اللوحة من روائح القصص القصيرة للكاتب الإيطالي ألبيرتو مورافيا ” Alberto Moravia “، ولد في روما وعاش فيها كل حياته في 28 نوفمبر1907م ويعد من أشهر الكتاب الايطاليين حيث يكتب باللغتين الانجليزية والفرنسية ، ولد لعائلة ثرية من الطبقة الوسطى ، لم يقم ألبرتو بإنهاء دراسته لأنه أصيب بمرض السل مما أقعده في الفراش لمدة خمس سنوات ، وتلك الفترة ساعدته على حب المطالعة ، كتب اول مؤلفاته عام 1929م ، ثم بدأ حياته المهنية ككاتب في مجلة 900 حيث كتب أول قصصه القصيرة ، توفي عام 26 سبتمبر 1990م .
القصة :
استشار أحد تجار الكحل يدعي مرتنياتي ، بعدما وجد نفسه يمتلك سيولة مادية وفيرة ، أحد أبناء اخوته الذي له اختلاط بالأوساط الفنية ، أن يستثمر جزء أمواله في شراء لوحات ، وقد ترك الأمر لابن أخيه ، الذي جمع له مجموعة صغيرة من الأعمال الفنية ، لأفضل الرسامين المعاصرين .
لم يكن مرتنياتي ، فيما سبق أن ينفق قرشاً واحداً ، على هذه اللوحات الذي كان ابن أخيه يجعله يشتريها بأثمان باهظة ، وكان يتشبس بمنظرين اثنين ، الجمال الطبيعي والتقليد الحقيقي ، ولو ترك له المجال ليعبر عن رغبته ، لاشترى هذه المناظر الموحية ، فالشخصيات التافهة ، والفلاحات الصغيرات ، والرعاة وأطفال الشوارع ، والنباتات التي تؤكل ، والتي تملأ المحلات التجارية ، وهي التي تعتبر من اللوحات الأدنى مستوى والأكثر رواجاً ، فهى اللوحات التي تشترى من الناحية التجارية .
ومع ذلك لم يكن مرتنياتي وهو رجل جاهل ، يملك الشجاعة الكافية لمعارضة ابن أخيه ، وكان يستمر وهو يتنهد ، بحشو منزله بهذه اللوحات ، التي يجدها بالأحرى ملطخة بالألوان برعونة أكثر منها مرسومة .
الثأر المباغت : كم فكر مرتنياتي وهو يمول تلك اللوحات الفنية المزعومة ، بالثأر بغتة من قريبه المعتد بنفسه ، فكان يود أن يختار هو مرة لوحة ويقدمها لابن أخيه ، والذي كان سوف يصيح به ويهزأ به ، ولكن الأمر سيان فسوف يعلم كيف تختير تلك اللوحات ذات الألوان التي تملأ منزله .
اللوحة : ورأى مرتنياتي أخيراً ، والذي أصبح زائرا دائم ، للصالات الفنية ، ومخازن التحف أنه وجد ضالته المنشودة ، كان الأمر يتعلق بلوحة ذات مقاييس كبيرة ، وكما حدد له البائع مارك أنطونيو ، تمثل الجنرال الكبير والملكة كليوباترا ،والتي تجلس فيها الملكة كليوباترا على عرشها ، مرتدية ثوباً فخماً والجنرال منحني عند قدميها ، اشارة للارتباط العاطفي بينهما ، وترى في الخلفية قاعة كبيرة ، لها أعمدة من الرخام وقبب مغطاة بالتصاوير الجدارية ، ولم يكن مرتنياتي يقدر نبل الموضوع فقط ، بل اللوحة بذاتها .
كما فسر لزوجته أن الشخصيات بها بدت حيتين ، ماكان ينقصهما سوى القدرة على الكلام ، ودفع مرتنياتي ، دون علم ابن أخيه ثمن اللوحة ، وجعلهم يثبتونها له في منزله .
