لمّا قُبض على الخليفة العباسي القاهر وسُمِلت عيناه وأفضت الخلافة إلى الراضي، طولب القاهر بأمواله الكثيرة التي خبأها، فأنكر أن يكون عنده شيء. فأوذي وعُذِّب بأنواع من العذاب، وكل ذلك لا يزيده إلا إنكاراً. فأخذه الخليفة الراضي وقرّبه، وطالت مجالستُه إياه وإكرامه له، ولاطفه وأحسن إليه غاية الإحسان. وكان للقاهر بستان في بعض الحصون قد غرس فيه النّارنج، اشتبكت أشجاره ولاحت ثماره كالنجوم من أحمر وأصفر، وبين ذلك أنواع الرياحين والزهر، وأنواع الأطيار من الشَّحارير والببغاء مما قد جُلب إليه من الممالك والأمصار. وكان ذلك في غاية الحسن، وكان القاهر كثير الجلوس فيه. ثم إن الراضي رَفَق بالقاهر، وأعلمه بما هو فيه من حاجة إلى الأموال، وسأله أن يُسعِفه بما خبأه منها، وحلف له بالأيمان المؤكدة أنه لا يسعى في قتله ولا الإضرار به ولا بأحد من ولده. فقال له القاهر : ليس لي مال إلا في بستان النارنج. فصار الراضي معه إلى البستان، وسأله عن الموضع، فقال القاهر : قد ضاع بصري فلستُ أعرف موضعه. ولكن مُرْ بحفره فإنك تظهر على المكان. فحفر البستان، وقلع تلك الأشجار والغروس والأزهار، حتى لم يبق منه موضع إلا حفره، وبولغ من حفره فلم يجد شيئاً. فقال له الراضي : ما ههنا شيء مما ذكرتَ، فما الذي حملك على ما صنعت؟ فقال القاهر : إنما كانت حَسْرَتي على جلوسك في هذا البستان وتمتّعك به، وقد كان لَذَّتي من الدنيا، فتأسّفتُ على أن يتمتع به بعدي غيري.