كان لأحد البلدان سلطان، رزقه الله ولدا يحاكي البدر جمالا، يتمتع بقوة جسدية بارزة، وبذكاء فطري حاد ما ألفت إليه الأنظار. منذ نعومة أظفار، تعهده أبوه بعناية فائقة واختار له أمهر الأساتذة لتعليمه، وعين له أسرع فرسانه لتعليمه الفروسية، فأصبح في سن مبكرة أمير السيف والقلم، فأطلق عليه اسم ماهر.
خرج ماهر مع أصحابه يوماً للصيد، وأخذوا يطاردون الغزلان، فابتعد ماهر عن أصحابه وطال غيابه، بحثوا عنه لم يجدوا له أثرا، فعادوا إلى ديارهم خائبين، وأخبروا السلطان بأمر فقدان وحيده، فاستناط غضبا وأمر جنوده بأن يزرعوا الأرض طولا وعرضا حتى العثور على ماهر.
أما ماهر، فقد ترجل من جواده بجوار مغارة يتدفق منها ماء نبع عذب، وأشعل نارا وراح يشوي صيده ويأكل بأمان.. سمع صوتا منبعثا من أعماق المغارة. دخل فوجد فرسا تلد، فأخذ يساعدها حتى ولدت مهرا جميلا أسودا، وكان يزور المغارة يوميا ويعتني بالفرس والمهر. وظل على عنايته بالمهر بشكل خاص حتى كبر وأصبح جوادا مميزا يسابق الريح في جريه.
في يوم ربيعي جميل، امتطى ماهر صهوة الجواد الأسود وانطلق به نحو قصره، فلما رآه الحراس أقبلوا يقبلون يديه، وأسرعوا يخبرون السلطان بعودة ابنه المفقود، فكان اللقاء بين السلطان وابنه لقاء حارا، وسط الزغاريد وصيحات الرجال المرحبة، وأمر السلطان بإعلان يوم العودة هذا عيدا تقام فيه الاحتفالات وتعقد حلقات الرقص والغناء في كل أنحاء البلاد..
ولكن الفرح لم يدم طويلا، إذ ماتت والدة ماهر، وتزوج السلطان من امرأة حسناء صغيرة السن، ولكنها ماكرة حاسدة تكره الأمير ماهرا وتنوي له الشر، وهو بدوره كان يبادلها شعور الحقد.
وذات يوم، مرضت زوجة السلطان الماكرة، واستعصى شفاؤها على الأطباء. وبناء على إشارة منها، قال رئيس الطباخين: لن يشفيها إلا قلب الجواد الأسود . انطلت الحيلة على السلطان، فأمر وحيده بذبح الحصان، فقال ماهر: أمرك يا أبي مطاع، ولكن أرجو أن تسمح لي بركوب الجواد للمرة الأخيرة، فأجابه والده السلطان إلى ما يريد.
امتطى ماهر صهوة جواده وأطلق له العنان، فانطلق به سريعاً حتى وصل إلى أرض قعر لا ماء فيها ولا عشب. توقف الحصان وقال والدمع يترقرق في عينيه: يا صديقي الأمير، إن أباك يطلب قلبي شفاء لامرأته المخادعة، فما أنت فاعل؟ قال ماهر: أنت تعلم مكانتك عندي، وأنا لن أسلمك للذبح ولو فقدت حياتي، ومن أجلك هجرت أهلي، وسأضرب في بلاد الله الواسعة.. هنا صهل الحصان صهيلا مؤثرا، وأعطى صديقه ثلاث شعرات قائلا: إذا احتجت إلي فافرك هذه الشعرات، فتراني أمامك بسرعة البرق.. قال ذلك وتوارى عن الأنظار.
أمام هذا المشهد المثير للدهشة، وقف ماهر سابحاً في بحر من التفكير لا يستطيع تفسير ما جرى، إلا بعامل السحر.. بعد هنيهة، سار إلى حيث تقوده قدماه، فوجد رجلا فقيرا يرتدي ثيابا رثة بالية، فقال له: هل تستبدل ثيابي بيثابك ولك معها ليرة ذهبية؟ لم يصدق الفقير ما سمعت أذناه، فقبل على الفور. مر ماهر على دكان لحام، فاشترى منه كرش عجل، نظفه وجعل منه طاقية غطت رأسه، وبدا معها كالأقرع. وكان كلما مر بجماعة تطلق عليه اسم الأقرع ويناديه الناس: يا أقريعون حتى صار اسما له..