دعوة على عشاء وخلاف : بعد أن علق مرتنياتي اللوحة في مكان الشرف ، في غرفة الطعام ، قام مرتنياتي بدعوة ابن أخيه إلى منزله ، وأطلعه على ما اشتراه ، لم يلقي ابن أخيه الا نظرة خاطفة على اللوحة ، ثم سأله بكم اشتراها ؟ فلما أجابه ، رد عليه ابن أخيه قائلاً أن اللوحة لشخص فاني ، وأن ثمنها لا يتعدى حتى ثمن الإطار الموضوعة به ، اندهش مرتنياتي حيث تصور أن اللوحة ، كادت أن تنطق من كثرة مصداقية الأشخاص الموضوعين بها ، واذا كانت اللوحة بكل هذه المشاعر، لشخصين حقيقيين ، لا تساوي شيء فما قيمة هذه اللوحات الملطخة ، وغير المفهومة التي اشتراها ابن أخيه له .
رفع ابن أخيه كتفيه وقال له : أنه قد سبق وشرح له ألف مرة ، أن المهم بالرسم هو الفن ، وليس الموضوع المصور ، فشرح له مرتنياتي أن قيمة اللوحة في وجهة نظره ، أن يكون مرسوم بها شيء يمكن فهمه والإعجاب به ، وعدا ذلك فمن الأفضل ترك الجدران عارية ، واحتدم النقاش بينهما ، فقام ابن أخيه بالشرح له ماهية الرسم الجيد ، وفي النهاية نعته ابن أخيه بأنه عنيد ومتعنت وجاهل ، وذهب وسفق الباب وراؤه .
تغيير الأوضاع: وفي هذا اليوم بالذات أعلن مرتنياتي لزوجته قائلاً :هذا غير مجدي ، لن أترك نفسي مجددا أقتنع بتفضيل بقع ملونة ، غير ذات معنى ، على شخصين مثل هاذين فهما حقيقيين جداً ، لدرجة أنهما مستعدان للقفز خارج اللوحة ، وعندما التفت اليهما ، وقعت الملعقة من يده على الأرض ، حينما رأى أن الشخصان في اللوحة قد غيرا وضعهما حقيقة !! حركة شخصيات اللوحة : كان الشخصان في اللوحة جالسين ، أحدهما عند قدمي الآخر ، وكان الشيء الذي لا يصدق الآن ، هو أن مارك أنطونيو، الذي جلس بدوره على العرش قد حمل كليوباترا على ركبتيه ، ولكن الشخصين قد حافظا على جلالهما كاملاً ، طلب مرتنياتي الذي يكاد لا يصدق عينيه ، من زوجته أن تنظر الى اللوحة هي أيضا ، فنظرت وأدركت أن الشخصين قد غيرا وضعهما بالفعل !! ولكنها لم تدهش مثله وجعلته يلاحظ بفطرته السليمة ، ان الشخصين كانا حيين حقيقة ، وما هو الغريب إذا في أنهما وقد تعبا من الجلوس في الوضع ذاته ، قد رغبا في تغييره .
وقد فكر مرتنياتي أن تلك الملاحظة ، لم تكن دون أساس ، فأنهيا وجبتيهما ، وقد علقا على الحدث ومن فترة لأخرى ينظران ، الى جلسة الشخصيين في اللوحة .
مزاج سيئ : وفي اليوم التالي ، كانت المفاجأة !! عندما وجد مارك أنطونيو ، ربما لشعوره بالغيرة ، يقف وذراعاه مرفوعتان يهاجم كليوباترا ، والتي كانت تبدو أنها تجيبه سريعاً وبالمثل ، فقالت زوجة مرتنياتي بالمثل اننا حكمنا على المظاهر فقط ، فان مارك انطونيو له الحق في التصرف على هذا النحو، لأن كليوباترا امرأة مغناج شهيرة ، أما مرتنياتي أخد يدافع عن كليوباترا بحماسة شديدة ، حتى أن زوجته شعرت بالغيرة ، واتهمته بأنه يميل عاطفياً نحو الملكة الشهيرة ، وذهبا الزوجان للنوم بمزاج سيئ .
