يحدث كل شيء في زمن المجاعة ، استخدم لاستكمال تمثاله الصخري الشعر الآدمي والأظافر البشرية ، وبقايا الملابس المهترئة الباقي الوحيد بعد الموت ، من أولئك الذين سقطوا في قبضة الموت ، بعد هذه المجاعة الشرسة التي طرقت بيوت الفقراء والمعدمين ، وعاثت تحطيماً في أجسادهم ، وقعدت بهم دون الهرب أو الاستغاثة أو الثورة عليها ، وأكلب من أجسادهم حتى بشمت وظلوا جائعين ، بأجساد ذات جلد تهدل وتقضب ، على عظام وهنة بعد أن ذاب دهنهم .
نبذة عن المؤلف : قصة من روائع القصص التركي ، للمؤلف أورخان باموق ، ولد في 7 يونيو عام 1952م ، في اسطنبول بتركيا ، ومن أشهر أعماله جودت بك وأبناؤه ، الكتاب الأسود ، القلعة البيضاء، نال جائزة نوبل في الأدب عام 2006م ، وجائزة السلام الألمانية عام 2005م ، وجائزة أوفيد عام 2008م .
كان نحاتاً موهوباً في زمن الضنك والفقر ، ولكنه الآن ليس أكثر من حفار قبور أو حانوتي قاتم ، يحترف تشيع الموتى ، ويتقن إهالة التراب على الأجساد التي اقتاتها الجوع ، ويستثمر الباقي القليل مما لن يمانع الموتى ، بسلبهم إياه في إكمال تمثاله الصخري ، الذي قده من الصخر منذ زمن ، وأضنى ذهنه تفكيراً وتدبراً في أي الأشكال سينحت منه .
جواد السلطان : فكر في أن ينحته على شكل جواد السلطان ، لكنه تراجع عن الفكرة إذ إن السلطان يحب الخيل البرية لا الصخرية وفي مرة أخرى ، فكر بأن ينحته على شكل حسناء ممشوقة القوام ، لكن الحرمان الذي تحرك في داخله أورثه غصة خنقت أنامله فمنعته من أن ينحته كما يحب ، وآل قراره إلى أن ينحته على شكل طفل صغير يستجدي المارة بدموع صخرية خلابة ، وخمن أنه سيجني الكثير من المال من هذا التمثال الحزين ، إذ إن الأغبياء يسعدون باقتناء فنون الحزن ، ويكملون بها رفيع أثاثهم ونادر ممتلكاتهم ، ولا عجب في ذلك ، فالفقر بالمجان والفقراء هم من يبدعون الفنون في حين إن الأغنياء هم من يستمتعون بها .
المجاعة : لكن المجاعة المفترسة جعلته يتراجع عن تمثاله الصبي المستجدي ، وشغلته بالموت وبالموتى فقد داهمت المجاعة المكان على غير غرة ، إذ كان من المتوقع أن الأمور ستزاد سوءاً ، ما دام الوالي يضيق الخناق على المواطنين ، ويرهقهم بالضرائب المضنية ويشاركهم حتى في سعادتهم ، وفي لحظات الجماع اللذيذة في حين إن السلطان يمارس رياضته المفضلة ، مثل ركوب جواري الفتنة ومطاردة الشهب في المجرات البعيدة ، أما الشباب من الرعية .
فقد كانوا نذوراً وقرابين لحروب يعز أن تحصى لكثرتها تشتعل في بلاد غريبة ، ولأسباب لا تعنى أمهاتهم ولا تستفز نخوتهم ، وإن كانت أسباباً كافية لكي يحتكر التجار والمرابون السلع والأغذية ، ويقصرونها على أصحاب الدراهم الذهبية ، ويبقى الهواء الموجود المجاني الوحيد ملاذاً للبطون الفراغة .
الجياع : المجاعة كانت أقوى من أن تهزمها المدخرات القليلة ، والمؤن القديمة والأعمال ذات الأجور المتدنية ، والحدود الصحراوية التي تحنق البلاد أشرس من أن قطعها الجياع فارين لائذين بالعدم مما هم فيه ، لذا فقد استكان الجميع أمام الجوع ، وتراجعوا أمام الحراب ذات الأنصال اللامعة إثر تتبعهم لروائح موائد الأغنياء والمترفين ، فأحكم الجوع قبضته المهترئة على الجياع ، ومحقهم دون رحمة أو نظرة عطف .
دون رحمة : المشهد الرهيب هو من احتل قريحة النحات ، وأملى على طرقات أزميله الصغير، أن ينحت تمثالاً كبيراً على شكل مشهد موت عجيب ، إذ إن الموت عملاق أسود يلوك أجساداً غضة ، وتترى من بين قبضتيه أشلاء وأعضاء شبه مهروسة ، وتحت قدميه تجثو غربان سمينة ، تلتهم بشهوى ما يسقط من بين يديه ، ولكي يكون التمثال أكثر صدقاً واستحضاراً لهيئة الموت البغيضة .
فقد استعان النحات الملهم بشعر بعض الموتى ، وبأظافرهم وبملابسهم وثبتها بين يدي التمثال الموت ، فكان التمثال حقيقة مجسدة للموت ، الذي يصهر المستضعفين دون رحمة .
المجاعة والموت : المجاعة والموت الرهيب وأنات المنكودين لم تمنع المترفين ، من أن يستمتعوا بما تجود به قرائح الملهمين الجياع ، وأيدي الفنانين الفقراء ، ديوان الثقافة أقام معرضاً تسجيلياً للمجاعة ، شارك به الفنانون الجائعون من كل البلاد ، وفي قلبه انتصب تمثال المجاعة الموت الذي حصد الكثير من الجوائر، والصور والمقابلات التلفزيونية والصحفية .
المثّال : اقتربت تلك الإعلامية الثرية المترفة من النحات ، وسألته بفضول ضاربة صفحاً عن حذائه المهترئ الذي تتفلت منه أصابع قميئة متسخة ، وقالت له: أأنت من صنعت هذا التمثال ، ابتسم النحات ابتسامة كسيرة ساخرة ، وقال لها بلا أدنى اهتمام : بل أنتم .