لقد أصبح الوفاء عملة نادرة في هذا الزمان ، فكم من صديق باع صديقه وكم من رجل ترك زوجته وأبنائه من أجل أخرى ، وكم من امرأة انعدم من قلبها الوفاء ، وكم من ابن عق والديه ولم يكن وفيًا معهم ، ولكن كما يعاني المجتمع من هؤلاء ، أحيانًا تشرق في جوانبه بارقة أمل لتجعل النادر ممكن ومتاح .في قصة اليوم وفاء من نوع أخر وفاء حتى بعد الموت ، فقد كان الدكتور عبد الله عابد شيخ أحد أعضاء هيئة التدريس بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن في الظهران ، يعيش مع زوجته الطبيبة حياة سعيدة وهانئة ، حيث رزقهما الله بطفلين وأنعم عليهما بالرزق والمال .فجمعهما منزل واحد رسموا به الأحلام وخططوا فيه للمستقبل ، وعاهدوا الحب ألا فراق ولكن لم تطل فرحتهما بهذا العش الهانئ ، فقد أصاب زوجته الطبيبة مرض عضال عانت من شدته وفارقت الحياة على أثره ، لقد انتقلت إلى بارئها وتركته وحيدًا يلاحق الألام ويحقق الأحلام التي شيداها معًا ولكن بدونها .كانت الأيام تمر ثقيلة والزمن لا يكاد يسير ، وقد مرت على الدكتور عبدالله لحظات شديدة الصعوبة ، بعد وفاة رفيقة دربه وشريكة حياته فقد كانت هي عمود المنزل ومنارة الحياة ، ولهذا اتخذ الدكتور عبدالله قراره الأول والأخير ” الوفاء حتى بعد الموت” ، لقد قطع عهدًا على نفسه بعدم الزواج من أخرى .وحرص على أن يتفرغ لتربية أبنائه ويكرس حياته لهم ولعلمه ، والعجيب أن الدكتور عبدالله لم يستعين بخادمة حتى كي تساعده في الأمر ، ولم يستقدم سائق ليلبي له مطالب منزله أو تنقلاته ، فكان يطهو الطعام بنفسه ويقوم بأمور المنزل من غسيل وتنظيف وكي .كما كان يصطحب أبنائه بنفسه من وإلى المدرسة ، فلم يرغب بالابتعاد عنهما حتى لا يشعران بالفقد ، ورغم كل الصعوبات التي واجهت الأستاذ الجامعي والأب معًا استطاع الدكتور عبدالله أن يتطور في عمله ويواصل عمل الأبحاث ونشر الدوريات .وقد أتيحت له العديد من الفرص للترقي وتولي مناصب إدارية مهمة ، ولكن رفض من أجل أبنائه هشام ونادين ، فأي وظيفة كانت ستكلفه وقتًا إضافيًا بعيدًا عن أسرته ، ولم يكن هذا قرار الرفض الوحيد في حياته فرغم محاولات أصدقائه وأقاربه لإقناعه بالزواج ، إلا أنه ظل على عهده القديم ورفض الزواج مطلقًا .وقد كان عزاءه الوحيد في طفليه اللذان يكبران أمام عينه يومًا بعد يوم ، مرت أكثر من ستة عشر عاًما والأطفال أصبحوا شبابًا ، كل شيء تيسر الآن لم يعد هناك صعبًا ، وجد الدكتور عبدالله في أولاده رفاقًا جدد يحلم معهم بالمستقبل ، فكانوا له أصدقاء قبل أن يكونوا أبناء .لقد سقطت عن كاهله كل أعباء الماضي ، لاسيما وهو يشاهد ابنيه يكبران ويتفوقان في الدراسة كما كان هو وزوجته ، وكانت ابتسامتاهما هي الضوء الذي ينير أعماقه إن طرقت العتمة بابه في أي حين ، لقد شعر أن زوجته تركت له هديتين قبل الرحيل .فكيف يفكر بأخرى وأولاده في قلبه وزوجته في عقله لا تفارق مخيلته ، فرغم الفراق ورغم الرحيل ظل منها كل شيء جميل ، لذا اختار الدكتور عبدالله أن يكون وفيًا لذكرى الحبيبة ، ليضرب بذلك مثالًا للرجل الشرقي الأصيل ، الذي أثبت أن الوفاء عملة يمكن تداولها .فقد أثبت ابن المملكة الشرقي ، أن الحب لا يعرف الموت والوفاء لا يعرف الرحيل ، لقد تلخص بتجربته تجارب كثير من الشعوب ، وأثبت أن العرب هم أهل الوفاء ، وأن المجتمع الشرقي أكثر إنسانية ونبلًا من شعوب أخرى تتخذ من القيم شعارًا لها .