شجار في الليل : وفي هذه الليلة ، كما بدا لشخصيات اللوحة القدرة على الحركة ، بدا لديهما أيضاً القدرة على الكلام ، واستيقظ مرتنياتي على ضجة أصوات ثائرة ، تصعد من قاعة الطعام ، فذهب على أطراف أصابعه بثوب النوم ، إلى غرفة الطعام ليسترق السمع… كان صوت الملكة تسهل معرفته ، وكان صوت أنطونيو غليظاً وعنيفاً .
ولكن الكلمات كانت ليست مفهومه ، بقي مرتنياتي واقف بجوار الباب مسحورا بما يسمعه ، كما صرح بذلك لزوجته فيما بعد ، بهذا الحوار في الظلام بلغة مجهولة قديمة ، وانتهى النقاش بين شخصيات اللوحة ، وعاد مرتنياتي إلى غرفته ، وهو يسمع أصوات مساومات في الظلام .
مظهر الحياة : وبعد تلك الليلة ضاعف الشخصان باللوحة ، مظهر الحياة فكانا أحياناً يتكلمان ، وأحياناً يتخذن أكثر الأوضاع غرابة ، وأحيانا يغادران اللوحة من باب خلفي في مرسوم فيها ، وكان هذا أكثر ما يضايق مرتنياتي ، فكان يقول في نفسه أنه لم يصرف كل تلك الأموال للحصول على لوحة خاوية ، وكانت زوجته تفسر له ذلك ، بأن هذين الشخصين لم يكونا شخصين عاديين ، بل ملكة وقائد ، وقصرهما يحتوي على العديد من الغرف ، فالبتأكيد سوف يحتاجان التجول داخل القصر من وقت لآخر .
الشجار الدائم : كان الشخصان باللوحة دائمي الشجار يومياً ، لسبب أو لآخر وكان شجارهما دائما يحدث الكثير من الإزعاجات ، حيث كانت زوجة مرتنياتي تتحيز للمسكين مارك أنطونيو ، الذي كان تبع رأيها ضحية امرأة عديمة الحياء ، بينما كان مرتنياتي يدافع بتحيز عن الملكة الجميلة ، فكانت شخصيات اللوحة تمنعان الزوجان من تناول الطعام بسلام نهاراً ، كما يمنعانهما من النوم بسلام ليلاً .
الشخصان حيان حقاًً : لم يعد هناك شك أن الشخصان اللذان باللوحة حيان ، وحيان جداً لكن مرتنياتي ، كان يتمنى أن يقضي نهاراً وليلاً بهدوء عن ذلك ، حتى أنه بدأ ينظر الى تلك اللوحات الأخرى التي كان يحتقرها فيما مضى ، والتي جعله ابن اخيه يشتريها سابقاً ، بدت بأشكالها غير المنطقية المفهومة من رجال حول ، ونساء شبه عاريات ذات الأقدام الضخمة والأيدى الملتوية ، بدت غير واقعيتهم أفضل بكثير من حيوية العاشقين الملكيين ، فهم على الأقل يقومون بواجبهم كما ينبغي ، حيث يبقو جامدين داخل الايطار .
الفن الحقيقي : وبعد أن فكر مرتنياتي في الموضع قال لزوجته ، ربما كان الرسامون الحديثون على حق ، في رسم كل ما هو بعيد عن المألوف ، والبعد عن كل ماهو حقيقة ، فالواقعية الحية على المدى البعيد ، مثل واقعية لوحة قديمة تصبح غير محتمله ، وبعد أن فكر مرتنياتي كثيرا ، حسم أمره في ليلة ، كانت الصورة فيها تتشاجران بشراسة أعنف من قبل ، فقام برفع اللوحة لأعلى ثم وقف فوق كرسي ، وترك اللوحة تسقط أرضاً ، ثم أغلق الباب خلفه بالمفتاح ، وعاد الى غرفته من جديد ونام بهدوء .