نشأ أبو الحسن في مدينة بغداد في زمن الخليفة هارون الرّشيد . وكان أبوه غنيّاً جداً. فلمّا مات ورث منه أموالاً كثيرةً، فقسّمها قسمين متساويين، وادّخر نصف ثروته، ووقف النّصف الآخر على مسرّاته ومباهجه. فاجتمع حوله كثير من الأصحاب الذين تظاهروا له بالحب والإخلاص.
وقد أنفق عليهم نصف ثروته في زمنٍ قليلٍ. ثم تظاهر لهم بالفقر، فهجروه وامتنعوا عن زيارته.
فذهب أبو الحسن إلى أمّه باكياً، وقصّ عليها غدر أصحابه الذين هجروه لفقره. فقالت له: إنّهم لم يصاحبوك إلاّ لمالك، فلّما علموا بفقرك هجروك. فاحتفظ بالنّصف الآخر من ثروتك، وانتفع بهذا الدّرس القاسي الذي تعلّمته يا ولدي .
أقسم أبو الحسن أنّه لن يعود إلى مصاحبة رفاقه القدماء، ولن يصاحب بعد اليوم إلاّ الغرباء الذين لا يعرفهم، وعلى أن لا تدوم صحبته مع أحدٍ من النّاس أكثر من ليلةٍ واحدةٍ.
فكان يقف على الجسر وقت الغروب. فإذا رأى غريباً قادماً عليه، دعاه إلى منزله وأضافه عنده، وأكرمه طول ليلته. فإذا طلع الصبح، ودّعه وأنكره، وأبى أن يُسلّم عليه بعد ذلك أبداً. وقد أخذ نفسه بهذه الخطّة سنةً كاملةً.
وقف أبو الحسن على عادته ذات مساءٍ عند الجسر، فرأى الخليفة هارون الرّشيد، وكان قد خرج في زيّ تاجرٍ قادمٍ من الموصل ومعه خادمه. فرحّب به أبو الحسن ودعاه إلى بيته، بعد أن أخذ عليه المواثيق أن يبيت عنده ليلةً واحدةً، ثم لا يلقاه بعدها أبداً.
فعجب الخليفة، وسأله عن سبب هذا، فأخبره أبو الحسن بقصّته كلّها. فاشتدّ عجبه، وسار معه الخليفة وخادمه حتّى وصلوا إلى البيت. ورأى الخليفة مِن كَرَم أبي الحسن ما أدهشه. فسأله: ألاَ تتمنّى شيئاً يا أبا الحسن؟ فقال له: أتمنّى أن أصبح خليفة ولو ليومٍ واحدٍ، لأعاقب خمسةً من الأشرار يعيشون بالقرب من منزلي، يتدخّلون فيما لا يعنيهم، ولا يَسلُم أحدٌ من شرّهم.
ضحك الخليفة من قوله، وعزم على تحقيق أمنيته. ثم غافله ووضع دواء منوّماً في شرابه. فلم يكد يشربه حتّى نام. فأمر الخليفة خادمه أن يحمل أبا الحسن إلى قصره، ويضعه على سريره، ويلبسه ملابسه. ثم أمر كلّ مَن في قصره أن يطيعوا أبا الحسن في كلّ ما يأمرهم به، بعد أن يوهموه أنّه هو الخليفة هارون الرشيد.
لم يكد الفجر يطلع حتى أيقظوه من نومه. فدُهش أبو الحسن حين رأى نفسه في سرير الخليفة، وهو من الذّهب الإبريز، وحوله الجواري والخدم ينادونه خاشعين: عم صباحاً يا أمير المؤمنين. فظنّ أبو الحسن أنّه في حلمٍ. فلما أثبتوا له أنه يقظان، وأنّه هو نفسه، عظمت دهشته.
ثم مثل الوزير جعفر بين يديه وقال له: لقد اكتمل المجلس يا أمير المؤمنين. ثم سار معه حتّى أجلسه على عرش الخليفة، وهو حائر ذاهل من شدّة الدهشة. وكان الخليفة يراقبه من نافذةٍ عاليةٍ، وقد تملّكه السّرور والفرح.
ولم يكد أبو الحسن يجلس على العرش حتى أمر كبير الشرطة أن ينكل بأولئك الأشرار الخمسة، وأن يعاقبهم عقاباً شديداً يجعلهم عبرةً لغيرهم. كما أمره أن يعطي أم أبي الحسن كيساً فيه ألف دينار.
بعد قليل، ذهب أبو الحسن إلى غرفةٍ أخرى، فحضرت الجواري وظللن يعزفن على العود ويغنين أحسن الغناء، وهو لا يعرف: أهو في يقظةٍ أم هو حالم؟
ولمّا أقبل الّليل، وضعوا له في شرابه دواء منومّاً, فلم يكد يشربه حتى نام، فحملوه إلى بيته. ولمّا طلع الصبح، ورأى نفسه نائماً في سريره، صرخ من شدة الدّهشة والألم. فجاءته أمه وسألته عن سبب صياحه، فقال لها: ألستُ أنا أمير المؤمنين هارون الرشيد؟
فقالت له: هل جننت يا ولدي؟ أنت أبو الحسن. فقال لها: كلاّ بل أنا أمير المؤمنين.
حاولت الأم أن تسلّيه وتعيد إليه عقله، وقصّت عليه ما نزل بأعدائه من عقاب، وأحضرت له الكيس الذي أرسله إليها الخليفة أمس وفيه ألف دينار. فعرف أنّه لم يكن حالماً، وقال لأمّه: الآن أيقنتُ أنّني أنا الخليفة، وقد أمرت أمس كبير الشّرطة بضرب هؤلاء الأشرار، وإرسال هذا الكيس إليك.
حاولَت أمّه أن تقنعه بأنّه واهمٌ في ظنه، فاشتدّت ثورته وهياجه. وأقبل الجيران يسألون عن الخبر. وما كادوا يسمعون قوله إنّه الخليفة حتى اعتقدوا أنه جن. فحملوه إلى البيمارستان (المشفى) حيث قضى شهراً. ولم يخلوا سبيله إلاّ بعد أن عاد إليه رشده وقرّر لهم أنه أبو الحسن.
خرج أبو الحسن على عادته إلى جسر بغداد، فلقي الخليفة مرةً ثانيةً، وهو في زيّ تاجرٍ، فحيّاه الخليفة فلم يردّ عليه تحيّته. فظلّ الخليفة يتودّد إليه حتّى رضي عنه أبو الحسن، ودعاه إلى بيته، وأفضى إليه بما حدث له، فتألّم الخليفة لما أصابه.
ولما جاء وقت النوم، ألقى الخليفة الدواء في شراب أبي الحسن، فقام الخادم وحمله إلى القصر. وجاء الصباح فأيقظوه. ورأى نفسه في قصر الخليفة مرةً أخرى، والجواري حوله يحيينه. فارتبك أبو الحسن، وكاد يجن من الدّهشة، وخُيِّل إليه أنّه في منام. ثم غنته الجواري، وأقبلن عليه باسمات. وجاءه الوزير جعفر يحييه. فقال أبو الحسن: مَن أنا؟ أتراني حالماً؟ فقال له: أنت الخليفة هارون الرشيد.
فقال أبو الحسن لأحد الخدم: إذا كنتُ أنا في يقظةٍ، فعضّ أذني لأثق بأنني يقظان، وأتثبّت من أنّني لست في حلمٍ.
فعضّ الخادم أذنه، فصرخ أبو الحسن من شدّة الألم، وقال: الآن عرفتُ أننّي لست نائماً، وأيقنتُ أنّني لم أكن حالماً، الآن أدركتُ أنّني الخليفة هارون الرشيد.
ظلّ أبو الحسن يعجب ممّا يراه قي قصر الخليفة، وهو يتردّد في تصديق ما تراه عيناه وتسمعه أذناه. ثم صاح بأعلى صوته، وقد كاد يجنّ من شدّة الفرح: لا شك في أنّني أمير المؤمنين، ولا ريب في أنني لست أبا الحسن!
كان الخليفة يرى ذلك كلّه ويسمعه، فدخل الغرفة، وقد كاد يقع على الأرض من شدّة الضّحك.
فعرفه أبو الحسن، وأدرك حقيقة أمره، وارتمى على قدميه يقبّلهما. وفرح به الخليفة وعانقه وغمره بالهدايا والمال، واتّخذه نديماً له منذ ذلك اليوم..