رواية 1984 لجورج أورويل : القسم السادس والثلاثون


وتتكون طبقة وسطى جدیدة من إحدى الطبقتین الأخریین أو كلیهما معاً لیبدأ الصراع من جدید. ومن بین الطبقات الثلاث فإن الطبقة الدنیا هي الوحیدة التي لا تفلح أبداً ولو مؤقتًا في بلوغ أهدافها، ولعله من فبیل المبالغة أن نقول انه عبر التاریخ لم یحدث لها أي تقدم مادي یذكر.

وحتى في أیامنا هذه، في فترة الانحطاط فإن الإنسان العادي یعتبر من الناحیة المادیة أحسن حالا ً مما كلان علیه قبل بضعة قرون مضت.

غیر أنه لا ازدیاد الثروة ولا رقي السلوكیات ولا حركة الإصلاح أو الثورة حملت حلم المساواة بین بني الإنسان إلى الأمام ولو قید أنملة، ومن وجهة نظر الطبقة الدنیا فإن أي تغییر تاریخي لا یعدو أن یكون مجرد تغییر في أسماء سادتها.وفي أواخر القرن التاسع عشر بات تكرار هذا النهج جلیاً لكثیر من المراقبین، حتى أنه ظهرت مدارس فكریة تفسر التاریخ كمسارات دائریة، وحاولت الترویج لفكرة أن انعدام المساواة هو قانون من قوانین الحیاة البشریة الذي لا یقبل التغیر.

وبالطبع كان لهذا المذهب دائماً أنصاره عبر التاریخ، وإن كان ثمة تغییر ملموس قد طرأ على الطریقة التي یقدم بها للناس في هذه الأیام، ففي الماضي كانت الحاجة إلى مجتمع طبقي معتقداً ًمحصورا في الطبقة ال ّعلیا حیث كان یروج لها الملوك والنبلاء والكهنة والمحامون ومن شاكلهم ممن یعیشون عالة علیهم، وكانوا، للتخفیف من وطأة هدا المعتقد، یطلقون وعوداً بالتعویض عن مآسي الحیاة الدنیا في عالم خیالي یأتي بعد الموت.

أما الطبقة الوسطى فكانت، إبان نضالها لبلوغ سدة الحكم، دائماً ترفع شعارات مثل الحریة والعدل والإخاء طالما أنها لم تنته من نضالها في سبیل بلوغ السلطة. وأما الأن فإن مفهوم الأخوة الإنسانیة یتعرض لهجمات من قبل أناس لم یبلغوا بعد سدة الحكم ولكنهم

یأملون بلوغه في عهد قریب. وفي الماضي كانت الطبقة الوسطى تشعل الثورات تحت ستار المساواة، لكنها لم تلبث بعد بلوغ ماربها أن دشنت لطغیان جدید تقیمه على أنقاض الطغیان القدیم الذي أطاحت به، ولذلك كانت المجموعات الجدیدة التي ستحل محل الطبقة الوسطى تعلن سلفاً عن طغیانها. وأما الاشتراكیة وهي نظریة ظهرت في أوائل القرن التاسع عشر، والتي كانت بمثابة الحلقة الأخیرة من سلسلة فكریة تعود بتاریخها إلى ثورات العبید في العصور القدیمة، فقد كانت لا تزال مخدوعة إلى حد بعید بطوباویة العصور الغابرة.

ولكن في كل شكل من أشكال الاشتراكیة التي بدأت تظهر للوجود منذ 1900 وحتى وقتنا الراهن كان یتم التنكر صراحة لهدف إرساء دعائم مجتمع الحریة والمساواة أكثر فأكثر. وأما الحركات الجدیدة التي ظهرت في منتصف القرن، كالانجسوك في أوقیانیا، والبلشفیة الجدیدة في أوراسیا، وعبادة الموت كما كانت تسمى في إیستاسیا، فكانت تستهدف ترسیخ حالة اللاحریة واللامساواة. وهذه الحركات الجدیدة خرجت من عباءة حركات قدیمة واحتفظت بأسمائها وادعت زیفاً اعتناقها لأیدیولوجیتها. وقد اجتمعت هذه الحركات على غایة واحدة وهي وقف كل تقدم وتجمید التاریخ عند لحظة تختارها، وهكذا أرادوا لبندول الساعة أن یهتز اهتزازته المألوفة مرة أخرى لیتوقف بعدها للأبد. وكالعادة كان على الطبقة الوسطى أن تزیح الطبقة العلیا وتحل محلها ولكن هذه المرة باستراتیجیة واعیة بحیث تتمكن الطبقة العلیا الجدیدة من الاحتفاظ بمركزها بصفة دائمة.
ویرجع ظهور هذه المذاهب الجدیدة إلى تراكم المعرفة التاریخیة ونمو الحس التاریخي وهما أمران لم یكن لهما وجود تقریباً قبل القرن التاسع عشر، وهو ما جعل الحركة الدائریة للتاریخ مفهومة في الوقت الحاضر، أو بدا أنها كذلك، وبما أنها قد باتت مفهومة فهذا یعني أنه بات بالإمكان تغییرها. ولكن السبب الرئیس الكامن وراء ظهور هذه المذاهب هو أنه منذ أوائل القرن العشرین غدت المساواة بین الناس أمراً ممكناً من الناحیة العملیة.

صحیح أن الناس لم یكونوا متساوین في مواهبهم الطبیعیة وصحیح أن المهام یجب توزیعها بطریقة یحابى فیها بعض الأفراد على حساب البعض، لكنه لم تعد ثمة حاجة فعلیة إلى وجود الفروق الطبقیة أو التفاوتات الكبیرة من ناحیة الثروة. وفي العصور الأولى لم تكن الفوارق الطبقیة أمراً محتوماً فحسب، بل مرغوباً فیه أیضاً، ذلك أن عدم المساواة كان هو ما تكبده الناس ثمنا للمدنیة.

ولكن مع تطور الإنتاج الآلي تبدلت الحال، إذ حتى لو أنه ما زال من الضروري للبشر أن یؤدوا أنواعاً متباینة من الأعمال، فإنه لم یعد من الضروري لهم أن یعیشوا عند مستویات اجتماعیة واقتصادیة متباینة، ومن ثم فإنه ومن وجهة نظر الطبقات الجدیدة التي كانت قاب قویین أو أدنى من القبض على زمام السلطة، فإن المساواة بین البشر لم تعد غایة سامیة تستحق النضال من أجلها، وإنما خطراً یجب تفادیه. وفي العصور الأكثر بدائیة حینما كانت إقامة مجتمع العدل والسلام أمرا غیر ممكن، كان من الیسیر على المرء أن یصدق مثل هذه الأفكار.

إن فكرة الفردوس الأرضي الذي یعیش فیه كل الناس معاً كإخوة دون اللجوء إلى قوانین أو دون حاجة إلى التعب والمشقة، كانت تشغل الخیال البشري منذ آلاف السنین، وكان لهذه الرؤیة الخیالیة سلطان حتى على تلك الفئات ًالتي كانت تفید فعلا من كل تغیر تاریخي. ومن هذا أن أبناء الثورات الفرنسیة والإنجلیزیة والأمریكیة كانوا یؤمنون إلى حد ما بما صاغوه من شعارات عن حقوق الأنسان وحریة التعبیر والمساواة أمام القانون وما شابه ذلك، بل وكانت ذات تأثیر على سلوكهم، ولكن لم یكد العقد الرابع من القرن العشرین یحل حتى كانت كل التیارات الرئیسیة للفكر السیاسي قد أضحت سلطویة المنحى أو فاشیة، كما أصبع الفردوس الأرضي عرضة لحملات التشویه بمجرد أن أصبح من الممكن تحقیقه. وباتت كل نظریة سیاسیة جدیدة، أیًا كان الاسم الذي یطلق علیها، ترتد بالناس نحو التمییز والتصنیف إلى مراتب ودرجات. وفي ظل أجواء التشدد العام التي سیطرت على وجهات النظر في ثلاثینیات القرن ُالعشرین، عادت الممارسات التي هجرت مند مئات السنین مثل السجن بغیر محاكمة، واسترقاق أسرى الحرب، وتنفیذ أحكام الإعدام علناً، والتعذیب لانتزاع الاعترافات، واستخدام الرهائن، ُوالتهجیر القسري لشعوب بكاملها. ولم تغد كل هذه الممارسات شائعة الحدوث مرة أخرى فحسب، بل أصبحت أموراً جائزة یدافع عنها من یدعون انهم تنویریین وتقدمیین.ولم تظهر الانجسوك وما ینافسها من نظم أیدیولوجیة كنظریات سیاسیة مكتملة النضج إلا بعد عقد من الزمان سادته حروب خارجیة وحروب أهلیة، وثورات وثورات مضادة في جمیع أرجاء العالم.

ولكن هذه المذاهب سبقتها أنظمة متنوعة یطلق علیها في مجملها اسم الأنظمة الكلیانیة التي ظهرت في أوائل القرن العشرین، وكانت الخطوط العریضة للعالم الذي سینبثق من الفوضى السائدة واضحة وجلیة منذ وقت طویل. وبالوضوح نفسه كان معروفًا أي نوع من الناس سیحكمون قبضتهم على العالم. ولم یعد خافیاً أن الأرستقراطیة الجدیدة تتألف في أغلبها من بیروقراطیین وعلماء وفنیین وقادة نقابات عمالیة وخبراء دعایة وعلماء اجتماع ومعلمین وصحافیین وسیاسیین محترفین، وهؤلاء الناس الذین یعودون بأصولهم إلى الطبقة الوسطى التي یعتمد أفرادها على الرواتب، وكذلك إلى الفئة العلیا من الطبقة العاملة، قد صهرهم معاً ّووحدهم عالم الصناعة والحكومة المركزیة،
~وهؤلاء إذا ما قورنوا بنظرائهم في العصور الغابرة لوجدناهم أقل جشعاً ًوأقل میلا للترف، وأكثر تعطشاً لبلوغ السلطة المطلقة، ًولكن فوق كل ذلك أكثر إدراكاً لما یقومون به وأشد تصمیما على سحق معارضیهم وهذا الفرق الأخیر كان أساسیاً. ذلك أنه بالمقارنة مع ما یوجد الیوم، فإن أنظمة الطغیان في الماضي كانت أقل كفاءة في استبدادها وتفتقر إلى التصمیم على الفتك بالخصوم، كما أن الفئات الحاكمة كانت دائما واقعة تحت تأثیر أفكار لیبرالیة وتترك عن طیب خاطر هوامش للحریة في كل مكان، ولا تهتم إلا بالعمل الظاهر غیر مبالیة بما یدور في خواطر رعایاها.
بل حتى الكنیسة الكاثولیكیة في العصور الوسطى تعتبر متسامحة إذا ما قورنت بمعاییر هذه الأیام، ومن بین أسباب ذلك أنه لم یكن تتوفر لأیة حكومة في الماضي سلطة تمكنها من إبقاء مواطنیها تحت مراقبة دائمة. ولكن مع اختراع الطباعة أصبح من الأیسر التلاعب بالرأي العام، كما أن ظهور السینما والرادیو قد دفعا بهذه العملیة قدماً، ومع اختراع التلفزیون وحصول ذلك التقدم التقني الذي جعل من الممكن الإرسال والاستقبال في آن واحد وعلى جهاز واحد فإن ذلك كان إیذانا بنهایة ما یسمى بالحیاة الخاصة، حیث بات بإمكان كل حكومة أن تضع كل مواطن، وعلى الأقل كل مواطن له من الأهمیة ما یجعله جدیراً بالملاحظة، تحت عین الشرطة لمدة أربع وعشرین ساعة في الیوم وتحت طائلة الدعایة الرسمیة الموجهة مع عزله عن جمیع قنوات الاتصال الأخرى. ّوللمرة الأولى في التاریخ یصبح بالإمكان فرض حالة من الإذعان المطلق لإرادة الدولة ومن الاتساق التام في الرأي حول جمیع الموضوعات.وعقب المد الثوري الذي شهدته الخمسینات والستینات من القرن العشرین، أعاد المجتمع تشكیل نفسه كما هي العادة في طبقات ثلاث هي العلیاً والوسطى والدنیا. لكن الطبقة العلیا الجدیدة وخلافاً لكل نظیراتها السابقات لم تعد تعمل بوحي من الغریزة بعدما عرفت ماذا یتعین علیها القیام به لحمایة مركزها، كما أنها أدركت ًأن الركیزة الوحیدة الآمنة لحكم الأقلیة هي فكرة الجماعیة، فمثلایسهل الدفاع عن كل من الثروة والامتیازات حینما تكون ملكیتهما مشاعاً، وما سمي بإلغاء الملكیة الخاصة الذي حدث في منتصف القرن العشرین لم یكن یعني في واقع الأمر إلا تركیز الملكیة وتجمیعها في أیدي عدد أقل من ذي قبل، ولكن مع وجود فارق واحد بسیط ألا وهو أن المالكین الجدد قد أصبحوا مجموعة موحدة لا أفرادا متفرقین، فعلى الصعید الفردي لا یمتلك أي من أعضاء الحزب شیئاً، ما عدا بعض الممتلكات الشخصیة التافهة. أما على الصعید الجماعي فإن الحزب یملك كل شيء في أوقیانیا لأنه یهیمن على كل شيء ویتصرف في الإنتاج حسبما یراه مناسباًلمصلحته. وقد تمكن الحزب في السنوات التي تلت الثورة منالقفز إلى هذا المركز القیادي، وأصبح بلا منازع تقریباً، وذلك لأن العملیة برمتها قد قدمت باعتبارها عمل جماعي.

لقد كان یفترض دائماً أنه إذا انتزعت أملاك الرأسمالیین فإن الاشتراكیة ستعقب عتز ذلك: وقد حدث فعلاً أن جِّرد الرأسمالیون من ممتلكاتهم، فانتمنهم المصانع والمناجم والأراضي الزراعیة والعقارات ووسائل النقل، ولأن هذه الأشیاء لم تعد ممتلكات فردیة،

فقد كان من الواجب أن تصبع ممتلكات عامة. أما الانجسوك والتي خرجت من عباءة الحركة الاشتراكیة القدیمة وورثت عنها خطابها الأیدیولوجي، فإنها نفذت في الواقع جوهر البرنامج الاشتراكي وهو ما أدى إلى ما خطط له الحزب مسبقًا ألا وهو أن انعدام المساواة أصبح واقعاً مكرساً .

لكن مشكلة تكریس المجتمع الطبقي تظل أعمق وأشد تعقیدا، إذ لیس هنالك غیر أربع طرق لإزاحة فئة حاكمة عن سدة الحكم، فإما أن یتم قهرها من قبل عدو خارجي، أو أن تحكم بطریقة تعوزها الكفاءة وهو ما یدفع الجماهیر للثورة، أو تسمح لمجموعة من الطبقة الوسطى القویة والساخطة بالتشكل والظهور، أو تتزعزع ثقتها بذاتها وتفقد الإرادة في الحكم.

ولا تعمل هذه الأسباب منفصلة بعضها عن بعض، فغالباً ما تجتمع معاً بدرجة أو أخرى. ومن ثم فإن الطبقة الحاكمة التي تستطیع حمایة نفسها من هذه الأسباب جمیعها فإنها تضمن التربع على سدة الحكم مدى الحیاة.

ولذلك یظل العامل الحاسم في نهایة المطاف هو الحالة ّالفكریة والعقلیة وكیفیة تصرف الطبقة الحاكمة ذاتها.
وبعد منتصف القرن العشرین زال الخطر وبات یتعذر قهر أي من القوى الثلاث التي تتقاسم العالم الآن والتي لم یعد بالإمكان قهرها إلا عبر ما یسمى بالتغیرات الدیموغرافیة والتي بوسع أي حكومة تتمتع بسلطات واسعة أن تتلافاها بسهولة. أما الخطر الثاني فهو نظري فقط، فالجماهیر لا تثور من تلقاء ذاتها مطلقاً، كما أنها لا تثور لمجرد تعرضها للاضطهاد، وما لم تتع لها إمكانیة المقارنة بین أوضاعها الراهنة وبین أوضاع أخرى، فإنها لن تدرك أبداًحقیقة كونها مضطهدة. إن الأزمات الاقتصادیة التي كانت تتكرر في العصور القدیمة لم یكن لها ما یبررها على الإطلاق، أما في ًأیامنا هذه فلا یسمح لها بالحدوث أصلا، بید أن هنالك أشكال خلل أخرى لا تقل عن ذلك خطراً وإن كانت لا تصحبها نتائج سیاسیة وذلك لأنه لا سبیل أماًم الناس للتعبیر عن استیائهم. أما فیما یخص مشكلة فائض الإنتاج التي ظهرت في مجتمعنا منذ اختراع الآلة فقد أمكن علاجها من خلال الحروب الدائمة (انظر الفصل الثالث)، والتي تفید أیضاً في الإبقاء على الروح المعنویة العامة
عند الحد المطلوب. وهكذا فإن الخطر الحقیقي والوحید من وجهة نظر حكامنا الحالیین یكمن في إمكانیة انشطار فئة جدیدة من أناس لدیهم الكفاءة اللازمة وطاقة فائضة ومتعطشین إلى السلطة وانتشار روح لیبرالیة تحرریة ونمو نوازع شكوكیة بین صفوفهم، ومن هنا یتبین أن الإشكالیة إشكالیة تثقیفیة الطابع. إنها مشكلة صیاغة وعي كل من الفئة المسیطرة والفئة الأخرى الأكبر التي تلیها مباشرة في الأهمیة والتي تتولى تنفیذ ما تعهد إلیه بها الفئة المسیطرة.

أما وعي الجماهیر فیجب التأثیر علیه بشكل سلبي.ومما تقدم یستطیع المرء أن یستكنه، إن لم یكن یعرف بالفعل، التركیبة العامة لمجتمع أوقیانیا، فعلى قمة الهرم یأتي الأخ الكبیر وهو معصوم عن الخطأ ویتمتع بقدرة مطلقة، وكل نجاح وكل إنجاز وكل انتصار وكل اكتشاف علمي ینسب إلیه، كما أن كل معرفة وكل حكمة وكل سعادة وفضیلة إنما یعزى الفضل فیها مباسرة إلى قیادته الرشیدة الملهمة. ولم یحدث أن رأى أحد الأخ الكبیر، فهو وجه مطبوع على لوحة أو صوت یصدر عن شاشة الرصد، ویمكننا أن نكون على درجة قویة من الیقین بأنه لن یموت كما أن هنالك حالة من الشك تحوم بالفعل حول تاریخ مولده، إنه الشكل الذي اختار الحزب أن یظهر به أمام أعین العالم. وأما دوره فهو أن یكون جماع الحب والخوف والتبجیل، وهي مشاعر یسهل على الفرد أن یحسها نحو فرد آخر لا نحو منظمة ما. وبعد الأخ الكبیر یأتي الحزب الداخلي الذي لا یزید عدد أعضائه على ستة ملایین أو أقل من 2% من سكان أوقیانیا. ثم بعد ذلك یأتي الحزب الخارجي والذي إذا جاز لفا وصف الحزب الداخلي بأنه العقل المفكر للدولة، فإن الحزب الخارجي هو الأیدي العاملة فیها. وفي أسفل الهرم تأتي الجماهیر الصماء التي ألفنا أن نسمیها «البرولیتاریا» والتي تمثل ما نسبته 85% من مجموع سكان أوقیانیا.

وحسب تصنیفاتنا السابقة، فإن العامة هم الطبقة الدنیا لأن سكان المناطق الاستوائیة المستعبدین، الذین تتداولهم أیدي الغزاة، لا یمثلون مكوناً أساسیًا وضروریاً في تركیبة المجتمع.وبصفة عامة فإن عضویة هذه الطبقات الثلاث لیست وراثیة، فالطفل الذي یولد لأبوین من أعضاء الحزب الداخلي لا یكتسب هذه العضویة تلقائیاً، ذلك أن القبول في أي من أجنحة الحزب الثلاثة یتحدد عبر اختبار یُجرى للمرء وهو في السادسة عشرة، كما انه لا یسمح بحصول أي تمییز عنصري أو بهیمنة مقاطعة على أخرى، ولذلك ترى الیهود والزنوج وسكان أمریكا الجنوبیة ذوي الأصول الهندیة یشغلون أرفع المناصب بالحزب، ومن بین ًهؤلاء یجري دائما اختیار حكام الأقالیم.

ولا یشعر سكان أي إقلیم َفي أوقیانا بأنهم مستعمرون أو أن شؤونهم تدار من قبل عاصمة بعیدة، فأوقیانیا بلا عاصمة، ورئیسها الفخري لا یعرف أحد مكانه. ولیس في أوقیانیا أي شكل من أشكال المركزیة باستثناء أن الإنجلیزیة هي اللغة الرئیسیة واللغة الجدیدة هي اللغة الرسمیة. أما حكامها فلا تجمعهم آصرة دم بل یجمعهم الولاء لعقیدة مشتركة. نعم إن مجتمعنا ینتظم طبقة فوق طبقة بشكل صارم فیما یبدو للوهلة الأولى وكأنه یرتكز على أسس وراثیة، وأضحى نادراً في مجتمعنا أن یحدث حراك بین الطبقات مثلما كان الحال في ظل الرأسمالیة أو حتى في عصر ما قبل التصنیع. وفیما بین جناحي الحزب یوجد قدر معین من تبادل المقاعد بین الأعضاء ولكن بما یضمن استبعاد العناصر الضعیفة من الحزب الداخلي واستقطاب الطموحین من أعضاء الحزب الخارجي بترفیعهم إلى الحزب الداخلي. أما أفراد طبقة العامة فلا یسمع لهم في الواقع بنیل عضویة الحزب، وإذا خرج من بینهم أشخاص من ذوي المواهب الفذة والذین یمكن أن یكونوا نواة لإثارة القلاقل، فإن شرطة الفكر ًتترصدهم تمهیدا لاستئصال شأفتهم. ولكن هذه الحالة لیست بالضرورة دائمة كما أنها لیست مسألة مبدأ، فالحزب لیس طبقة بالمعنى القدیم لهذه الكلمة، ولا یهدف إلى نقل السلطة إلى أبنائه، وإذا تعدر علیه إبقاء الأشخاص الأقدر فوق قمة الهرم فإنه یصبح ًعلى أتم الاستعداد لأن یجند جیلا ًكاملا وجدیداً من بین صفوف العامة. وفي السنوات العصیبة التي مر بها الحزب كان لفكرة أن الحزب لیس بهیثة وراثیة دور كبیر في إبطال حجج المعارضة، فالاشتراكي القدیم الذي درب على النضال ضد كل ما تفوح منه رائحة «التمایز الطبقي» كان یظن أن كل ما لیس وراثیاً لا دوام له، كما لم یفطن هذا الصنف من الاشتراكین إلى أن استمرار حكم الأقلیة لا یستلزم أن یكون مادیًا، ولا هو استوقف نفسه للتفكیر في أن الأرستقراطیات الوراثیة كانت دائماً قصیرة العمر، بینما بقیت منظمات رعویة ًمثل الكنیسة الكاثولیكیة مثلا لمئات أو آلاف السنین.

إن جوهر حكم القلة لیس وراثة الابن لأبیه، وإنما هو استمراریة رؤیة للعالم وأسلوب حیاة یفرضهما الموتى على الأحیاء، وتظل الفئة الحاكمة حاكمة ما دامت قادرة على تعیین خلفائها. ولا یهتم الحزب بإبقاء سلالة بعینها وإنما یهتم بتخلید مبادئه، فلیس مهماً َمن یتولى السلطة طالما أن التركیب الهرمي للمجتمع لن یمس وسیظل على ما هو علیه.
ومن هنا فإن جمیع المعتقدات والعادات والأذواق والاتجاهات العقلیة التي تمیز عصرنا الحاضر قد حیكت بطریقة تبقي على هالة الغموض التي تظلل الحزب، كما تحول دون انكشاف الطبیعة الحقیقة لمجتمع الیوم، وهو ما یجعل التمرد أو أي خطوات تمهد له ًفي الوقت الراهن أمر ًا مستحیلا. وأما عن البرولیتاریا فلا خوف من ناحیتهم، فأفرادها، إذا ما تُركوا وشأنهم، فإنهم سیستمرون من جیل إلى جیل ومن قرن إلى قرن یعملون ویتناسلون ویموتون، لیس دون أن یكون لدیهم أدنى دافع للتمرد فحسب، بل ودون أن تكون لدیهم القدرة على إداك أن العالم یمكن أن یكون على غیر ما هو علیه الآن.

وهم لا یصبحون مصدر خطر إلا إذا بات التقدم الصناعي مرهوناً بتثقیفهم ثقافة عالیة، ولكن لأن التنافس العسكري والاقتصادي لم یعد ذا أهمیة، فإن مستوى التثقیف ًالشعبي آخذ فعلا في التدهور، بل لقد أصبع الحزب ینظر نظرة لامبالیة إلى ما تعتنقه أو ترفضه العامة من أفكار، ولا یمانع في ّمنحهم حریة فكریة طالما أنهم مجردون من القدرة على التفكیر. وأما عضو الحزب فلا یمكن التسامح حیال أبسط الانحرافات في رأیه حول أتفه الموضوعات.إن عضو الحزب یعیش من یوم مولده حتى یوم مماته تحت بصر وسمع شرطة الفكر، فحتى حینما یكون في خلوة مع نفسه لا یستطیع الجزم بانه كذلك، فأینما یكون: نائما أو مستیقظا، في عمله أو استراحته، في حمامه أو فراشه، فإنه موضوع تحت المراقبة دون أن ینبهه أحد إلى ذلك ودون أن یفطن إلى أنه تحت رقابة دقیقة. فلا شيء مما یفعل غیر هام لدى شرطة الفكر التي یرقبه عملاؤها لیل نهار، فیراقبون سلوكه إزاء زوجته وأطفاله، ویرصدون حتى الكلمات التي یتلفظ بها في نومه، وتعبیرات وجهه حینما یكون بمفرده، وحركاته المعهودة، بل ولا یفوتهم أن یفحصوا صداقاته ویراقبوه في أوقات نومه. ولیس بوسع شرطة الفكر أن تكتشف أعماله السیئة فحسب، بل یمكنها أن تكشف عن أي غرابة في أطواره مهما كانت بسیطة، أو تغیر في عاداته، أو أي لازمة عصبیة قد تكون عرضاً من أعراض صراع داخلي. كما أنه لا یملك حریة الاختیار في أي شيء، ومن ناحیة أخرى فإن تصرفاته لیست محكومة بقانون أو باي قواعد سلوكیة محددة المعالم

يتبع....

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك