قصة الجرادة و العصفور حكاية شعبية تونسية


انتهيت من سقاية نباتات جدتي التي في فناء البيت , و هممت مولية فشدني نتوء غريب على إحدى وريقات نبتة الحبق , أمعنت النظر فيها فإذا بها جرادة صغيرة لامعة الاخضرار كأنها لتوها فقست من بيضتها , بدت علي علامات الدهشة مما أثار انتباه الجميع فتقدمت جدتي و أمسكتها بين أصابعها و لوحت بها للأطفال الصغار قائلة : ها هي ذي زوجة العصفور , فصاح جميعهم بصوت واحد : أعيدي حكايتها لنا يا جدتي .

كان في سالف العصر و الأوان وفي مدينة من مدن ذلك الزمان رجل فقير يلقب " العصفور " يعيش مع زوجته الملقبة " الجرادة " في كوخ صغير في الضواحي , كانت الجرادة مستاءة جداً من كون زوجها عاطلاً عن العمل فكانت تقوم بترقيع الملابس لتحصل على بعض المال .

و في أحد الأيام خرجت الجرادة للسوق ثم عادت ساخطة على حال زوجها و خاطبته قائلة : ما هذا الكسل يا عصفور , اذهب و ابحث عن عمل فلو كنت عاملاً لما احتجت أنا إلى ترقيع ملابس الآخرين , فقال لها متململاً : و كيف يا جرادة في هذه الظروف الصعبة , فقالت : الأمر سهل جداً , فقد مررت و أنا سائرة في السوق برجال يرتزقون و بطريقة أسهل مما تتصور ..

و أشارت المرأة على زوجها أن يأخذ كيساً مليئاً بالرمل و يضعه أمامه و يفرك فيه بيديه فسيتجمع الناس حوله أفواجاً يريدون أن يعلمهم بمستقبلهم و يرى سعدهم , أعجب العصفور بالفكرة و قرر أن يجرب , فأخذ كيس رمل كما أشارت زوجته و اتجه إلى السوق و أخذ يفرك في التراب و ينتظر أن يقصده الناس , فواحداً بواحد بدأ الناس يتجمعون .

دخل عراف على كبير العرافين و قال : سيدي الكبير أود أن أعلمك بأمر خطير , هناك عراف جديد ليس من مجموعتنا يجلس في وسط السوق و قد تجمع حوله جمع من الناس غفير , و أنا أخشى يا سيدي أن يسلبنا حظوتنا و يطير بمكانك , فانتفض العراف من مكانه و قال مزمجراً : و أين هو ؟ .

برح الزعيم مكانه و راح يراقب العصفور عن بعد , و كان العصفور قد بدأ يرتاح للوضع و تطمئن له نفسه , و كانت السعادة بادية على وجهه و هو يرى تلك الدنانير تنهمر عليه , و عمله كما قلنا آنفاً أن يفرك الرمل الذي أمامه مدعياً أنه يرى من خلاله المستقبل و حظوظ الزبائن .

و كعادة ذلك الزمن كان الناس شديدي الشغف حيال هذه الأمور , بل مازالت هذه العادة إلى الآن , بدأت رغبة الزعيم تنموا في كسب هذا المقامر الجديد إلى صفه بما رأى له من شعبية في وقت وجيز , فراح يفكر في طريقة لاختباره و بينما هو كذلك إذ وقعت عينه على عصفور صغير يطارد جرادة و هنا راودته فكرة .

ترك الجرادة تمر و عرض ببرنسه للعصفور فأمسكه فيه , و سار حتى كان واقفاً أمام الرجل الذي ظنه زبوناً جديداً ففتح كيس رمله , لكن العراف الزعيم استوقفه قائلاً : لا .. لا , لم آتي لهذا السبب , لكن أعتقد أنك يا عزيزي ترى أن عمل هذا بالسهولة , كان العصفور يحدق في الرجل تحديقاً غبياً , فأضاف قائلاً : أنا زعيم العرافين في هذا السوق , و بما أنك اقتحمت منطقتي الخاصة دون إذني فإنك استحققت العقاب , ذعر العصفور لسماعه هذه الكلمات و فكر في زوجته الجرادة التي ورطته في هذه المشكلة , فأضاف العراف قائلاً : لكنني سأخضعك إلى اختبار فإن نجحت فيه عددتك عرافاً كفؤاً و دعوتك للانضمام إلى مجموعتي , و إن فشلت .. و تغيرت ملامحه إلى غضب و حنق شديدين : فسأسحقك كالذبابة

لم يستطع العصفور أن ينطق كلمة واحدة لشدة خوفه , فلوح الزعيم بالبرنس في يده قائلاً : خمن ماذا يوجد داخله , دارت الأرض به الفضاء و امتقع لونه وغار نفسه , و لأن العصفور كان يتمتم بكل ما يفكر به , تمتم قائلاً و هو يفكر في زوجته التي أوقعته في مشاكل كان في غنى عنها : لولا الجرادة ما وقع العصفور , ليلتفت إلى كبير العرافين فيجده فاغراً فاه تعقد لسانه الدهشة , و رمى بيديه على كتفي العصفور يهزهما و هو يقول بانفعال : أحسنت .. أحسنت , ما كنت أحسبك لتحل لغزي و لكنك علوت توقعاتي , و إكراماً لك سأعطيك مكاناً في مجموعتي التي تسيطر على السوق .

