قصة واقعية ، حدثت بالفعل في لبنان ، أثناء فترة الاحتلال الفرنسي ، ومن القصة حكمة وموعظة لأولي الألباب ، وتروى القصة كالآتي :الاستشفاء في بيروت :
اضطرتني ظروفي الصحية على دخول أحد المستشفيات في بيروت ، لإجراء الفحوص الطبية خلال صيف سنة 1972م ، وقد حرصت على كتمان أمر استشفائي ، ولكن الأخبار السيئة لا تلبث أن تنتشر بسرعة ، أما الأخبار الحسنة فلا تنتشر إلا بصعوبة .هدية وكلمة لطيفة :
وعادني قسم من أصدقائي معاتبين ، وكان معهم هدايا تقدم عادة للمرضى ، كالورود والحلوى ، وكان جيراني من المرضى قسم من الضباط المتقاعدين وغير المتقاعدين ، فآثرت أن أتعرف بهم وأزورهم وأواسيهم ، وكان سبيلي إلى ذلك تقديم قسم مما كان لديّ من حلوى وزهور إليهم ، وتقديم البقية من الهدايا إلى الممرضين ، ومع كل هدية كلمة لطيفة أتمنى لهم الشفاء العاجل وأعدهم بزيارة قريبة .ضابط لا ينام :
وحرصت أن أبعث بأكبر باقة من باقات الزهور إلى ضابط لا ينام الليل ، ولا أحدًا ينام منه ، وحين سألتني الممرضة : ألك معرفة سابقة به ؟ قلت : لا ولكنه لا ينام الليل ، ولا يتركني أنام ، فلعله يحن على نفسه ويرفق بي بعد استلام هديتي .قالت الممرضة : هيهات …! وعلمت منها أنه في المستشفى منذ شهور ، وهو زبون دائمي للمستشفى ، لا يخرج منه أيامًا ليمكث بين أهله ، إلا ويعود إليه شهورًا ليمكث فيه… وقالت : ولكن الظاهر أنه سينتهي قريبًا فيريح ويستريح .الكولونيل :
وزرت العقيد المريض ، وكان يسمي نفسه : الكولونيل ، وكان أهله يسمونه : بالكولونيل ، وكان الأطباء والممرضون والممرضات يسمونه : الكولونيل ، كان ضابطًا قديمًا ، عمل في الشرطة الفرنسية ، يوم كان الفرنسيون يحتلون لبنان ، ولم تكن المصطلحات العسكرية قد عربت ، وكانت المصطلحات الفرنسية هي السائدة ، وكانت المصطلحات العربية هي المسودة .العقيد المريض :
كان عقله حاضرًا ، وكان منطقه سليمًا ، وكانت ذاكرته واعية ، وكان قلبه ينبض ، وهذا كل ما بقيّ له في الحياة ، أمراضه التي ابتلى بها كثيرة : الضغط ، والسكر ، وتصلب الشرايين ، وتسمم الدم ، وتلف الكبد والكلى ، وتهرى لحم الرجلين والجسم .. الخ .كان يصحو نهارًا ، حتى ليخيل إليك أنه معافى ، ولكنه كان ينهار ليلاً ، حتى ليخيل إليك أنه يعيش ساعات الليل ، وكان في الليل يصرخ من الألم تارة ، ويصرخ طالبًا أحد الممرضين والممرضات تارة أخرى ، وكان يستعمل سلاحين في صراخه : صوته ، والجرس الكهربائي .العقيد بالليل :
فإذا جاء الممرض والممرضة ، لم يجدوا عنده مطلبًا ، فيعودون من حيث أتوا ، ولكن لا يكادون يصلون إلى مكانهم حتى يستدعيهم العقيد مرة ثانية وثالثة ورابعة .. وهكذا حتى تشرق الشمس ، وكان إذا خفت صوته ، يستعمل الجرس الكهربائي ، فيضعه في جيبه ضاغطًا على زره بإلحاح شديد ، وتبقى يده على زر الجرس حتى بعد قدوم الممرض أو الممرضة .كان يريد أن تبقى الممرضة معه الليل كله ، وكان يريد أن يبقى الممرض الليل كله ، فإذا بقيا تلبية لطلبه نسيا بعد لحظات وجودهما في غرفته ، وانطلق ينادي ، وانطلق جرسه يرن .قصة العقيد :
وحين زرته أجهش بالبكاء ، وحدثني بقصته ، فقال كنت في شرطة الفرنسيين ، وكنت برتبة كولونيل ، أقود الشرطة المحلية ، وكانت بيروت تخافني ، وكان اسمي يخيف أشجع الشجعان ، وكان الفرنسيون يعتمدون عليّ ، وكنت أخلص لهم كل الإخلاص ، وكنت أؤدي واجبي على أحسن ما يرام ، فإذا عجز الفرنسيون عن اكتشاف جريمة من الجرائم ، أحضروا المتهم إليّ ، فكنت أستخلص منه الاعترافات بالقوة !التعذيب :
كنت لا أرحم أحدًا ، وكنت أمارس أنواع التعذيب ، وكان المجرمون ينهارون ويعترفون بما أريد وبما أراد الفرنسيون ، فيساقون إلى المحاكم لينالوا ما يستحقونه من العقاب ، ومضى يسرد على مسامعي أربعة وثمانين نوعًا من أنواع التعذيب ، كان يمارسها مع المتهمين ، فاقشعر بدني من هول سرده وتعذيبه .عذاب الله :
ثم قال : وما أعانيه اليوم عذاب الله ، فقد سقت إلى المحاكم كثيرًا من الأبرياء ، وعذبت كثيرًا من الصالحين ، إرضاء لأسيادي الفرنسيين ، مضى الفرنسيون بغير رجعة ، وبقي العقيد تلاحقه اللعنات.الضحايا والانتقام والليل :
حتى زوجته وأولاده وأقاربه ، لا يحبونه ويتمنون من الله أن يموت ، لأنه يعذبهم بصراخه المستمر ، ولكنه يعذب نفسه أكثر من الآخرين ! رحل أسياده وبقيّ مكروهًا من الناس ، مكروهًا من أهله ، كان يعذب ضحاياه بالليل ، ويعذبه الله في الليل أيضًا .وكانت أعضاء المعذبين تتساقط من تعذيبه ، واليوم تتساقط أعضاءه عضوًا عضوًا ، أبقى الله لسانه ، ليحدث الناس عن أعماله الإجرامية ، وأبقى ذاكرته واعية ، ليعدد على الناس ما اقترف من آثام ، وأبقى عقله حاضرًا ، ليتذكر ويندم ، ولآت ساعة مندم ، وأبقى قلبه ينبض ، حتى يتحمل عذاب الدنيا ، ولعذاب الآخرة أشد وأقسى.العبرة والموعظة في كتاب الله :
هل يعتبر الناس ؟! قال الله تعالى في كتابه الكريم : بسم الله الرحمن الرحيم (وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ) صدق الله العظيم .