يعد هذا المثل واحدًا من الأمثال الشعبية التي تضرب في الندم ، والندم في اللغة هو الأسف ، وأن تقول ندمت على كذا أي أسفت عليه ، وكان الرسول صل الله عليه وسلم يقول الندم توبة ، وأندم على وزن أفعل وهي صيغة مبالغة من ندم
والكسعي هو رجل من الجاهلية يدعى محارب بن قيس من كسعة وهو حي من قيس عجلان ، وقيل هو حي من اليمن أصحابه رماة للقوس ، وللكسعي قصة يضرب بها المثل في الندم
قصة المثل :
يُروى أن الكسعي كان له إبل يرعاه في واد فيه شجر، وبينما هو سائر لفت نظره شجرة راقت له ، وقال في نفسه لأصنعن لنفسي قوسًا من تلك الشجرة ، وظل يتعهدها ويرصدها في كل يوم حتى استوت فقطعها ، وبعد ذلك جففها وصنع منها قوسًا شديدًا ثم دهنه وألحق به وترًا ، وصنع خمس سهام من برايتها
وكان يقول وهو ينحت قوسه :يَا رَبِّ سَدِّدْنِي لِنَحْتِ قَوْسِي
فَإِنَّهَا مِنْ لَذَّتِي لِنَفْسِي
وَانْفَعْ بِقَوْسِي وَلَدِي وَعِرْسِي
أَنْحَتُهَا صَفْرَا كَلَوْنِ الْوَرْسِ
كَبْدَاءَ لَيْسَتْ كَالقِسِيِّ النُّكْسِولما هم ببري الأسهم الخمسة قال :هُنَّ وَرَبِّي أَسْهُمٌ حِسَانُ
يَلَذُّ لِلرَّامِي بِهَا البَنَانُ
كَأَنَّمَا قَوَّمَهَا مِيزَانُ
فَأَبْشِرُوا بِالْخِصْبِ يَا صِبْيانُ
إِنْ لَمْ يَعُقْنِي الشُّؤْمُ وَالْحِرْمانُوأراد الكسعي أن يجرب رمحه الجديد فخرج على مكان تسعى به الحمير الوحشية وشدد قوسه ورمى سهامه وهو يقول :أَعُوذُ بِالْمُهَيْمِنِ الرَّحْمَنِ
مِنْ نَكَدِ الْجَدِّ مَعَ الْحِرْمَانِ
مَا لِي رَأَيْتُ السَّهْمَ فِي الصَّوَّانِ
يُورِي شَرَارَ النَّارِ كَالعِقْيَانِ
أَخْلَفَ ظَنِّي وَرَجَا الصِّبْيَانِفأصاب سهمه حمارًا وحشيًا من ومن قوته امتد إلى الجبل ، فلما رآه ظن أنه لم يصيب بغيته ، فرمى السهم الثاني وهو يقول :أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْ شَرِّ الْقَدَرْ
لاَ بَارَكَ الرَّحْمَنُ فِي أُمِّ القُتَرْ
أَأُمْغِطُ السَّهْمَ لِإِرْهَاقِ الضَّرَرْ
أَمْ ذَاكَ مِنْ سُوءِ احْتِيالٍ وَنَظَرْ
أَمْ لَيْسَ يُغْنِي حَذَرٌ عِنْدَ قَدَرْفحدث معه كما حدث في المرة الأولى رمى العير وظنَّ أنَّه لم يُصِبه أيضًا ، فقال :إِنِّي لِشُؤْمِي وَشَقَائِي وَنَكَدْ
قَدْ شَفَّ مِنِّي مَا أَرَى حَرُّ الْكَبِدْ
أَخْلَفَ مَا أَرْجُو لِأَهْلٍ وَوَلَدْفشدد قوسه ورَمَى السهم الثالث ، فاخترق عِيرًا منها فأصابَه ، ولكنه أيضًا ظنَّ أنَّه لم يُصِبه في هذه المرَّة أيضًا ، فقال :مَا بَالُ سَهْمِي تُوقِدُ الْحُبَاحِبَا؟!
قَدْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَكُونَ صَائِبَا
إِذْ أَمْكَنَ الْعِيرَ وَأَبدَى جَانِبَا
فَصَارَ رَأيِي فِيهِ رَأَيًا كَاذِبَا
أَظَلُّ مِنهُ فِي اكتِئَابٍ دَائِبَاوبقي معه أخر سهم ، فلما رماه حدث معه مثل ما حدث في المرات السابقة ، وظنَّ أنَّه لم يُصِبه في هذه المرَّة أيضًا ، فقال :أَبَعْدَ خَمْسٍ قَدْ حَفِظْتُ عَدَّهَا
أَحْمِلُ قَوْسِي وَأُرِيدُ رَدَّهَا
أَخْزَى إِلَهِي لِينَهَا وَشَدَّهَا
وَاللهِ لاَ تَسْلَمُ عِنْدِي بَعْدَهَا
وَلاَ أُرَجِّي مَا حَيِيتُ رِفْدَهَاومن فرط ضيقه جاء بالقوس إلى صخرةٍ فضربها حتى كسَرَها ، ثم نام إلى جانبها حتى استيقظ في الصباح ، فمشى إلى حيث كانت سهامه ، فإذا بالحمر الخمسة مسجاة على الأرض في دماءها ، فندم على كسره قوسه أشد الندم لدرجة أنه عَضَّ إبهامه فقطعها ، ثم أنشأ يقول :نَدِمْتُ نَدَامَةً لَوْ أَنَّ نَفْسِي
تُطَاوِعُنِي إِذًا لَقَطَعْتُ خَمْسِي
تَبَيَّنَ لِي سَفَاهُ الرَّأْيِ مِنِّي
لَعَمْرُ اللهِ حِينَ كَسَرْتُ قَوْسِيوقد استَشهَد بعض الشعراء بهذا المثل في شعرهم ، ومن ذلك قول الفرزدق :نَدِمْتُ نَدَامَةَ الْكُسَعِيِّ لَمَّا
غَدَتْ مِنِّي مُطَلَّقَةٌ نَوَارُ
وَكَانَتْ جَنَّتِي فَخَرَجْتُ مِنْهَا
كَآدَمَ حِينَ لَجَّ بِهَا الضِّرَارُ
وَكُنْتُ كَفَاقِئٍ عَيْنَيْهِ عَمْدًا
فَأَصْبَحَ مَا يُضِيءُ لَهُ النَّهَارُ