فعلاً كان حظ العصفور رائعاً و حصل على تقدير زعيمه , و كان يعمل من شروق الشمس حتى إذا حان الغروب اجتمع و كل أفراد المجموعة إلى الزعيم حيث يقتسمون ما يجنون من مال و كان وفيراً , و كانت الجرادة زوجة العصفور تفخر أشد الفخر أمام جاراتها بآرائها الصائبة كما تقول , و قد تركت ترقيع الملابس و ارتاحت في بيتها و كانت هذه المرأة عاقراً لا تنجب , و مع ذلك فإن زوجها لم يتركها و لم يتذمر من حالتها , و كان هذا الرجل أعني العصفور رجلاً بسيطاً إلى حد الغباء , بينما لم تكن الجرادة امرأة حادة الذكاء و لكنها كانت مدبرة جيدة .

استتب الأمر للعصفور وقتاً يقدر بالشهور لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السَّفِنُ , ففي صبيحة يوم بارد أعلن الملك خبر سرقة مست أموال دولته و استدعى كل عرافي تلك البلاد ليكشفوا له بما يدعون من خوارق عمن ارتكب هذه الجناية الفظيعة , و قطع الملك في تلك الصبيحة كثيراً من الرؤوس , و هدد بذلك كل عراف لا يأتيه بالخبر اليقين , حتى جاء الدور على كبير العرافين ذاك و كان لا يعرف شيئاً , إنه الآن في ورطة حقيقية و لكن له من الخبث و المكر ما يمكنه من الخروج منها بشكل لعين و أن يقحم يقحم فيها شخصاً آخر قال عنه للملك أنه كان يستحق لقب الزعيم منذ وقت طويل , و قد عفا عنه الملك بذلك , و قام باستدعاء العصفور .

كلنا نرغب أن نعلم ما الشيء الذي سيقدمه هذا الرجل , و لكن هذه المرة ليست ككل مرة , إنه الملك و العبث مع الملوك أمر لا تحمد عقباه , و كان العصفور يعلم أكثر من غيره أنه لا يملك أية أثارة من علم , لكنه أراد أن يناور و ليكسب وقتاً و لو كان قصيراً في الحياة , فألقى إلى الملك أنه قادر على أن يأتيه بضالته , على أن يمهله أربعين يوماً كاملة و يعطيه تسع وثلاثون دجاجة سمينة و ديك , فما ذا يا ترى سيقدم لنا العصفور , تسع وثلاثون دجاجة و ديك ؟ ما هي الحيلة العظيمة التي يدبرها هذا الرجل البسيط .

لكن العصفور كالعادة سيخون توقعاتنا , فإنه ما كان يدور في خلده شيء و هو يعلم أنه سيموت عاجلاً أو آجلاً فأراد أن يمنح لحياته أربعين يوماً أخرى يتناول في كل يوم منها طبقاً لذيذاً من تلكم الدجاجات و الديك الذي سيتوج العشاء الأخير , مسكين الملك إنه ينتظر شيئاً عظيماً .

أرسل زعيم العصابة و كانوا تسعة و ثلاثين فرداً بالإضافة إليه , واحداً يستطلع الأوضاع في المدينة و فور أن علم بقصة الملك مع العصفور عاد لزعيمه فأرسله ثانية للتنصت على دار العصفور , كان العصفور يتناول عشاءه و فور أن أنهاه تنهد و قال : هذا واحد من الأربعين حصل , مشيراً إلى اليوم الذي انقضى , لكن اللصوص لم يكونوا يعرفون بقصة المهلة , فظن رسولهم أن الرجل يقصده بكلامه , فارتجف و تملكه الخوف وعاد مسرعاً إلى المكمن أين زعيمه يصب في مسامعه الخبر

لكن الزعيم لم يصدقه تماماً , فأسل في الليلة التالية عضواً آخر ليتجسس على العصفور في عقر داره , فسمع كما سمع الذي سبقه : هذا ثاني الأربعين حصل , ليعود هذا الأخير و يخبر الزعيم بما سمع , ليرسل الزعيم ثالثاً , ليسمع كما سمع سابقاه : هذا الثالث من الأربعين حصل , و ظل الرعب مسيطراً على أفراد العصابة و هم يتداولون عليه واحداً بواحد , حتى أتى دور الزعيم و قرر أن يذهب بمفرده ليجس الأمور , كان العصفور هذه الليلة قد أنهى عشاءه الأخير المكون من الديك بشكل رئيس و كذلك قضى يومه الأربعين و انتهت مهلته و غداً سيقُطع رأسه لا محالة , قال و هو يتنهد بحزن : هذا رأس الأربعين حصل , ذعر زعيم العصابة و تراجع خطوات حذرة , لقد تعرف العصفور عليه , إنه في موقف لا يغبط عليه و لا يمكن أن يخلصه منه أحد , إلا إذا أراد أن يتصرف بكياسة , و يفدي حياته .

صباحا أتى جنود الملك لاصطحاب العصفور , خرج من بيته و كله ثقة , كان يمشي كأنما على رأسه قبعة من ريش النعام مما أثار تعجب كل الناس و أحاطت به كل العيون تتبعه و ما إن رأى قصر الملك حتى استحالت ثقته خوراً و استحال تبختره وهناً في أطرافه .

- هيا يا عصفور هات ما عندك فقد انتهت مهلتك , قال الملك

فصد جبينه عرقاً , و ابتلع ريقه بصعوبة و قال بصوت خافت مترجرج : لعل سيادتكم لا تمانعون إن رحتم بصحبتي إلى المكان الذي فيه كنزكم .

فاتسعت عينا الملك و تهلل و جهه وقال : و هل عرفت أين هو ؟

راح العصفور برفقة الملك و حشد كبير من الجنود حتى كانوا في قفر من القفار , و تحت صخرة كبيرة جاثمة أمر الجند أن يحفروا كما أشار عليه العصفور , حيث أكياس كبيرة منتفخة بدأت تظهر فسارع الملك إلى فتحها , فإذا بالذهب و المجوهرات تتلألأ فيها , إنه كنزه بعينه .

تتساءلون كيف ذلك , بالتأكيد ليس من كياسة العصفور في شيء , كيف و لا يوجد في رأسه إلا الرمل , و لكن في الليلة السابقة حدث شيء عجيب .

كان صوت طرق الباب لا يكاد يسمع , لولا يقظة الزوجة و فطنتها , فأيقظت زوجها من نومه , ففتح الباب و خرج , دون أية احتياطات في لحظة حرجة كهذه , ليجد أمامه أربعين رجلاً لا يوحي مظهرهم بشيء , تقدم إليه واحد منه يبدو أنه كبيرهم و هوى راكعاً يستجدي العفو و الصفح و فعل من كان معه كما فعل , جثى زعيم العصابة على ركبتيه قائلاً : أرجوك يا سيدي اصفح عنا و لا تفشي سرنا .

و كالعادة يحدق العصفور تحديقه الأبله ذاك , ليستأنف الرجل الحديث بصوت خافت : مستعد يا سيدي أن أصب كل ثروتي بين يديك , لكن ارحمني و لا تشي بي إلى الملك أرجوك , و لم يفهم العصفور كلامه فسحبته الجرادة من أهدابه و قالت في أذنه بصوت لا يكاد يسمعه سواها و من حسن الحظ أن العصفور سمعه , قالت بحنق : إنهم العصابة يا عصفور .. العصابة التي سرقت الملك , يقولون أنهم سيدلونك عن مكان السرقات , تظاهر بالقوة من فضلك , فنفخ العصفور صدره و نظر للرجل المتوسل نظرة تعالي :

- و أين السرقات الآن ؟

- سأخبرك بكل شيء , و اذهب و خذ كنزك , و لكن دعنا و شأننا و لا تشي بنا , فإنا سنغادر المدينة بل البلاد كلها إلى الأبد و لن ترى وجوهنا بعد هذا

و هكذا اتفق العصفور مع رئيس العصابة الذي دله على مكان الكنز , تتساءلون لماذا وفى رئيس العصابة بوعده بينما كان بإمكانه أن يغدر بالعصفور , و يوقعه مجدداً في ورطة مع السلطان ورطة تطير برأسه , و السبب أن الناس في ذلك العصر السحيق كانوا يخافون خوفاً شديداً من العرافين و الزعيم آنذاك كان يعتقد أن الرجل الذي عرف عدد عصابته و مكمنها يعرف بطبيعة الحال أين الكنز حتى لو غير مكانه , فأراد أن يظهر له نفسه مظهر الطيب ذي النية الحسنة لعله على الأكثر يغنم حياته , و العصفور كالعادة لا يفكر بشيء إطلاقاً فثقته في هذا اللص كانت عمياء و لكن الحظ كان حليفه .

