حرص ذات يوم رجلًا على استكمال شطر دينه خصوصًا وقد تحرر من الرق ، وأصبحت لديه حرفة يتقنها وهي صناعة القدور مما جعل عمله يجلب له الخير والربح الكثير ، وكان قد اختار مولاة لأمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله عنه وكانت تدعى صفية لتصبح زوجته .قصة زواج والد محمد بن سيرين من أمه :
ولم يكن ذلك الرجل إلا سيرين ، ولم تكن هذه المولاة إلا صفية التي لم تكن واحدة من نساء المدينة عرفتها إلا وأحبتها وكانت من أشد الناس حبًا لها هن أمهات المؤمنين ولاسيما السيدة عائشة رضي الله عنها ، فقد عُرفَ عنها ذكاء الفؤاد ، وكرم الشمائل ، ونبل الخصال ، كمل عُرِفَ عنها أنها في ذلك الوقت كانت في بواكير الشباب ومضيئة الوجه .تقدم إلى أمير المؤمنين رضي الله عنه لكي يخطبها منه ، ولم يكن من أمير المؤمنين إلا أن بدأ في البحث عن دين الخاطب وخلقه ، كما يبادر الأب الحاني للبحث عن حال خاطب ابنته ، وكانت صفية تحتل من نفسه منزلة الولد من أبيه ؛ فكان يعاملها كأمانة أودعها الله في عنقه .مضى أمير المؤمنين رضي الله عنه يسأل هنا وهناك عن أحوال الخاطب ، ويتتبع سيرته بدقة شديدة ، وكان في مقدمة من سألهم هو أنس بن مالك رضي الله عنه ؛ فهو من حرر ذلك الخاطب الذي لم يقل في حقه إلا كل خير من صحة الدين ، وطيب الخلق ، ووفرة المروءة ، وشجع أمير المؤمنين رضي الله عنه على تزويجها له .وافق أمير المؤمنين على ذلك الزواج ، وحضر أملاكها طائفة كبيرة من كِرام الصحابة ، وكان فيهم ثمانية عشر بدريًا ، ودعا لها كاتب وحي رسول الله صلَّ الله عليه وسلم ، وطيَّبتها وزينتها ثلاث من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وتم زفافها على زوجها ، وكانت من ثمرات هذا الزواج المبارك هو رزقهما بغلام أصبح بعد عقدين من مولده علمًا من أعلام التابعين ورجلًا من أفذاذ المسلمين .مولد محمد بن سيرين :
ولد ذلك الطفل في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وكانت تربيته في بيت عُرِفَ عنه الورع والتقى ، وعندما أصبح يافعًا أتجه إلى مسجد الرسول صلَّ الله عليه وسلم فوجده عامرًا بمن تبقى من الصحابة الكرام وكبار التابعين رضي الله عنهم جميعًا ، اسمه كاملًا أبوبكر محمد بن سيرين البصري .تعليمه ونشأته على يد الصحابة وكبار التابعين :
أقبل الغلام عليهم إقبال النظامي على المورد العذب فأخذ ينهل من علمهم الغزير بكتاب الله ودينه وأحاديث رسول الله صلَّ الله عليه وسلم ، ودام ذلك حتى انتقلت العائلة إلى البصرة للإقامة بها ، والتي لم تكن حينها إلا مدينة شابة بِكرًا .حياته الجديدة بالبصرة :
كانت حياته في البصرة مليئة بالكد والتعب في كل المناحي التي اتخذها لحياته ، فكان إذا انبلج الفجر يذهب إلى مسجد البصرى يُعلِّم ويتعلم ، وعند ارتفاع النهار يذهب إلى السوق للبيع والشراء ، وإذا أسدل الليل أستاره كان يصف في محراب بيته ، وينحني على القرآن يقرأه ويبكي حتى يشفق عليه أهله وجيرانه الأدنون منه .ورعه :
كان لا يفتأ يُذكر الناس بربهم ، ويرشدهم إلى ما يقربهم منه ، وبينما هم غافلون في تجارتهم كان إذا رآه الناس في السوق حيث يقوم بعمله ، انتبهوا ، وذكروا الله عزَّوجل ، وبدأت ألسنتهم تلهج بالتكبير والتهليل ؛ فكانت سيرته العملية خير مرشد للناس ، ومن ورعه أنه سمع أحد الناس يسب الحجاج بن يوسف بعد وفاته فقال له : صه يا ابن أخي ، فإن الحجاج مضى إلى ربه ، وإنك حين تقدم على الله عزوجل ستجد أن أحقر ذنب ارتكبته في الدنيا أشد على نفسك من أعظم ذنب اجترحه الحجاج ، فلكل منكما يومئذ شأن يغنيه ، واعلم يا ابن أخي أن الله عز وجل سوف يقتص من الحجاج لمن ظلمهم كما سيقتص للحجاج ممن يظلمونه ، فلا تشغلن نفسك بعد اليوم بسب أحد .ابتلاء الله له ودخوله السجن :
وشاء الله عزَّوجل أن يُمتحن في دينه وفي صبره ؛ فتعرض لما يتعرض له المؤمنون من المحن ، ففي ذات مرة اشترى زيتًا بأربعين ألفًا مؤجلة ، وعندما فتح أحد الأوعية وجد فيه فأرًا ميتًا متفسخًا ، فقال في نفسه : إن الزيت كله كان في ذات المعصرة ، وإن النجاسة ليست خاصة .ولما قرر أن يرد الزيت لصاحبه فكر أنه إذا رده بذلك العيب من الممكن أن يبيعه الرجل للناس ، ونتيجة لهذه المحنة الشديدة وبعد شكوى الرجل للوالي بعد عدم مقدرته على سداد الدين تم سجنه حتى يستطيع السداد ، وعندما طال مكوثه بذاك السجن أشفق عليه السجَّان لِما رأى منه من شدة التقى والورع ؛ فاقترح عليه أن يذهب كل ليلة لكي يبيت بمنزله ويرجع في الصباح ، لكن رفض رفضًا شديدًا وقال له : لا أعينك على خيانة ولي الأمر أبدًا .وفاته :
عاش الشيخ الجليل وأحد فقهاء التابعين حتى أراد له الله عزَّوجل أن ينتقل من هذه الدنيا خفيف الأحمال من أعبائها كثير الزاد لما بعدها فعاش حتى بلغ السابعة والسبعين من عمره فجزاه الله عنَّا خيرًا ورحمه الله رحمة واسعة .