قال برزويه رأس أطباء فارس وهو الذي تولى انتساخ هذا الكتاب وترجمته من كتب الهند: إن أبي كان من المقاتلة وكانت أمي من عظماء بيوت الزمازمة وكان مما ابتدأني به ربي أني كنت من أكرم ولد أبويّ عليهما، وكان لي أشد احتفالاً منهما لسائر إخوتي، وأنهما أسلماني في تعليم الكتّاب حتى بلغت في العلم، فلما حذقت الكتابة شكرت أبويّ ونظرت في العلم، وكان أول علم رغبت فيه علم الطب فحرضت عليه حتى إذا حصّلت منه جانباً عرفت فضله وازددت عليه حرصاً وله اتباعاً. فلما بلغت فيه إلى أن أدمنت نفسي على مداواة المرضى هممت بذلك في الناس قولاً وعملاً. ولما تاقت نفسي إلى ذلك ونازعت إلى أن تغبط غيري وتتمنى منازلتهم أبيت لها إلا الخصومة وقلت: يا نفس ألا تعرفين نفعك من ضرّك، ألا تنتهين عن تمنّي ما لا يناله أحد إلا قلّ متاعه وكثر عناؤه فيه وخباله عليه واشتدّت البلية عليه عند فراقه وعظمت التبعة منه عليه بعده.
يا نفس ألا تذكرين ما بعد هذه الدار فينسيك ذلك ما تشرهين إليه من هذه الدار. ألا تستحين من مشاركة العجزة الجهّال في حب هذه العاجلة الفانية التي من كان في يده منها شيء فليس له وليس بباق معه والتي لا يألفها إلى المغترّون الغافلون. فانصرفي عن هذه النسبة وأقبلي بقوتك وما تمليكن على تقديم الخير والأجر ما استطعت، وإياك والتسويف. واذكري أن لهذا الجسد وجوداً وآفات وأنه مملوءة أخلاطاً فاسدةً قذرة يجمعها لمنافع أربعة أخلاطٍ متغالبة تغمرهن الحياة. والحياة إلى نفاذ كاللصنم المفصّلة أعضاؤه إذا ركّبت تلك الأعضاء وصنّفت في مواضعها جمعها مسمارٌ واحد يمسك بعضها على بعض، فإذا أخذ المسمار تساقطت الأوصال.
يا نفس لا تغتري بصحبة أحبائك وأخلائك ولا تحرصي على ذلك كل الحرص فإن صحبتهم على ما فيها من السرور كثيرة الأذى والأحزان، ثم يختم ذلك بعاقبة الراق. ومثله مثل المغرفة التي لا تستعمل في سخونة المرق في جدتها. فإذا انكسرت صارت عاقبة أمرها إلى أن تحرق بالنار. فأمرت نفسي وخيّرتها الأمور الأربعة التي إياها يطلب الناس وإليها يسعون فقلت: ينبغي لمثلي في مثل العلم أن يطلب أيها أفضل: المال أم اللذات أم الصّون أم أجر الآخرة.
فاستدللت على الخيار من ذلك أني وجدت الطب محموداً عند العقلاء، ولم أجده مذموماً عند أحد من أهل الأديان والملل. ووجدت في كتب الطب أن أفضل الأطباء من واظب على طبه لا يبتغي بذلك إلا أجر الآخرة. فرأيت أن أواظب على الطب ابتغاء أجر الآخرة ولا أبتغي بذلك ثمناً وأكون كالتاجر الخاسر الذي باع ياقوتة كان مصيبا بثمنها غنى الدهر بخرزة لا تساوي شيئا. مع أني قد وجدت في كتب الأولين أن الطبيب الذي يبتغي بطبه أجر الآخرة لا ينقصه ذلك من حظه في الدنيا وأن مثله في ذلك مثل الزارع الذي إنما يحرث أرضه ويعمرها ابتغاء الزرع لا ابتغاء العشب، ثم هي لا محالة نابت فيها ألوان العشب.
فأقبلت على مداواة المرضى. فلم أدع مريضا أرجو له البرء ولا آخر لا آرجو له البرء إلا أني أطمع له في خفة الوجع والأذى إلا بلغت في مداواته جهدي. ومن قدرت على القيام قمت عليه ومن لم أقدر على القيام عليه وصفت له وأمرته وأعطيته ما يتعالج به من الدواء ولم أرد على ذلك أجرة ولا مكافأة. ولم أغبط من نظرائي ومن هو مثلي في العلم وفوقي من المال والجاه أحداً لغير ذلك ممن له صلاح وحسن سيرة.
يا نفس لا يحملنك أهلك وأقاربك على جميع ما تهلكين في جمعه إرادة لصلتهم ورضاهم فإذا أنت كالدخنة الطيبة التي تحرق بالنار ويذهب بعرفها آخرون.
يا نفس لا تغتري بالغنى والمنزلة التي ينظر إليها أهلها، فإن صاحب ذلك لا يبصر صغير ما يستعظم حتى يفارقه فيكون كشعر الرأس الذي يخدمه صاحبه ما دام على الرأس فإذا فارق رأسه استقذره ونفر منه.
يا نفس داومي على مداواة المرضى ولا تقلعي عن ذلك أن تقولي للطب مؤونة شديدة والناس لها ولمنافع الطب جهال. ولكن اعتبري برجل يفرج عن رجل كربه ويستنقذه منه حتى يعود بعده إلى ما كان فيه من الروح والسعة ما أخلقه لعظم الأجر وحسن الثواب. فإن كان الذي يفعل هذا برجل واحد يرجو ذلك كله فكيف الطبيب الذي يداوي العدة التي لا يعلمها إلا الله ابتغاء الأجر، فيصيرون بعد الأوجاع والأسقام الحائة بينهم وبين الدنيا ولذتها ونعيمها وطعامها وشرابها وأزواجها وأولادها إلى أحسن ما كانوا يكونون عليه من حال دنياهم. إن هذا لخليق أن يعظم رجاؤه ويثق بحسن الثواب على عمله.
يا نفس لا يبعدن عليك أمر الأخرة فتميلي إلى العاجلة فتكوني في استعمال القليل وبيع الكثير باليسير كالتاجر الذي زعموا أنه كان له ملء بيت من الصندل فقال: إن بعته موزونا طال علي، فباعه جزافاً بأخس الأثمان.
فلما خاصمت نفسي بهذا وآخذتها به وبصّرتها إياه لم تجد عنه مذهباً فاعترفت وأقرّت ولهت عما كانت تنزع إليه، وقامت على مداواة المرضى ابتغاء أجر الآخرة. فلم يمنعني ذلك أن أصبت حظا عظيما من الملوك قبل أن آتي الهند، وبعد رجوعي إلى ما نلت من الأكفاء والإخوان فوق الذي كان طمعي فيه وتجمح إليه نفسي وفوق ما كنت له آهلا.
ثم نظرت في الطب فوجدت الطبيب لا يستطيع أن يداوي المريض من مرضه بدواء يزيل عنه داءه فلا يعود إليه أبداً وغيره من الأدواء. والداء لا يؤمن عوده أو أشد منه. ووجدت عمل الآخرة هو الذي يسلم من الأدواء كلها سلامة فلا تعود إليه بعد ذلك فاستخففت في الطب ورغبت في الدين.
فلما وقع ذلك في نفسي اشتبه علي أمر الدين ولم أجد في الطب ذكراً لشيء من الأديان ولم يدلّني على أهداها وأصوبها. ووجدت الأديان والملل كثيرة من أقوام ورثوها عن آبائهم وآخرين خائفين مكرهين عليها وآخرين يبتغون بها الدنيا ومنزلتها ومعيشتها، وكلهم يزعم أنه على صواب وهدى فاستبان لي أنهم بالهوى يحتجون وبه يتكلمون لا بالعدل. وقد وجدت آراء الناس مختلفة وأهواءهم متباينة وكلاً على كل راد وله عدو ومغتاب ولقوله مخالف.
فلما رأيت ذلك لم أجد إلى متابعة أحد منهم سبيلاً وعلمت أني إن صدّقت منهم أحدا بما لا علم لي به أكن مثل المصدق المخدوع.