراب و صار الغراب يرافقها في طريقها حتى تصل إلى المدرسة ، حتى أن ذلك الغراب أصبح يزورها في المدرسة و يقف على النافذة و كأنه يستمع للشرح ، تذكرت مارجريت صديقها الصغير جوشوا ، و كيف كان يتلصص عليها من النافذة لسماح القصائد الشعرية . و بعد انتهاء الحصة اقتربت مارجريت من ذلك الطائر و قرأت عليه بعضاً من القصائد و لاحظت تفاعله معها بطأطأة رأسه.

أصبح الغراب يأتي كل يوم و هي تقوم بقراءة القصص و الشعر له ، حتى جاء اليوم الذي عاد فيه طالبان إلى المدرسة من أجل استعادة أغراضهم التي تركوها هناك و قد شاهدوا المعلمة مارجريت تتحدث و تضحك مع الغراب و أسرعوا بالعودة إلى أهاليهم ليبلغوهم أن معلمتهم ساحرة و تلقي التعويذات على الغراب ، راقب الناس تحركات مارجريت و فعلاً وجدوها تجلس مع ذلك الغراب ، و بتحريض من العمدة و بعض الأغنياء المعترضين على تعليمها لأطفال العبيد ، قامت الشرطة باقتحام المدرسة ليلاً و اعتقالها ، و بالرغم من عدم وجود الأدلة الكافية لأدانتها سوى حديث الناس عن تحدثها مع الغراب فقد حُكم عليها بالإعدام بتهمة ممارسة السحر في محاكمة سريعة و لم تعطى لها فرصة الدفاع عن نفسها.

رغم بكاءها و توسلها فقد تم إعدامها شنقاً و تركت جثتها معلقة على الشجرة و مُنعت من الدفن في مقبرة الكنيسة بحجة أنها ساحرة و سوف تدنس المقبرة ، لكن أشفق على حالها أحد الأغنياء و قام بدفنها بأرض تقع ضمن مزرعته و وضع على قبرها لوح من الرخام و قد نُقش عليه عبارة المعلمة المحبوبة.

بعد هذه الحادثة بأشهر لأحظ الناس أن النباتات و الأعشاب لا تنمو على قبرها ، مما عزز شكوكهم أنها كانت ساحرة فيما أصر البعض على أنها كانت أمرأة صالحة حاولت تعليم الأطفال و رفضت نظام العبودية التي كان قائماً في ذلك الوقت مما تسبب لها بالكثير من المتاعب حيث تأمر العمدة و من معه من الأغنياء و لفقوا لها تهمة السحر ليتخلصوا منها كونها شكلت تهديداً لمجتمعهم حسب اعتقادهم لأن تعليمها لأولاد العبيد ربما يدفعهم للمطالبة بالحرية.

و منذ ذلك الحين أصبحت قصة تلك المعلمة المسكينة التي دفعت حياتها ثمنا لرفضها لتقاليد ذلك المجتمع المنغلق من القصص الفلكلورية لتلك الجزيرة و يتناقلها الناس جيل بعد جيل .

ربما كانت قصة المعلمة مارجريت مجرد قصة فولكلورية لا أساس لها من الحقيقة كون الأسماء التي في القصة بدون ألقاب بالرغم أن شاهد قبر المعلمة المحبوبة لا زال موجود إلى يومنا هذا بالقرب من طريق لورنس في شمال تلك الجزيرة وقد كسته الأعشاب والنباتات.

جزيرة سانت سيمونز : جزيرة واقعة بالقرب من شواطئ ولاية جورجيا الأمريكية.

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك