كان في زمن التابعين ثلاثة من الرجال ما عرف أهل زمانهم لهم مثيلًا ، ولا رأوا لهم ضريبًا ، كأنهم التقوا على ميعاد ؛ فتواصوا بالحق والصبر ، وتعاهدوا على الخير البر ، ووقفوا حياتهم على التقى والعلم ، وجعلوا أنفسهم في خدمة الله ورسوله صلَّ الله عليه وسلم وعامة المؤمنين وخاصتهم .وهؤلاء العظماء لم يكونوا إلا التابعي محمد بن سيرين بالعراق ، والتابعي القاسم بن محمد بن أبي بكر بالحجاز ، والثالث هو موضوع قصتنا اليوم وهو رجاء بن حيوة بالشام ، فتعالوا نقص هذه اللحظات المباركات في رحاب ثالث هؤلاء الأخيار :ولادته ونشأته :
ولد في بيسان من أرض فلسطين في نهاية خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وعُرِفَ عنه أنه كنِدي القبيلة ، وهي قبيلة عربية كانت مشهورة في ذلك الوقت ، كبر الصبي وطاعة الله والعلم هما شغله الشاغل منذ حداثة سنه ؛ فرزقه الله حبه وحب خلقه ، وكان إقباله على العلم منذ نعومة أظافره أثره في تمكنه منه في سنوات عمره .كان هم الصبي الأكبر هو التضلع من كتاب الله ، وكذلك التزود من حديث نبيه صلَّ الله عليه وسلم ، فكانت الاستضاءة بنور القرآن في فِكره ، والاستنارة بهدى النبوة في بصيرته ، وكانت الحكمة والموعظة هما ما امتلأ بهما صدره ، ومن يؤت الحكمة فقد أُوتي خيرًا كثيرًا .أتيح له أن ينهل من علم أجلاء الصحابة ومن أمثالهم : أبي أمامة ، وأبي الدرداء ، وعُبادة بن الصامت ، وأبي سعيد الخدري وغيرهم ؛ فكانوا مصابيح الهداية في طريقه الذي اختاره ليكمل فيه حياته ، كما كانوا مشاعل العرفان له.علاقته ببني أمية :
كانت له الكثير من الصلات بخلفاء بني أمية ، حيث كان وزيرًا لهم ابتداءً من عبد الملك بن مروان انتهاءً بعمر بن عبد العزيز ، ولم يضعه في هذه المنزلة الرفيعة في قلوبهم غير رجاحة عقله ورأيه ، والصدق في اللهجة التي يتعامل بها معهم ، والإخلاص في نيَّته ، وحكمته في معالجة الأمور .وكانت صلته بهم رحمة من الله بهم ، وجزيل إكرامه لهم ، فلم يكن يدعوهم إلا للخير وطرقه ، وإثنائهم عن الشرور وأبوابه ، وكان حريصًا على أن يريهم الحق ويزَّين لهم إتباعه ، ويبصَّرهم الباطل ويكرِّه لهم إتيانه ، فكان ينصحهم لله ولرسوله صلَّ الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامَّتهم .من المواقف التي سطرت له :
من هذه المواقف التي يذكرها له التاريخ والتي أنقذ فيها حياة انسان ، أنه في خلافة عبد الملك بن مروان وبينما هم جلوس في إحدى مجالسه ، إذ ذُكِرَ رجلًا وُصِفَ بسوء الطوية لبني أمية ، فظل الواشي يذكر أفعال وأقوال لذاك الرجل حتى أثار حفيظة عبد الملك بن مروان ؛ فتوعده توعدًا شديدًا .ولم يمر الوقت حتى مكَّنه الله من الرجل ، وسيق إليه سوقًا ، وما إن رآه الخليفة حتى همَّ بتنفيذ الوعيد ؛ فهب الناصح الأمين لبني أمية ونصحه بالعفو عن الرجل ، وذكره أن الله هو من صنع له هذه القدرة .فكانت نصيحته أن يرد النعمة بشكرها عن طريق العفو عن ذاك الرجل ؛ فما إن سمع الخليفة هذه الكلمات حتى هدأت نفسه ، وذهب غضبه ، وعفا عن الرجل وأكرمه ، هذا ما كان من شأنه في خلافة عبد الملك بن مروان ، ولكن ما إن أصبح سليمان بن عبد الملك الخليفة حتى قرَّبه منه ، وجعل له شأنًا يفوق شأنه عند سابقيه ، فكان يثق به ثقة كبيرة ، ويعتمد عليه اعتمادًا شديدًا ، ويأخذ رأيه في أغلب أمره .موقفه مع ولاية عهد الملك سليمان بن عبدالملك :
ومواقفه مع سليمان بن عبد الملك كثيرة مثيرة ، ولكن أكبر مواقفه وأعظمها تأثيرًا على الإسلام والمسلمين هو الموقف الذي اتخذ في أمور ولاية العهد ، وأثر ذلك على مبايعة الخليفة لعمر بن عبد العزيز ، حيث دخل عليه في ذلك الوقت الذي كان به موعوكًا ووجده يكتب كتابًا فسأله عن ذلك .فما كان من الخليفة غير قوله أن ذلك الكتاب ما هو إلا مبايعته لأبنه أيوب ، قأقنعه عن العدول عن مبايعة ابنه الذي لم يبلغ الحُلم بعد ولم يُعلم بعد إن كان صالحًا أم طالحًا .اقتنع الخليفة بهذه الكلمات الصادقة ، ولكن بعد أيام استدعاه الخليفة مستشيرًا له في مبايعة ابنه داود ، والذي كان في الحرب لا أحد يعلم أهو حي أم ميت ؛ فجعله يعدل أيضًا عن ابنه الثاني ، وعندما سأله الخليفة عن رأيه ؛ فاقترح عليه مبايعة عمر بن عبد العزيز ، حيث قال له : ما علمته إلا فاضلًا ، كاملًا ، غافلًا ، ديَّنًا ؛ فما كان من الخليفة إلا أن بايع أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ، فكانت بيعة جدد الله فيها الإسلام شبابه ورفع للدين منارة .وفاته :
وتُوفي التابعي الجليل والفقيه ذو الرأي الرشيد في سنة 112هـ ، فعليه من الله رحمة واسعة ، وجمعنا به وبنبينا الكريم صلَّ الله عليه وسلم في جنات النعيم .