أقمت في بغداد مدة من الزمن ارتاحت فيها نفسي من عناء السفر وأهواله وركنت إلى حياة الاستقرار والهدوء.
ولكن خاطراً خطر لي ذات يوم فحرك ما سكن من أشواقي إلى السفر وحبي إلى حياة الرحلة والانتقال. وكنت قد تعلمت من رحلاتي السابقة أن تعرضي للمخاطر والأهوال لم يكن إلا لأن أصحاب المراكب كانوا يتركونني فوق الجزر التي ننزل فيها ثم يواصلون رحلتهم من دوني.
لهذا السبب اشتريت سفينة سميتها
سندوبة ، وجهزتها بأحسن المعدات وأمهر البحارة، لتنقل الركاب والبضائع لحسابي، وتسير في رحلاتها بأوامري.
في أحد الأيام المشرقة الجميلة، أقلعت بنا السفينة سندوبة في أولى رحلاتها، وكان معي عدد كبير من المسافرين والتجار، فتعارفنا وأصبحنا أسرة كبيرة من الإخوان والأصدقاء نتسامر معاً، ونستمتع بالسهرات في الليالي المقمرة، ونتبادل الأحاديث والفكاهات في مرح وحب ومودة. وكنا كلما وصلنا إلى بلد أو جزيرة، ننطلق لبيع ما معنا، وشراء ما في البلد من بضائع، ثم نعود فنستقل سفينتنا ونتابع رحلتنا الموفقة بإذن الله.
وبينما كنا ذات صباح، نستمتع على ظهر السفينة بالهواء العليل وبأشعة الشمس الدافئة، إذا بربان السفينة يلاحظ تغيرا في سرعة مياه البحر، مما يدل على قرب هبوب عاصفة بحرية، فصعد إلى سارية المركب ليراقب أمواج البحر عن قرب، فإذا به يشاهد في عرض البحر قاربا صغيرا تتقاذفه الأمواج وبداخله فتى يجذف بمجذاف وحيد وقد أجهده التعب، وبجانبه فتاة أصغر منه سنا ترفع يديها بالدعاء إلى رب السماء، ودموعها تنهمر على خديها، والقارب يميل بهما يمنة ويسرة، وتهدده الأمواج العاتية بالغرق.
أسرع الربان، وأدار دفة السفينة نحو القارب الصغير وبعد محاولات صعبة وجريئة، استطعنا إنقاذ الفتى والفتاة. وقدمنا إليهما الطعام والشراب، وأعددنا لهما مكانا ارتاحا فيه بعد التعب الشديد الذي قاسياه في مغالبة الأمواج.
في المساء عندما جلسنا نتحادث ونتسامر، قصا علينا قصتهما، وعرفنا منهما أنهما شقيقان يدعيان بهاء و صفاء ، وأنهما كانا يقومان مع والدهما ورجاله برحلة بحرية حين وصلت بهم السفينة إلى جزيرة القصر المسحور . وكان في هذا القصر كنز مملوء بالأحجار الكريمة النادرة التي لا تقدر بثمن.
فلما نزل والدهما إلى الجزيرة للبحث عن هذا الكنز، فاجأه الثعبان الحارس وسد عليه طريق العودة، فتفرق البحارة من حوله وأقلعوا بالسفينة هاربين.
ولما حاول الشقيقان اللحاق بهم انكسر المجذاف، ودفعتهما الأمواج إلى وسط المحيط.
فرح الجميع بنجاة الشقيقين اللذين أصبحا محل عناية ركاب السفينة، وأحبوهما غاية الحب وفي هذه الأثناء كانت العاصفة البحرية قد مرت بسلام، ولكنها حولت طريق سفينتنا إلى جزيرة مجهولة، لم نكد نقترب منها حتى صاح الفتى والفتاة بصوت واحد: هذه هي جزيرة القصر المسحور . ثم بكيا حينما تذكرا والدهما، وانتحبا حتى رقت لهما قلوبنا. وكنت أنا أكثرهم إشفاقا وحنانا عليهم.
غادرت السفينة سندوبة ومعي العملاق عجبان والفتى بهاء ، وكلي أمل بتخليص والد الفتى والفتاة من خطر الثعبان الشرير. وسرت في الجزيرة على غير هدى، حتى وصلت إلى القصر، فشاهدته محاطاً بالأسوار العالية، وله باب كبير مقفل بسلاسل حديدية ضخمة، لا يستطيع أن يحطمها أقوى الرجال.
درت حول السور لعلي أجد فيه منفذاً إلى الداخل فلم أعثر إلا على نافذة صغيرة في أعلاه، فتعاونا نحن الثلاثة حتى استطعنا تسلق السور والدخول من النافذة.
ولما صرنا في حديقة القصر لم نجدها واسعة كما كنا نتصور، بل وجدنا في وسطها قصراً كبيراً، فتقدمنا نحوه بهدوء وحذر
وفجأة همس
بهاء
في أذني بصوت مرتعش وهو يشير إلى نافذة علوية:
ب..ب.. بابا فالتفتنا إلى حيث يشير فرأينا نافذة عريضة تغطيها شبكة من السلاسل، ويقف وراءها رجل نحيل يرتعش من الضعف والخوف.. وعلى الشجرة المقابلة للنافذة، كان يلتف ثعبان رمادي اللون، وهو يفح فحيحا مرعبا، ويكاد الشرر يتطاير من عينيه كأنه يرصد حركات فريسته قبل أن يبتعلها في جوفه الرهيب.
كان القصر مغلقا من الداخل، ولم يكن في الحديقة مكان آمن نلتجئ إليه من خطر الثعبان وفجأة لمع في ذهني خاطر أسررت به إلى العملاق
عجبان
فأسرع إلى الشجرة وأضرم في جذعها النار حتى لا يجد الثعبان سبيلا إلى النزول.. في حين أعددت قضبانا من الخشب المتين وربطتها حول
بهاء
من كل جانب، فباتت وكأنها فقص محكم لهذا الفتى الشجاع، وبذلك يتعذر على الثعبان الوصول إليه أو ابتلاعه.
وكنت قد لمحت تحت نافذة السجين صندوقاً حديدياً كبير الحجم، وغطاؤه المفتوح مُسند إلى الحائط، وبداخله بعض القش الجاف.
إتجهت نحوه وأنا أقول لصديقي عجبان : يمكننا أن نختبئ داخل هذا الصندوق الحديدي إذا فاجأنا الثعبان على حين غرة.. ولكن، ويا لهول المفاجأة! فقد كان الثعبان أسرع منا فقفز من فوق الشجرة ودخل الصندوق الذي كان على قياسه تماما.
لم تذهلني المفاجأة، بل أسرعت إلى غطاء الصندوق.. وكان والد
بهاء
يشاهد ما حدث، فأسرع يتدلى من النافذة ليمد لنا يد المساعدة بعد أن أيقن من النجاة. ولكن سوء حظه أوقعه داخل الصندوق، بينما خرج رأس الثعبان من فتحة الصندوق وهو يحاول بعنف أن يتخلص من ضغط الغطاء الحديدي على رقبته. وكان واضحا أننا لن نستطيع الصمود طويلا أمام قوة هذا الثعبان الرهيب.
وفي أحلك لحظات هذا الموقف الخطير، استطاع
بهاء
أن يتخلص من قفصه، ويسرع إلى السكين التي سقطت من يد أبيه ويتقدم في شجاعة نحو الثعبان ويضرب عنقه بها.
أسرعت و عجبان نكمل المهمة، فقتلنا الثعبان الخطير بسهولة، ثم ألقيناه بعيدا، وعدنا إلى بهاء الشجاع نساعده في العناية بوالده.
في هذه الأثناء، كان ركاب السفينة
سندوبة
وبحارتها قد اهتدوا إلى دهليز يقود إلى داخل القصر، فنفذوا منه ووصلوا إلينا في الوقت المناسب.
وقبل أن تتحرك بنا السفينة مبتعدة عن
القصر المسحور
أعلن الرجل الطيب والد بهاء أن ما حصل عليه من كنز القصر سوف يوزعه بالتساوي على الأصدقاء الأبطال
بهاء
و
صفا و
عجبان
والسندباد، وكذلك السفينة
سندوبة
.
ولم تمض أيام حتى أوصلتنا
سندوبة
إلى أرض الوطن سالمين، لنلتقي بالأهل والأصدقاء، ونستعد لرحلة جديدة مثيرة وحافلة بالمغامرات والمفاجآت.