انتهى به الأمر إلى أن يعمل مزارعا في بستان لأحد سلاطين البلاد.. وفي كل مرة كان ينهي عمله اليومي في البستان، كان يخلع ثيابه ويستحم في ماء النبع الذي كان يخترق البستان.. رأته مرة ابنة السلطان من شرفة القصر يستحم، فأعجبت به وبخاصة شعره الناعم، فصارت ترسل له مع خادماتها كل يوم طعاما شهيا لم يذق مثله إلا في قصر والده، وعلم من الخادمة أن ابنة السلطان هي التي كانت ترسل له هذا الطعام.
مع الأيام، راح أقريعون يراها في زاوية شرفة القصر وهي تنظر إليه بحذر، فرآها آية من آيات الجمال، فتعلق قلبه بها.
وفي يوم من الايام، نادى المنادي في المدينة: على كل الشبان العازبين أن يمروا في باحة القصر، لأن بنات السلطان يرغبن في اختيار أزواجا لهن.. واختارت كل بنت شاب ألقت عليه منديلها، وعندما مر أقريعون ألقت بنت السلطان الصغرى منديلها عليه.
وافق السلطان على من اختارته بناته من أزواج، باستثناء من وقع اختيار ابنته الصغرى، وحاول إقناعها باختيار شاب آخر غير أقريعون، ولكنها رفضت بإصرار.. عندها أمر السلطان بطرد أقريعون من كل أراضي سلطنيته وهدده بقطع رأسه إن عاد إليها. رضخ أقريعون لأوامر السلطان، ولكنه التمس منه أن يمهله ثلاثة أيام يغادر بعدها كل أراضي السلطان.. في هذه الأثناء، أرسلت ابنة السلطان ليلا خادمتها إلى البستان ومعها ثياب نسائية، لبسها أقريعون وجاءت به إلى القصر، حيث أقام في إحدى غرفه بعيدا عن الأنظار.. وكانت ابنة السلطان تزوره في مخبإه الأمين كلما سنحت لها الفرص بذلك..
بعد أن أمضى أقريعون شهراً واحداً متخفياً، وبينما كان قابعا في غرفته السرية، جاءته محبوبته منتحبة شاحبة الوجه، خائرة القوى، فارتمت في أحضانه مجهشة بالبكاء. ذعر لما رآه وسألها عن أسباب هلعها، فقالت: لقد غزا الأعداء بيتنا وهزموا جيشنا، وأصبحت طلائعهم على مقربة من القصر، فأمسك يديها وصاح والسرور يتطاير من عينيه: لبيك يا محبوبتي، ساعة واحدة وسترين أعداءنا منهزمين.. نزل معها إلى باحة القصر وفرك الشعرات الثلاث، وإذا بجواده الأسود أمامه. يا حصاني أسعفني لرد الغزاة. فقال له الحصان: لا عليك، أمسك سيفك وستحصدهم على الجانبين ، لما رآه الغزاة هرب من أمكنه الهرب منهم.
خرج الملك والعساكر ليروا الفارس الذي هزم الغزاة، وكان أقريعون قد أصابه سهم في يده، سأله الملك: من أنت أيها الفارس؟ رد أقريعون: #8220;يدي مجروحة يا سلطان الزمان، أعطني منديلك، فلف السطان يده بمنديله واستأذن أقريعون بحجة أنه سيداوي يده وتهرب من الإجابة.
صار الفارس حديث الناس وتساءلت بنات السلطان عنه، فردت الصغرى: أنا أدلكم عليه ، أخذت أباها السلطان وأخواتها إلى دارها، فرأوا شابا بهي الطلعة ناعم الشعر نائما، ويده ملفوفة بمنديل السلطان فسألوها: من هذا؟ قالت: هذا أقريعون.
أفاق الشاب من النوم وعرفهم بما حدث له، ورضي عنه السلطان.
كشف أقريعون عن هويته، فعانقه السطان وزوجه ابنته وأقام لهما حفلة عرس لم يشهد لها ذلك الزمان مثيلا.
أما زوج أبيه الماكرة فلم تطق أن ترى ماهرا سلطانا فشربت السم وماتت جزاء حقدها وأنانيتها.