لطالما شغل سر التحنيط وخفاياه العالمين العربي والغربي ، وعلينا أن نعترف بأن الأجسام الميتة التي يتم تصريفها من السوائل ولفها في البياضات والتي يمكن أن تكون باردة تقشعر لها الأبدان والعظام ، ومع ذلك فإن هذه العملية نفسها أكثر بكثير من مجرد التفاف الهيئات ، فالأمر ينطوي على فهم علمي متقدم لبيولوجيا الإنسان ، وغالباً ما يشير إلى معتقدات معقدة تحيط بالآخرة .
وهناك العديد من الثقافات التي تمتد حول العالم وتختص بممارسة التحنيط ، وعلى الرغم من أنها ممارسة ضائعة إلى حد كبير ، إلا أننا ما زلنا مفتونين بالمعرفة العلمية العميقة للشعوب التي مارست هذه الممارسة ، وتأتي أكثر طرق التحنيط تميزاً من مصر القديمة ، والتي يعود تاريخها إلى عام 3500 قبل الميلاد .
التحنيط في مصر القديمة : وفي هذه الطريقة يتم دفع قضيب معدني أولاً من خلال تجويف الأنف إلى الجمجمة ، ومن هنا يتم التلاعب بالقضيب بطريقة ما لسلت أنسجة المخ ، والتي يتم تصريفها بعد ذلك من خلال الأنف ، ثم إزالة بقية الأعضاء وتنظيف الجسم المجوف بمزيج من التوابل ونبيذ النخيل ، وبعدها يتم وضع المومياء في الملح الطبيعي ، وتُترك لتجف لمدة 40 يوماً ، وبعد جفاف الجسد يتم لفه بطبقات من الكتان .
ويقوم الكهنة بوضع التمائم لمساعدة المتوفين حديثاً في الحياة الآخرة ، كما يتم تطبيق طبقة رفيعة من الراتينج لضمان الحماية من الرطوبة ، وبعدها يتم وضع الجسم المحنط في تابوت مختوم ومغلق جيداً في قبر ، ويختلف حجم الزخرفة وأسلوب المقبرة ، والرعاية التي أخذها المتوفي أثناء عملية التحنيط على أساس الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها .
قصة أول عملية تحنيط حديثة : وعلى غرار عمليات التحنيط عند القدماء المصريين قرر عالمان أمريكيان إجراء أول عملية تحنيط حديثة لبشري منذ أكثر من 2000 عام ، وقد تم إجراء هذه التجربة في جامعة ماريلاند الأمريكية خلال عام 1994م ، وكان القائمين عليها هما مدير قسم التشريح بالجامعة د. رون واد ، وعالم المصريات في جامعة لونغايسلند د.
بوب براير ، وقد تمثلت التجربة في تحنيط جثة بشرية على نفس النهج الذي اتبعه ممارسي التحنيط قديماً .
ولكن كان للجثة المطلوبة مواصفات معينة ، فقد أرادا جثة معافاة لم يخضع صاحبها لأي عمليات جراحية ، ويخلو جسده من أي أمراض مزمنة ، وتكون لشخص متوسط الطول وهذا ما وجدوه سريعاً حيث توفرت لهم الجثة المطلوبة ، وهي لرجل عجوز مات مؤخراً بسكتة قلبية ، وهنا بدأ العمل واستخدموا أدوات مصرية خالصة كتلك التي كان يستخدمها القدماء .
بدءاً من القدور والأواني الفخرية والأدوات المعدنية والسكاكين ، حتى ملح النطرون الطبيعي وصمغ الراتنج ونبيذ الخل وزيت الصنوبر ، وغيرهم من كل متطلبات التحنيط ، وبعد توفير كل متطلبات التجربة قاما الباحثان بالبدء في عملية التحنيط مثلما كان يفعل القدماء المصريين ، من تفريغ الجسد وترك القلب وتجفيف الجسد ثم حشوه بالملح ومسحه بالزيوت المختلفة ولفه في النهاية بلفائف الكتان .
وقد استمرت العملية لأكثر من شهر ونصف ، وفي النهاية أصبحت لديهم مومياء أطلقوا عليها اسم موماب ، وها هي الآن تقبع في ناووسها الخشبي داخل متحف الإنسان بمدينة ساندييغو ، ولا أحد يعرف كم سيستمر وجودها دون تحلل وهل هكذا فعلا كانت تحنط المومياوات قديماً أم أن هناك حلقة مفقودة ، هذا ما ستثبته الأيام .
التحنيط لدى شعوب الشينشورو : وعلى الرغم من أن جميع المومياوات القديمة يمكن ربطها بالمصريين ، إلا إن أقرب دليل على التحنيط وجد بالفعل في بقايا شعوب شينشورو ، الذين كانوا يقيمون في ما تسمى الآن تشيلي ، وعلى عكس المصريين الذين حنطوا على أساس الطبقة ، عرضت شعوب شينتشورو طريقة مساواتية للحفاظ على الموتى ، وما هو أكثر إثارة للاهتمام في ذلك الأمر هو أنه على الرغم من أنهم كانوا محنكين قبل ألفي عام من المصريين ، إلا أن أساليب المصريين كانت أكثر تقدماً .
فقد كان أسلوب شينشورو للتحنيط طويلاً ، ففي البداية يتم إرخاء الجسم من الجلد واللحم والأعضاء والدماغ ، ويتم تفتيت العظام التي أصبحت مكشوفة الآن وحرقها بالرماد الساخن لإزالة أي سائل يسمح بالتحلل ، وثم يعاد تجميعها مرة أخرى للحصول على الشكل ، وبعد ذلك يتم إعادة تطبيق الجلد على الجسم مكملاً بجلد أسود البحر أو البجع كما هو مطلوب .
بعدها يتم طلاء عجينة الرماد على الجسم لضمان الاستقرار ، ويتم تغطية الوجه في قناع من الطين ، أما اللمسات الأخيرة فقد اشتملت على طلاء أسود أو مغرة يتم تطبيقها على مجمل الجسم المحنط حديثاً ، وعلى الأرجح يتم هذا لأسباب تتعلق بالمطابقة والمساواة ، ومن الغريب أنك لست بحاجة لأن تموت لتبدأ عملية التحنيط .
التحنيط الذاتي عند البوذيين : في الفترة ما بين القرنين الحادي عشر والتاسع عشر كانت مدرسة البوذية في ياماغاتا في اليابان ، والتي تدعى شينجون تضم أعضاءً كانوا يمارسون أسلوب التنوير المسمى sokushinbutsu.
، وكان الشوكو سينبوتسو من أبسط مصطلحات التحنيط الذاتي ، وقد اتبع الرهبان خلال فترة من 3 إلى 10 سنوات نظام غذائي يدعى mokujikigyō أو “أكل الشجرة”.
والدليل على ذلك مومياء الراهب البوذي لاما داشي ايتجيلوف ، الذي كان زعيماً للبوذيين في روسيا ، ففي عام 1927م توفي هذا الراهب بعد أن مارس طقس التحنيط الذاتي ، وفي عام 1973م تم إخراج جثته ، والغريب أنه كان في وضع القرفصاء ، وأعضائه مازالت طرية وسليمة كما لو كان مر على موته يومان أو أقل ، ومن وقتها تم وضع جثته في ضريح زجاجي ، وصارت مزاراً للناس .
وخلال هذا النظام الغذائي الذي اتبعه الراهب ، وعلى مدى ألف يوم لا يأكل الرهبان الذين تقدم بهم العمر ، سوى إبر الصنوبر والجوز والجذور والبراعم من الأشجار ، والتي تخلص الجسم من الدهون والعضلات حيث يقوم نظام الـموكو جيكيجيو بتأخير التحلل بعد الموت ، وذلك بعد إزالة الرهبان المواد الغذائية من وجباتهم بالكامل ، وشرب المياه المالحة فقط لمدة 100 يوم ، فتتقلص أعضائهم .
وعندما يشعر الراهب بالموت يقترب منه يقوم زملاؤه الرهبان بوضعه في صندوق من الصنوبر في قاع حفرة ، ويتم تغطية الصندوق بالفحم مع ترك قطعة خيزران صغيرة من خلال الجزء العلوي للهواء ، وبعد وفاة الراهب يتم إزالة المجرى الهوائي للمقبرة ويتم إغلاق الصندوق ، وبعد ألف يوم من ذلك يتم أعاده فتحه وفحصه بحثاً عن أدلة على حدوث انحطاط جسدي ، وإذا تم العثور على أي شئ يتم طرد الأرواح الشريرة ودفن الجسم مرة أخرى .
وهناك العديد من الثقافات الأخرى التي مارست التحنيط خارج الثلاثة المفصلة هنا ، وبما في ذلك السكان في أفريقيا ، المجر ، وأستراليا ، وهناك حتى الثقافات والأفراد الذين يمارسونها اليوم ، وفي حين أن العديد منا قد يشاهد التحنيط كأشياء من أفلام الرعب ، فإن فهم كيف ولماذا يمارس التحنيط ؟ يمكن أن يساعدنا على فهم ممارسات الدفن الخاصة بنا ، وممارسات الثقافات التي استفادت وما زالت تستخدم التحنيط اليوم .