أفرغت الحرب العالمية الأولى والثانية ما في جعبة الكتاب والمؤلفين ، فخرجوا بأفكارهم علينا وأخذوا ينهلون من خضم المعاناة فجاءت كتاباتهم محملة بأوجاع الماضي وانتكاسات الحاضر ، وكان من بين هؤلاء الكتاب الألمان والانجليز وأرباب الأدب الإيطالي والفرنسي وغيرهم ، وقصة الدراجة الهوائية ومعسكر الاعتقال واحدة من القصص التي جسدت تلك الفترة .نبذة عن الكاتب:
أرمانو كفازوني أستاذ بجامعة بولونيا وواحد من الكتاب المشهورين ، من أشهر رواياته المكتبة الليلية وصوت القمر ، هذا بالإضافة إلى العديد من المؤلفات الأخرى التي نشرت له .قصة الرواية :
هناك عند مصب نهر البو الواقع في شمال شرق إيطاليا وبالتحديد في باسكارولا كان يقطن أحد سجناء الحرب العالمية الثانية ، فقد قضى من عمره عامين في معسكر الاعتقال بماوتهاوزن ، كانت الأجواء هناك معتمة والطبيعة غريبة ولم يكن يعلم أنه بداخل هذا المعسكر تحديدًا ، فلم يكن يعرفه اسمه آنذاك .وحينما انتهت الحرب كان جميع المعتقلين بالمعسكر يتضورون جوعًا ، فقد كان يقدم لهم حساء وحيد مجهول الهوية لا أحد يعرف مكوناته ، ولكن على الرغم من ذلك اعتاد هذا السجين أن يتناوله باستمتاع حتى أنه في بعض الأوقات كان يخيل له أنه رأى حبة فاصوليا بداخله .عندما دخل المعسكر كان نحيفًا ككل سكان باسكارولا وكان السجناء من حوله نحفاء أيضًا ، فاعتقد أنها سمة عامة ولم يخيل له أن هذا بسبب سوء التغذية ولكن بعد انتهاء الحرب تكشف كل ذلك ، فحتى الدجاج لم يكن يقدم في أي من معسكرات الاعتقال ، بل من الناحية العملية بعضهم لم يسمع به كطير صالح للأكل .كان البرد قارس في ماوتهاوزن ولكنه لم يلاحظ ذلك لأن باسكارولا كانت أكثر برودة ، تلك المدينة التي لم يكن لديها أي مورد اقتصادي وكان سكانها يقتاتون على صيد عدد قليل من الأسماك ، ولكن حتى أسماك باسكارولا كانت هزيلة وربما كانت تعاني هي الأخرى من الجوع .اعتاد السكان في باسكارولا على تلك الحياة الهزيلة فلم يشغلهم التفكير حول مستوى معيشتهم ولم يتطلعوا للأفضل ، كان الأطفال يأكلون المحار هناك ولكنهم لا يكبرون إلا قليلًا ، أما البيض فكان نادر وهزيل فلم يكن في باسكارولا سوى بضع دجاجات أصابها الكساح والهزال .فبينما كان يقود دراجته الهوائية في أحد الأيام من باسكارولا متجهًا إلى كوماكيو ، توقفت بجانبه سيارة جيب على متنها بعض الجنود ، وأجبروه على أن يركب معهم ويترك دراجته على الطريق ، وفي النهاية زجوا به في قطار مكتظ بالعشرات ، كان قلقًا على مصير دراجته الملقاة على قارعة الطريق ، فأخذ يسألهم عن مصيرها وهل سيعثر عليها ولكن لا أحد ممن حوله كان يجيبه .كانت الحرب العالمية الثانية مشتعلة وهو الأمر الذي لم يكن يعرفه ولكن مع الأيام اكتشف ذلك ، كانت الغلظة تسود تعاملات الناس حتى عمال السكة الحديد أنفسهم كانوا يزجون الركاب دون رفق ولم يسأله أحدهم حتى عن تذكرته في غمرة الاكتظاظ الرهيب .لم يستطع رغم كل ما حوله أن ينسى دراجته الملقاة في تلك الحفرة على قارعة الطريق ، فخلال عامين قضاهما في السجن يمكنك القول أن ضياع دراجته كان معاناته الوحيدة ، لقد كان يتساءل دومًا هل صدئت ؟ هل أفرغ أحدهم إطاراتها ؟ وكان دائمًا يراسل أقاربه ويسألهم هل وجدتم دراجتي ؟ولكن لم يصله أي جواب ، فحاول ذات مرة أن يتحدث مع حراس العسكر عن دراجته ، وسألهم إن كان من الممكن أن يخطروا مركز الشرطة في كوماكيو عن الأمر ولكنهم لم يقفوا ليستمعوا لهذا الهراء ، وفي النهاية لم يجد الرجل دراجته ولكن من يدري ماذا كان مصيرها ؟