أصبح العصفور ذو مكانة كبيرة عند السلطان و حاشيته الذي جعل منه مستشاره الخاص , و أعطاه و زوجته جناحاً في القصر , جناحاً فخماً يليق بمكانه كما يعتقد السيد الملك , و لم يزل الحظ حليفاً للعصفور في قصر الملك , و مرة ثالثة تجري الرياح بما لا تشتهي السًّفِنُ , فقد زار الملكَ ملكُ البلاد المجاورة و الذي كان صديقاً و حليفاً له , زاره رفقة وفد كبير من حاشية و وزراء , و كان ملكنا شديد الاعتداد بمستشاره الجديد " العصفور " الذي قد كان أثنى عليه في رسائل عدة وجهها إلى حليفه , فأتى هذا الأخير معرباً عن رغبته الجامحة في التعرف على هذه الشخصية الفذة و الحادة الذكاء , محملا بكثير من العطايا التي كانت تجعل عيني الجرادة و العصفور تتلألآن .

لكن هذا الملك لم يكن كأي ملك , فقد كانت له فراسة الصقر و شجاعة الأسد و عطاء الأرض و من العلم دهر و من الحلم بحر , و كان قد حضّر اختباراً يختبر به العصفور , فوجه إليه الكلام قائلاً : لقد سمعت عنك من ملكك ما يملأ نفس المكتئب سروراً , و يرد الوضيع وقوراً , و أنا شاكر لك عملك و جدك , فاحمر وجه العصفور و نفخ ريشه فخراً بكلام الملك الموجه مباشرة إليه , و لم يلبث أن انقبض و غص صدره عندما سمع التالي , واصل الملك الحديث :

و إني حضرت لك اختباراً يليق بمكانك , و أمر جنوده فدخلوا بثلاثة براميل كبيرة , و أردف الملك قائلاً : أريدك يا سي - و تعني سيد - العصفور أن تحزر ما في هذه البراميل الثلاثة المغلقة , اسود وجهه و أظلمت عليه الدنيا و ارتعدت أطرافه و هو يرى سيده الملك محمراً وجهه سرورا به و ثقة فيه , و زوجته الجرادة التي تعض على أناملها من الخوف , و ملك البلاد المجاورة الذي ينظر إليه متحدياً , و اتجهت إليه كل العيون تنتظر الجواب بشغف بالغ .

لقد حوصر تماما , ماذا يفعل ؟ هل تخلى عنه الحظ بعد أن سكنت له نفسه و في أشد ما يكون حاجة إليه ؟ , فهو كذلك يفكر في بداية دخوله هذه المهزلة , فمن حادثة الجرادة و العصفور التي كانت في سهولتها كالعسل , ثم حادثة كنز الملك المسروق التي كانت في احتدامها حامضة كالخل , و أخيراً هذه الحادثة الثقيلة السوداء كالقطران , و هو كالعادة رجل يتمتم بكل ما يفكر فيه , فتمتم متنهداً متحسراً : الأولى عسل , و الثانية خل , و الثالثة قطران , و لم يفق إلا على يد الملك تضرب كتفه و وجهه متهلل تهلل البدر : أحسنت .. أحسنت , علت التصفيقات و الزغاريد , و انهمرت عليه التهاني من كل حدب , و صافحه الملك و هنأه على نفسه و هنأ عليه ملكه , و أجزل له العطايا , و هو نفسه لا يصدق نفسه و كأنه في غيبوبة , تنهال عليه تهاني الوزراء و إطراءاتهم , و طلب منه الملك زيارته في مملكته , و كانت زوجته الجرادة أكثر ما يكون فخراً بنفسها أمام بقية النساء فقد غدى زوجها الغبي من الحاشية الملكية و أكثر ما يكون منهم إلى الملك قرابة .

و بفضل الجرادة - و الحظ أولى - حظي العصفور بمكانة لا ينازعه فيها أحد عند ذي ملك و رياسة و لم يزل الحظ حليفه إلى آخر لحظات حياته , و من يدري .. قد يأتي يوم يصبح فيه هو ملك البلاد بأسرها .

و حكاية الجرادة و العصفور هذه إحدى الحكايات الشعبية التونسية , ورثها عنهم المهاجرون الجزائريون في أيام الاحتلال الفرنسي و هم أولاء يروونها لأبنائهم و أحفادهم يتناقلونها كابراً عن كابر , و لا أدري إن كانت هذه القصة لا تزال تحافظ على شعبيتها في وطنها الأم و لكنها مع ذلك ما تزال تتمتع بحظوة لدى الأوساط الريفية أين تعايش الجزائريون مع التونسيين في ذلك الوقت .

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك