كان أبي رجلاً منقاداً مطيعاً مستقيماً ووفقاً لأشخاص موثوقين عديدين استفسرتهم عنه ، كان يتصف بهذه السجايا منذ المراهقة ، وحتى منذ الطفولة وفي حدود ذكرياتي ، لم يكن لا أكثر مرحاً ولا أكثر سوداوية من بقية الرجال الذين عرفناهم ، ربما كان أهدأ قليلاً وكانت أمي وليس أبي هي التي تحكم البيت ، كانت توبخنا كل يوم أختي وأخي وأنا ، غير أنه حدث ذات يوم أن أمر أبي بصنع قارب له .
نبذة عن المؤلف : قصة من روائع القصص البرازيلي ، للكاتب جوان جيمارانس روزا ، ولد في عام 1967م ، تم وصفه بأعظم كاتب ظهر في الأمريكتين في هذا القرن ، درس الطب وتنقل داخل البلاد ، كما درس الفلسفة والدين والعلوم الطبيعية ، أتقن الفرنسية واليونانية والروسية والألمانية والإنجليزية ، من أشهر رواياته السرتون الكبير ، دروب ، توفي عام 1908م.
قارب لأبي : كان جاداً تماماً بهذا الخصوص وكان ينبغى صنعه من أجله خصيصاً من خشب الميموزا وكان ينبغى أن يكون متيناً بما يكفي للصمود عشرين ، أو ثلاثين سنة وألا يكون كبيراً إلا بما يكفي لأن يتسع لشخص واحد ، وتذمرت أمي كثيراً لذلك ، هل سيصبح زوجها صياد سمك فجأة أو صياداً ، ولم يقل أبي شيئاً ! القارب ذي المجدافين : وكان بيتنا على مسافة تقل عن ميل من النهر ، الذي كان في تلك الناحية عميقاً وهادئاً وعريضاً حتى أنه لم يكن بوسعك أن ترى الشاطئ الآخر،لا يمكنني أن أنسى اليوم الذي تم فيه تسليم القارب ذي المجدافين ، لم يظهر أبي ابتهاجاً أو أي انفعال آخر .
كل ما هناك أنه لبس قبعته كما كان يفعل دائماً : وقال لنا مع السلامة ، لم يأخذ معه أي طعام أو ربطة من أي نوع ، وتوقعنا من أمي أن توبخ وتهاجم لكنها لم تفعل ، بدت شاحبة للغاية ، وعضت على شفتها وكان كل ما قالت : إذا ذهبت بعيداً ابق بعيداً لا تعد أبداً … لم يرد أبي أي رد نظر إليّ برقة ، وبإشارة طلب مني السير برفقته ، خشيت أن تثور أمي غاضبة لكنني أطعت بتلهف ، اتجهنا معاً إلى النهر، وأحسست بمزيد من الجرأة والبهجة فقلت: أبي هل ستأخذني معك في قاربك !.
ظل القارب : فقط نظر إلى ودعا لي بأن يباركني الرب ، وبإشارة طلب مني أن أعود تظاهرت بأنني سأفعل ما طلب ، لكنني عندما أدار ظهره ، تواريت وراء بعض الشجيرات لأراقبه ، ركب أبي القارب وأخذ يجذف مبتعداً ، وزحف ظل القارب على الماء ، مثل تمساح طويلاً وهادئاً .
الحدث الخارق : لم يعد أبي كذلك لم يذهب في الواقع إلى أي مكان فقط كان يجذف ، ويطفو هنا وهناك في عرض النهر، وأرتاع الجميع ما لم يحدث ما لا يجوز أن يحدث كان يحدث ، وأقبل أقاربنا وجيراننا وأصدقاؤنا ليتشاوروا حول ذلك الحدث الخارق .
نذر الرب : كانت أمي خجلة ولم تقل سوى القليل ، وتصرفت برزانة بالغة ، وبالتالي اعتقد الجميع تقريباً مع أن أحداً لم يقل ذلك أن أبي أصابه الجنون ، لكن قلة لمّحوا إلى أن أبي ، ربما كان يفي بنذر نذره للرب أو لأحد القديسين، أو أنه ربما أصيب بمرض رهيب ، ربما الجذام وأنه رحل خوفاً على الأسرة راغباً في الوقت ذاته في أن يبقى قريباً منهم إلى حد ما .
يغادر النهر ويرحل بعيداً : وروى المسافرون بمحاذاة النهر ، والناس الذين يعيشون قرب الشاطئ على هذا الجانب ، أو ذاك أن أبي لم يضع قدمه على البر، في نهار أو ليل ، فقط كان يتنقل هنا وهناك في النهر متوحداً، هائماً بلا هدف ، مثل منبوذ ، واتفق أقاربنا وأمي على أن الطعام الذي لا شك في أنه كان خبأه في القارب سينفد في القريب العاجل ، وعلى أنه عندئذ إما أن يغادر النهر ويرحل بعيداً إلى مكان ما ، الأمر الذي سيكون على الأقل أكثر احتراما بعض الشيء ، أو أن يندم ويعود إلى البيت .
النار على الشاطئ : وكم كانوا بعيدين عن الحقيقة ، كان لأبي مصدر سري للإمداد بالطعام : أنا، فكل يوم كنت أسرق الطعام وأحمله إليه وفي الليلة الأولى بعد رحيله أوقدنا ، جميعاً النار على الشاطئ وصلينا وظللنا ننادى عليه ، كنت بالغ الحزن وأحسست بحاجة إلى أن أفعل شيئاً أكثر .
مشاعر : وفي اليوم التالي نزلت إلى الشاطئ برغيف من خبز الذرة ، وسباطة من الموز، وبعض قوالب السكر الخام الأسمر، وانتظرت بتلهف ساعة طويلة ، ثم رأيت القارب بعيداً جداً ، وحيداً ينساب بهدوء لا تكاد تدركه العين فوق السطح الهادئ للنهر، كان أبي يجلس في قاع القارب ، رآني لكنه لم يجذف نحوى ، ولم يأت بأي بادرة أظهرت له الطعام .
ثم وضعته في صخرة مجوفة على شاطئ النهر، فكان هناك بمأمن من الحيوانات والمطر والندى وفعلت ذلك كل يوم وظللت أفعله بلا انقطاع ، وعلمت فيما بعد لدهشتي أن أمي كانت تعرف ما كنت أفعل ، فكانت تترك الطعام هنا وهناك حيث يمكنني أن أسرق بسهولة ، كان لديها الكثير من المشاعر التي لم تفصح عنها .
القسيس والشيطان وأبي : وأرسلت أمي في طلب أخيها ، ليأتي ويساعد في المزرعة وشئون العمل ، وأتت بالمدرس ليدرسنا نحن الأطفال في البيت ، لتعويض الوقت الذي أضعناه ، وذات يوم وبناء على طلبها ، ارتدى القسيس أرديته ، ونزل إلى الشاطئ وحاول أن يطرد الشياطين التي حلت بأبي .
العناد الأثيم : وصرخ بقوله : إن من واجب أبي أن يكف عن عناده الأثيم ، وفي يوم آخر رتبت للمجيء بجنديين ليحاولا تخويفه ، كل ذلك بلا طائل ذلك أن أبي كان يمر بعيداً وأحياناً بعيداً جداً ، حتى أنه كان يرى بالكاد ، ولم يرد على أحد ، ولم يقترب منه مطلقاً أحد ، وعندما أتى بعض رجال الصحافة ، في لنش ليلتقطوا له صورة وجه أبي قاربه إلى الجانب الآخر للنهر، وإلى داخل المستنقعات ، التي كان يعرفها ، مثل كف يده لكن والتي سرعان ما كان يتوه فيها غيره .
الفراغ والخواء : وهناك في متاهته الخصوصية التي امتدت على مدى أميال ، بأوراق النبات الثقيلة التي ترتفع إلى ما فوق الرأس ، وبالحلفاء على كل جانب كان آمنا، وكان علينا أن نعتاد فكرة أن أبي هناك في عرض النهر، كان علينا لكننا لم نستطع مطلقاً، وأعتقد أنني الشخص الوحيد الذي فهم إلى حد ما ما أراده وما لم يرده أبي ، الشئ الذي لم أفهمه كيف صمد لكل ذلك العناء نهاراً وليلاً، أسبوعاً بعد أسبوع شهراً بعد شهر سنة بعد سنة ، دون أن يبالي بالفراغ والخواء .
على قيد الحياة : لم يضع قدمه مطلقاً على أرض جرداء ، أو معشوشة على جزيرة أو شاطئ بر، ولا شك في أنه كان يرطب قاربه أحيانا في مكان خفيو ربما عند رأس جزيرة ما ليغفو قليلا.
لم يوقد نارا قط ولا يأخذ سوى جانب ضئيل من الطعام الذي كنت أتركه في الصخرة المجوفة ، ولم يكن كافياً فيما بدا لي لمجرد البقاء على قيد الحياة ، ماذا كان يمكن لحالته الصحية أن تكون، وماذا عن الاستنزاف المتواصل لطاقته وهو يشد ويدفع المجذافين ليتحكم في القارب وكيف نجا من الفيضانات السنوية .
خمود مؤقت : لم يتحدث مطلقا مع كائن حي ، ولم نتحدث عنه مطلقا كنا فقط نفكر ، لا لم نستطع قط أن نخرج أبانا من رأسنا ، وإن بدا لفترة قصيرة أننا نفعل ، فإن ذلك لم يكن سوى خمود مؤقت ، كان لابد أن يفيقنا منه بحدة إدراك وضعه المريع .
بدون حفل زفاف : تزوجت أختي غير أن أمي رفضت إقامة حفل زفاف ، كان ذلك سيغدو أمراً حزيناً ، ذلك أننا كنا نفكر فيه كلما أكلنا طعاما شهيا بوجه خاص ، تماما كما فكرنا فيه ، ونحن في فراشنا الحميم الدافئ في ليلة عاصفة باردة ، هناك في الخارج وحيدا وبلا رعاية ، يحاول أن ينزح الماء من القارب بيديه وبقرعة مجوفة لا غير ، ومن حين لآخر كان يقول شخص ما إنني أزداد شبهاً بأبي ، أكثر فأكثر لكنني كنت أعرف أنه في ذلك الوقت .
كان لابد أن شعره ولحيته ، أصبحا أشعثين وأظافره طويلة وتخيلته نحيلاً وعليلاً، أسود بالشعر وبلفحة الشمس ، وعارياً تقريباً رغم الملابس التي كنت أتركها له من حين لآخر.
محبة واحترام : كان لا يبدو أنه يهتم بنا على الإطلاق ، لكنني أحسست نحوه بالمحبة والاحترام ، وكلما امتدحوني لأنني فعلت شيئاً ما طيباً ، كنت أقول : علمني أبي أن أتصرف بهذه الطريقة .
بكينا جميعاً : ولم أكن دقيقاً تماماً لكنه كان نوعاً صادقاً من الكذب ، وكما قلت ، كان لا يبدو أن أبي يهتم بنا ، لكن لماذا إذن يبقى هناك بالقرب منا، لماذا لم يرحل صاعداً في النهر أو هابطاً في النهر ، بعيداً عن إمكانية أن يرانا أو نراه ، كان وحده يعلم الإجابة ، رزقت أختي بمولود وأصرت على أن ترى أبي حفيده ، وذات يوم جميل نزلنا جميعاً إلى شاطئ النهر ، وكانت أختي في فستان زفافها الأبيض ، ورفعت المولود عاليا وكان زوجها يمسك بشمسية فوقهما ، نادينا صائحين على أبي وانتظرنا لم يظهر ، بكت أختي وبكينا جميعاً كل منا بين ذراعي الآخر .
احتياج : رحلت أختي وزوجها بعيداً، رحل أخي ليعيش في مدينة تغير الزمن ، بسرعته المعتادة غير الملحوظة ، وأخيراً رحلت أمي كانت عجوزاً ، وذهبت لتعيش مع أبنتها وبقيت أنا ، فضلة متخلفة لم يكن بوسعي على الإطلاق أن أفكر في الزواج ، فقط بقيت هناك مع أثقال حياتي كان أبي وهو يطوف وحيداً ويائساً في عرض النهر ، يحتاج إليّ ، كنت أعلم أنه يحتاج إلي رغم أنه حتى لم يخبرني مطلقاً ، لماذا يفعل ما كان يفعل ؟ وعندما طرحت هذا السؤال على الناس بصراحة وإلحاح ، كان كل ما قالوه لي هو أنهم سمعوا أن أبي شرح السبب للرجل الذي صنع القارب ، لكن هذا الرجل كان في ذلك الحين قد مات ، ولا أحد كان يعلم أو يتذكر شيئاً فقط كان هناك كلام أحمق خاصة عندما كانت الأمطار تسقط ثقيلة ومتواصلة ، مؤداه أن أبي كان حكيماً مثل نوح ، وأنه أمر بصنع القارب تحسباً لطوفان جديد ، وأنا أتذكر تذكراً باهتاً أشخاصاً كان يقولون هذا وعلى أية حال ، أنا لن أدين أبي على ما كان يفعل وكان شعري بدأ يشيب .
الشاطئ الثالث للنهر : لم يعد لدى سوى أشياء حزينة ، أقولها ماذا كنت قد فعلت ماذا ؟ كان ذنبي الكبير، أبي دائماً بعيد ، وغيابه دائماً والنهر دائماً، يجدد نفسه دائماً أبداً ، وكنت بدأت أعانى من الشيخوخة التي تكون فيها الحياة مجرد نوع من التلكؤ، أصابتني نوبات من المرض ، ومن القلق أصابني روماتيزم مزمن مزعج ، وهو لماذا كان يفعل ما كان يفعل ؟ لا بد أنه كان يعاني معاناة مفزعة ، وكان عجوزاً للغاية ، وربما خذلته قواه ذات يوم ، ليترك القارب ينقلب ، أو ربما ترك التيار يحمله مع مجرى النهر، فيظل يجرفه إلى أن يندفع من فوق الشلال فيغوص في الخضم الهائج تحته ، ضغط كل هذا على قلبي ، كان هو هناك في عرض النهر ، وكنت أنا قد سرقت مني طمأنينتي إلى الأبد .
لا أحد مجنون : إنني مذنب لا أدرى بماذا، وألمي جرح مفتوح بداخلي ، وربما كنت عرفت ، لو كانت الأمور مختلفة ، لقد بدأت أخمن أين كان مكمن الخطأ ،قلها أصابني الجنون ، لا تلك الكلمة لم تنطق في بيتنا أبداً على مر السنين، لا أحد وصف أحداً بأنه مجنون لأنه لا أحد مجنون .
مزيد من العزم : أو ربما الجميع ، كان كل ما فعلت هو أنني ذهبت إلى هناك ، ولوحت بمنديل حتى يكون من المحتمل أكثر أن يراني ، كنت كامل السيطرة على نفسي انتظرت أخيراً ظهر من بعيد هناك ثم هنالك شبحاً معتماً ، يجلس في مؤخرة القارب ، ناديت عليه مراراً ، وقلت ما كنت شديد التلهف على قوله لأعلنه رسمياً .
وأقسم عليه قلته بصوت عالي بأقصى ما استطعت :أبي بقيت عندك طويلاً بما فيه الكفاية أنت الآن عجوز، عد لا ينبغي أن تستمر فيما تفعل ، عد وسأذهب أنا بدلاً منك الآن فوراً ، إن شئت في أي وقت سأركب القارب ، سآخذ مكانك عندما انتهيت من قول هذا ، خفق قلبي بمزيد من العزم .
سمعني هب واقفاً ناور بمجذافيه ، ووجه القارب نحوي لقد قبل العرض وفجأة ارتجفت في أعمق أعماقي ، ذلك أنه رفع ذراعه ولوح للمرة الأولى منذ سنين طويلة جداً طويلة جداً ، ولم أقدر في فزع وشعري واقف جريت فررت بجنون ، ذلك أنه بدا أنه آت من عالم آخر ، وأنا ألتمس الصفح .
الخوف القاتل : ذقت الإحساس المريع بالبرد الذي يأتي من الخوف القاتل ومرضت ، لا أحد رآه أو سمع عنه مطلقاً بعد ذلك ، هل أنا رجل بعد كل هذه الخيبة ، أنا ما كان ينبغي أبدا أن يكون أنا ما يجب أن يبقى صامتاً ، أعرف أنه فات الأوان ينبغي أن أبقى في صحاري حياتي ، وسهولها التي لا تراها العين ، وأخشى أنني سأقصر هذه الحياة ، لكن عندما يأتي الموت أريد أن يأخذوني ويضعوني في قارب صغير في هذه المياه الأبدية ، بين الشاطئين الطويلين وأنا في قاع النهر ضائعاً في النهر، بداخل النهر .