رحم الله باعث النهضة الإسلامية الإمام ابن القيم الجوزية ؛ الذي نشأ وترعرع على يد الإمام اين تيميه ونهل من علمه حتى ارتبط اسمهما سويًا ، وكلما ذكر العلم ذكر الشيخان الجليلان ، وقد أسهم ابن القيم الجوزية في نهضة حركة العلم الشرعي في أرجاء المعمورة ، وقد كان رحمه الله رجلًا نقي السريرة ، قلبه عامٌر باليقين والإنابة إلى الله سبحانه تعالى ، ولا يخلو من الزهد والصلاح.النشأة والميلاد :
ولد أبو عبدالله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حزير الزرعي الدمشقي ، الشهير بابن القيم الجوزية ، في اليوم السابع من شهر صفر سنة ستمائة وواحد وتسعين من هجرة النبي محمد صلّ الله عليه وسلم ، في بيت علم وفضل وصلاح وتقوى ؛ فوالده الشيخ الصالح العابد الناسك أبو بكر ابن أيوب الزراعي كان قيمًا (ناظرًا) على المدرسة الجوزية بدمشق مدة من الزمن ، فقيل له : (قيم الجوزية) ، واشتهر ذريته وأحفاده بانتسابهم لهذا الاسم ، ولهذا صار إمامنًا يدعى بابن قيم الجوزية .أخلاقه وعبادته:
كان ابن قيم الجوزية حسن الخلق ، لطيف المعاشرة ، طيب الهمة ، معدودًا من الأكابر في السمت والصلاح والتهجد والتعبد ، فقد كان ينصح طلابه قائلًا : من أساء إليك ثم جاء يعتذر من إساءته ، فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته حقًا كانت أو باطلًا ، وتكل سريرته إلى الله تعالى ، كما فعل رسول الله صلّ الله عليه وسلم في المنافقين الذين تخلفوا عنه في الغزو، فلما قدم جاءوا يعتذرون إليه ، فقبل أعذارهم ، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى.وكان ابن القيم زاهدًا في الدنيا ، محتقرًا لها ، فقد تلاشت عنده مظاهرها الزائفة ، بعد أن تجلت حقيقتها وعلم أنها فناء ، فكان دائما يقول : ما عند الله خير وأبقى ، وكان إذا صلى الصبح جلس مكانه يذكر الله عزوجل حتى يتعالى النهار ، ويقول هذه غدوتي ، لو لم أقعدها سقطت قواي.طلبه للعلم :
في رحب هذا الجو العلمي العطر نشأ ابن القيم الجوزية ، يتقلب بين جوانب العلم تعلمًا وتعليمًا ، فصار مع أتاه الله من فكٍر وقاد ، وحافظٍة قوية مذهلة ، وإطلاٍع مدهش فريد ، نابغة ملأت الأفاق ، وتراثًا ازدانت به المكتبة الإسلامية والمحافل العلمية ، وقد ورث ابن القيم العلم عن أبيه ، وكذلك ورث عنه أبنائه عبدالله الذي تسلم التدريس بالمدرسة الصدرية ، وإبراهيم الذي أبدع في النحو وشرح ألفية ابن مالك.كان ابن القيم موهبة متحركة تنبض بالعقل الواسع والفكر الخصب ، وكان يملك الرغبة في تحصيل العلم منذ الصغر ، فقد كان يزاحم على حلقات الدرس والعلم منذ نعومة أظافره بروح متعطشة ، فينهل من كل عالم متخصص ، وكان من شيوخه الشهاب العابر ، وأبو الفتح البعلبكي .كما كان ابن القيم شغوفًا مولعًا باقتناء الكتب النفيسة فاقتنى ما لا يحصى ، وما لم يحصل لغيره ، وكان لا يبخل بإعارتها لأي طالب علم ، لقد تلقى ابن القيم كافة علوم الشريعة ، فدرس التوحيد ، وعلم الكلام ، والتفسير والحديث ، والفقه وأصوله والفرائض واللغة والنحو وغيرها على يد علماء عصره المتفننين في علوم الإسلام ، وبرع هو فيها وعلا كعبه وفاق الأقرانفي صحبة ابن تيمية :
لازم ابن القيم شيخ الإسلام ابن تيمية ملازمًة تامًة منذ عودته من مصر سنة 712هـ وحتى وفاته سنة 728 ، وهو إذ ذاك في ريعان شبابه ، وذروة قوته ، واكتمال مداركه فنهل من فيض علمه الواسع ، وقد كان لهذه الصحبة المباركة التي دامت ستة عشرة عاما الأثر البالغ على ابن القيم في تكوين اتجاهه الفكري ، وتغذية مواهبه حتى صار أبرع تلاميذه وألمعهم نجمًا ، وأجلاهم أسمًا ، فلا يكاد يذكر ابن تيمية إلا وذكر معه تلميذه ابن قيم الجوزية.لقد أخذ ابن القيم من شيخه دعوته إلى التمسك بكتاب الله تعالى الكريم ، وسنة رسوله الصحيحة ، والاعتصام بهما ، وتجديد معالم الدين الصحيح ، وتنقيته من البدع والخرافات ، وقد رافق الشيخ ابن تيميه منذ ملازمته له حتى حين وفاته ، حتى أنه حبس معه في القلعة منفردًا عنه لمناصرته إياه ولم يفرج عنه إلا بعد وفاة ابن تيمية .أعماله ومؤلفاته:
ارتبطت حياة ابن قيم الجوزية العملية بحياته العلمية ارتباط الروح بالبدن ، فلم تخرج أعماله عن محيط العلم وخدمته ، فكان إمام المدرسة الجوزية ، وأول من خطب بالجامع الذي أنشأه نجم الدين بن خليخان ، كما أنه قام بالتدريس في المدرسة الصدرية ، وفي أماكن أخرى عديدة فقد كانت دمشق آنذاك عامرة بمجالس العلم وحلقاته.واشتهر ابن القيم في أمور الإفتاء والمناظرة ، فكان يفتي ويجادل ويناظر بالحق ليدحض الباطل ، وكما برع في هذا وذاك برع في التأليف ، فكان موطن القوة والجمال والجلال في حياة ابن القيم اللامعة ، فقد ملأ المكتبة الإسلامية بما يزيد عن مائة كتاب في شتى مجالات العلم ، ظل الناس ومازالوا يتجاذبونها بالقراءة والفحص والدرس ، ومن أهمها :وفاته :
انتقل ابن قيم الجوزية إلى جوار ربه عزوجل بعد حياة علمية حافلة بالإنجازات في شهر رجب عام 751هـ عن عمر يناهز الستين ، وصلى عليه بالجامع الأموي ثم بجامع جراح وتهافت الناس على تشييع جنازته حتى قال فيها الإمام ابن كثير : وقد كانت جنازته حافلة رحمه الله تعالى شهدها القضاة والأعيان والصالحون من الخاصة والعامة وتزاحم الناس على حمل نعشه ، رحم الله ذلك العليم الذي لم يترك بابًا للعلم إلا وطرقه ، وشرحه وفصله شرحًا كافيًا وافيًا للأمم كافة من بعده .